د.مراد وهبة: المثقفون خانوا السيسي والرئيس يروض الرأسمالية
د.مراد وهبة المثقفون خانوا السيسي والرئيس يروض الرأسمالية
تصريحان أطلقهما الدكتور مراد وهبة مؤخرا في لقاءه مع الإعلامي "محمد الباز" على فضائية المحور، وهما بالنص كالتالي:
- "المثقفون خانوا السيسي وخانوا الشعب، الرئيس ليس لديه ظهير ثقافي، المثقفون لم يساهموا في عملية التغيير، وأنا أتحداهم أن يقدموا شيئًا لم تفعله الدولة، ويجب أن يكون لديكم أجندة خاصة بكم للتغيير لا أن تعولوا على السلطة فقط"
سأتوقف في هذا الكلام على 3 مصطلحات وهم (خيانة المثقفين للرئيس – ترويض الرأسمالية – الأجندة الخاصة للشعب)
أولا: خيانة المثقفين..وهو مفهوم يعني أن السيسي قدم للمثقفين الحرية والمعرفة على طبق من فضة، ثم لم يعترفوا بهذا الجميل ووقفوا مع خصومه، ومبدئيا: هذا كذب.. فخلال حكم 5 سنوات للسيسي نجد أن الرجل حبس مثقفين وصحفيين على قضايا رأي ليس لها شأن بالسياسة كحبسه إسلام بحيري وناعوت وعبدالله نصر وأحمد ناجي وكرم صابر..وأطلق يد العنان لشيوخ الأزهر والسلفية في تكفير وإرهاب المعارضين والباحثين في الإعلام..ولم يقدم شئ ملموس بشأن تعديل أو إلغاء القوانين سيئة السمعة كازدراء الأديان..
كذلك في مجال التمثيل والفنون نشأت لجنة الدراما للرقابة على الأعمال الفنية وموافقتها مع اتجاه الحكومة...علاوة على قص الرقابة كل ما يمت للتنوير في الأعمال الدرامية بصلة كما حدث في فيلم "دعدوش" بحذف 30 دقيقة للباحث إسلام بحيري والفنانة صوفيا وهما يفندان خلفيات داعش من التراث.
وهذا يعني أن كلمة خيانة المثقفين للسيسي ليس لها محل من الإعراب، الرجل الذي خانهم بعد أن جلس معهم مرتين في بداية حكمه..ثم أطلق أذرعه الإعلامية والدينية والأمنية لإرهاب واجتثاث المفكرين من المجتمع، بل وتجريم الرأي الآخر في الإعلام بتأميم تام لكل منابره..فكيف يدعي الدكتور مراد ذلك وهو العَلَم الخبرة ببواطن الأمور، ولو تتذكروا في دراستين لي بعنوان "د مراد وهبة بين التقدمية والرجعية" قلت فيهما أن الرجل تماهى مع عنصرية الأزهرين بموافقته على تصنيف أسامة الأزهري بازدراء مواطني الشيعة واعتبارهم إخوان مسلمين..وهذا ضد المبدأ العلماني الذي صاغه في كتابيه "الأصولية والعلمانية" و"ملاك الحقيقة المطلقة"
أذكر في فبراير عام 2016 كتبت مقال أحذر فيه السيسي من خسارة المثقفين بعنوان "تحذير للرئيس السيسي وأنصاره" تنبأت فيه بخسارة الرجل للمثقفين قائلا بالحرف " بكل أسف: وبحكم اطلاعي على الثقافة المصرية ومعرفتي بروادها أرى رقعة سحب المثقفين دعمهم للرئيس تزيد في الشارع المصري..فانتبه"..وياللحظ..دكتور مراد يثبت صحة تنبؤي ذلك قبل عامين بخسارة الرجل أهم شريحة وبوصلة تقربه للناس..
