عظمة التشريع القرآني بين المحرمات و المنهيات
يتكون المعيار القرآني الناظم للسلوك اﻹنساني من أربع ثنائيات :
1- الحلال و الحرام
2- السماح و المنع
3- اﻷمر و النهي
4- الحسن و القبيح
لقد اختزل الفقه اﻷصولي هذه الثنائيات اﻷربعة في ثنائية واحدة ؛ فأصبح الفهم السائد عند السادة الفقهاء و عند اﻷمة اضطرادا هو أن الحلال هو نفسه المستحسن و المأمور به و المسموح كما أضحى الحرام هو المستقبح و الممنوع و المنهي عنه.
و هذا خطأ فادح .. !
ﻷن المحرمات ليست مرادفا للمنهيات !
أعتقد جازما أن لا ترادف في كلام المولى عز وجل، إذ أن ذلك دليل على الحشو و الزيادة و هو من صور النقص و العجز في تعبير الكاتب حيث يضطر إلى استخدام أكثر من لفظ ليصل المعنى المراد للقارئ، و حاشا و كلا أن يكون جل شأنه و تعظمت كلماته بحاجة إلى ألفاظ تساعده و تسعفه لتحسين كلامه ! سبحانه يتنزه عن كل نقص و عجز له القدرة المطلقة !
إذن .. لا ترادف في القرآن !!
و هو ما يحيلنا على أن نقول مطمئنين أن المحرمات ليست هي المنهيات ..
و بعبارة أخرى قوله عز وجل :{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ .. } ليس مرادفا ل : { إِنَّ اللَّهَ َيَنْهَى }ٰ
لكل كلمة معناها الخاص و المحدد بدقة.
ما الفرق إذن بين المحرمات و المنهيات ؟
● التحريم يتصف بالشمولية و اﻷبدية و لا رجعة فيه و لا إضافة عليه إلا برسالة سماوية جديدة. التحريم من اختصاص الله عز و جل وحد و لا يحق لمخلوق كائنا من كان أن يحرم ( أحاديث التحريم ما هي إلا كذب و تدليس ألحقوه برسول الله ) و نجد التحريم في التنزيل الحكيم نحو قوله تعالى :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }
● النهي يتصف بالظرفية و نجد أن الله ينهى و النبي ينهى و المخلوق ينهى بدليل قوله تعالى :
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى }
و أسلوب النهي في القرآن الكريم نحو قوله تعالى :
{ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ }
تصوروا معي حقل الحلال الواسع الشاسع برحمة الله عز وجل ..
نرسم في هذا الحقل دائرة نسميها دائرة المنهيات ..
داخل دائرة المنهيات نرسم دائرة نسميها المحرمات ..
و بحكم تموضع الدائرتين، فكل حرام منهي عنه ضرورة و كل منهي عنه لا يشترط فيه أن يكون محرما. و يترتب على من يقع فيهما اﻹثم !
و لنتحقق مما سبق بدراسة في كتاب الله عز وجل :
ففي سورة اﻷنعام ينهى رب العالمين عن أكل مال اليتيم بقوله تعالى :
{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن }ُ
امتداد لسياق نص المحرمات في السورة الكريمة و الذي ابتدأ بقوله عز وجل
{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }
و هو ما يؤكد أن الحرام يكون ضرورة ضمن المنهيات بينما العكس غير صحيح ؛
فعلى سبيل المثال التجسس منهي عنه بقوله تعالى :
{ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا }
لكننا لا نجد صيغة التحريم في كتاب الله بخصوص التجسس.
و قد يعترض علي سائل قائلاً :
ما فائدة هذا التقسيم ( دوائر النواهي و دوائر المحرمات )
إذا كان اﻹثم تابث في حق فاعلهما ؟
الجواب يجسد عظمة التشريع القرآني :
إن دائرة النواهي قابلة للفتح إذا ما تعرض اﻹنسان لخطر الهلاك؛ فالنواهي إذن ظرفية.
بينما دائرة المحرمات غير قابلة للفتح بأي حال من الأحوال إلا بنص قرآني صريح.
و بالمثال يتضح المقال :
• الله سبحانه ينهى عن التجسس في قوله تعالى :
{ وَلَا تَجَسَّسُوا }
لكن إذا كان اﻹنسان في حالة حرب يترتب على خسارتها هلاكه فالتجسس يصبح هنا ضرورة تنطبق عليه قاعدة [ الضرورات تبيح المحضورات ].