وأذكر تعليلي لذلك بفقرة " المثقف يقود الناس للتسامح والمعرفة، لأن البشر فضوليين ويستجيبون لرأي من يمتلك أدنى نوع من الثقافة والاطلاع..المعلومة عند الإنسان هدف ممتع يسعى للحصول عليه بأي ثمن، مبارك سقط مع أول سحب للمثقفين الثقة منه في الشارع، ولم يكن يدافع عنه سوى الشيوخ ورجال الأعمال..نفس الحال مع السادات..سحب المثقفون منه الثقة بعد دعمه للإسلاميين ضد الشيوعيين فانخفضت شعبيته في الشارع وذهب فريسة للقطيع"...انتهى..وأزيد الآن أن السيسي معرض لمصير أي منها مبارك أو السادات بحكم التطابق شبه الكلي في السياسات.
ولعدم الاسترسال أحيل القارئ لمقالي الآخر في إبريل 2016 بعنوان ."خداع السيسي للمثقفين"..عرضت فيه أوجه وجوانب هذا الخداع وكيف خسر الرجل دعم الثقافة في الشارع، بيد انحسار يد المثقف ونشاطه في كوخه الأدبي والأبستمولوجي الخاص به.
كذلك ادعاء الدكتور بوقوف المثقفين مع الإخوان كذب أيضا وناتج عن تعصب الرجل وعزلته عن مجتمع الثقافة، فهو لا يقرأ لمثقفين ..فقط يرى مواقفهم ضد السلطة..وكان بالأحرى أن يسأل عن الأسباب التي دفعت مثقفي مصر على النقد..فهي إما بنيوية نقدية..وإما اتجاهات فلسفية وأيدلوجية ضد قرارات الرئيس..ومنها تحرير سعر الصرف والتوسع في سياسات الاقتراض ورفع الدعم، إضافة لمواقف الدولة من حرب اليمن وتغطيتها على مجازر السعودية ضد المدنيين..علاوة على تأميم الإعلام واحتكار برامج التوك شو لرأي سياسي واحد، كل هذا لم يحرك شعرة في رأس الدكتور..إنما أغضبه فقط لماذا لم يتبنى المثقفون موقفه المتخاذل وعزلته وجهله بأبسط وأدوات المعرفة..ومنها (المعلومة)
كذلك باتهامة للمثقفين بخيانة الشعب، وأنا أسأله، هل تقصد الشعب الذي رفع علم السعودية في ميدان التحرير احتفالا بفضيحة تيران وصنافير؟ أم الشعب المظلوم في السجون على رأيه؟ أم الشعب الفقير المطحون الذي سحقته قرارات الرئيس وأجبرت الشباب المصري على الهرب خارج البلاد بأي ثمن..حتى لو مات غرقا في البحر؟
أذكر في كتابه "ملاك الحقيقة المطلقة" اعتبر الشك لازم ومطلوب، لأن البشر بغير شك دوجمائيين صـ 27 وأنا أساله بالضرورة..متى شكيت في موقفك ودعمك للرئيس يادكتور مراد؟..هل أنجز المصريون المعرفة؟..ولو كانت بالتدريج ..ليس الآن فمتى؟..تعلم وترى.. والجميع يصرخ باحتكار الأصوليين من شيوخ وعوام لمنصات الإعلام ومنابر المساجد..فمن أين تأتي المعارف؟ وكيف ستقضي الدولة على خطر الإخوان بغير الحريات أو على الأقل خطاب سياسي وديني مستنير يرتكز في حده الأدنى على الحقوق الطبيعية للفرد..
كذلك شروط التنوير سقتها في كتابك " جرثومة التخلف" بقولك أنه "لا تقدم بدون حرية ولا ثورة علمية" صـ 48..فأين تلك الثورة وأين تلك الحريات؟..إن مصر أصبحت وباء الآن للخرافة والدجل والنصب على الناس باسم الدين، ويوميا تطالعنا القنوات بمجاميع من الجهلة والدجالين يدعون معرفتهم للغيب والطالع، يتزلفون للسيسي كي يحصلون على قدر أكبر من الظهور والمال، فهل من فرصة للعلم إذن؟..وأين كذلك الحريات وقد استسلمت مصر للغزو الثقافي السعودي بإشاعة الولاء لقيمها وشيوخها وقرارات ولي العهد وتقديسه دون وعي بجوهر قراراته الأخيرة التي تصب جميعها في منحى (الانفتاح الغرائزي) دون العلمي..