و هي القاعدة التي تفتح بها فقط دائرة المنهيات و لا تفتح بها دائرة المحرمات
ﻷن هذه اﻷخيرة لا تفتح إلى بنص قرآني صريح !
و هو ما يتجلى في قوله تعالى :
{ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيم }ٌ
نلاحظ هنا أن رب العالمين برحمته الواسعة رخص لمن اضطر بأن يأكل لحم الخنزير ( مخافة الموت جوعاً مثلا )
في المقابل ليست هناك أية آية ترخص شرب الخمر عند الضرورة ﻷن الخمر من المنهيات و ليس من المحرمات ..
و هذا بدليل عدم ذكره في آية محرمات اﻷطعمة
و من هنا نخرج من عنق زجاجة إشكالية تحريم الخمر و يظهر لنا إغلاق دائرة المحرمات من اﻷطعمة استناداً إلى اﻵية الكريمة :
{ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيم }ٌ
الخمر إذن ليس من دائرة المحرمات إنما هو من دائرة المنهيات و كلاهما فيه إثم.
إن الدارس لكتاب الله يجد المحرمات التي وردت بصيغة التحريم الصريحة - كما أسلفت البيان أعلاه - كالتالي :
1- الشرك بالله
2- عقوق الوالدين
3- قتل الأولاد خوفاً من الفقر
4 - الاقتراب من الفواحش (الزنا/اللواط/السحاق)
5- قتل النفس بغير الحق
6- أكل مال اليتيم
7- التطفيف في الكيل و الميزان
8- التزوير في الشهادة ظلماً
9- النكث بالعهد و هذا يختلف تماماً عن اليمين الذي أحل الله لنا كفارته.
10- نكاح المحرمات ( اﻷم ، اﻷخت .. إلخ )
11- أكل الميتة و لحم الخنزير و شرب الدم السائل
12- أكل الربا
13- ارتكاب الإثم و البغي بغير الحق
14- أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم.
و هذه المحرمات اﻷربعة عشر هي فقط ما أنزله الله غي كتابه بصيغة التحريم في اﻵيات :
- سورة اﻷنعام ( 151-153 ) :
{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
- سورة النساء 23 :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا }
- سورة البقرة 275 :
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
- سورة المائدة3 :
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }
- سورة الأعراف 33 :
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون }َ
لقد تزايد عدد المحرمات بسبب الخلط بين مفاهيم الثنائيات اﻷربعة المنظمة للسلوك الإنساني ، حتى بلغت فتاوى التحريم المئات فنتج عن ذلك تحريم الموسيقى و الغناء و الرسم و النحت و الفلسفة و التبني و التدخين و إقامة جسور مع اﻵخرين .. حتى حب المسالمين من غير المسلمين حرمه بعض الفقهاء !
هل كان كتاب الله ناقصا حتى يزيد عليه الفقهاء كل هذه المحرمات ؟؟
إن تحريم التدخين يستوجب رسالة سماوية جديدة ﻷن التحريم أبدي و شمولي و ليس ظرفيا ! فنكاح المحرمات حرام في طوكيو و مراكش و القاهرة و نيويورك في القرن التاسع و القرن السابع عشر و القرن الواحد والعشرين و إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ..
إن فتاوى التدخين لا يجب أن تخرج عن الجائز و الممنوع كمنهيات دنيوية فقط !
هل عجز رب العالمين عن تحريم الموسيقى و التدخين مثلا ؟؟؟
حاشاه و هو المنزه عن كل نقص ..
إن صاحب الحق الوحيد في التحريم والتحليل هو الله تعالى حصراً، لكنه سبحانه يأمر وينهى، ويمنع ويسمح، ويستحسن ويستقبح. أما الرسول فيأمر وينهى، ويمنع ويسمح، ويستحسن ويقبح، لكنه لايحرم إلا ما حرم الله ولا يحل إلا ما أحل الله غير مستقل بالتحريم والتحليل عن كتاب الله. أما الحكام وولاة الأمر (البرلمانات) فيمنعون ويسمحون، ويستحسنون ويقبحون، ويأمرون وينهون، لكنهم لايحرمون ولا يحللون.
لقد سن الله عز وجل شرعا سهلا و رحيما بعباده ..
بينما المتحدثون بإسمه يبحثون عن أي سبب ليكفرونا و يخرجونا من رحمته !
*****
إن أصبت فمن الله سبحانه وتعالى وإن أُخطأت فمن نفسي.
هذه وجهة نظري وليس ملزوم بها كل من قرأ مقالي.
#مقالات_ياسين_ديناربوس
اجمالي القراءات
9293