كذلك في نفس الكتاب "جرثومة التخلف" نادى بأدوار للأغنياء في التنوير ، وأطلق مصطلح "البرجوازية الطفيلية" على أثرياء المجتمع الذين يقدمون الربح على المعرفة، وأنا أسأل الدكتور: ما حال هؤلاء بصفتهم مُلّاك الإعلام كالكحكي والسيد البدوي وأبو هشيمة وحسن راتب وطارق إسماعيل ومحمد الأمين وسعيد حساسين ؟..أليس هؤلاء طفيليون تسلقوا من أجل الربح ومنافعهم الخاصة ..أم خدموا المعرفة والتنوير؟..وما هي برامج المعرفة والتنوير التي يقصدها الدكتور؟
إن ضمير الدكتور –الذي لا أشك في نزاهته- كان يحتم عليه نقد هذا الوضع الطفيلي..وتقديري أن سكوته وصمته عن هذا الوضع المذري ليس علامة رضا بالتأكيد..بل خنوع وضعف عن النقد..فهو من هو مدرسة دعم السيسي وجوقة المطبلين والهتّافين التي لا تليق بفيلسوف...!
لا أريد أن أحمّل الدكتور خطايا وأوزار الرئاسة أكثر من ذلك ، ولكن سأفترض عقلانيته وحسن رؤيته للمستقبل، وأن الألم الذي يعانيه المصريون الآن بالفقر والكبت والخوف سيختفي في المستقبل..ولكن على الرجل أن يطالب بهذا المستقبل أصلا..يعني على مراد وهبة أن يطالب السيسي بالعدالة الاجتماعية وأن يكف يد الأجهزة الأمنية والدينية عن اعتقال الفكر ومصادرة الرأي..فكيف تبني مستقبلا دون حاضر؟..كيف لفيلسوف أن يدعم دكتاتورا يعزز الطبقية وينشر الجهل ثم يدعي أن الحاصل غير ذلك؟...هذا لأمر غريب وحادثة نادرة في تاريخ الفكر.
ثانيا: ترويض الرأسمالية: وهذا مصطلح جديد جعل فيه الدكتور مراد السيسي كمروض الأسود (نفس المدلول) يفترض فيه أن الرأسمالية غول متوحش يريد أن يفتك بالمجتمع المصري فيتصدى له السيسي بكف أذاه عن البشر..
ولي عدة أسئلة:
الترويض يعني إخضاع وضبط سلوك عن طريق الثواب والعقاب، فكيف عاقب السيسي الرأسمالية؟..فالواضح من سياسات 5 سنوات للرجل أنه (خادم للرأسمالية) بإقرار (الثواب) فحسب بإلغاء الدعم وتحرير العملة والاقتراض من البنك الدولي وبنوك أخرى قارية وإقليمية ودولية، إضافة لاعتماده على المِنَح والهبات والعطايا من دول الخليج مما سبب ارتفاع قياسي في مصر للأسعار والتضخم والديون العامة.
كيف تفتق ذهن الدكتور مراد لهذا المعنى الاقتصادي الجلل؟..فلو كان يقصد معاش تكافل وكرامة 300 جنيه فهذا ثمن 2 كيلو لحم ، ما قيمته من دخل المواطن في ظل ارتفاع البطالة وغلق المصانع وضيق العيش على الناس؟..ثم هذا له نظير في أماكن أخرى تحت مسمى "إعانة بطالة" لكن الفرق في القيمة، فالعاطل الأمريكي يحصل على 500 دولار شهريا بما يوازي دخل الموظف المصري في نصف عام..!..أي لا يمكن اعتبار هذا المعاش ترويضا..فهو موجود في قلاع الرأسمالية ولكن بعناوين أخرى وهي (حق المواطن) في ظل تقصير الحكومة عن توفير وظائف، أي مدلوله هناك كلما ارتفعت معدلاته يلزمه اعتراف فوري بفشل الحكومة..
وبالقياس فعلى الدكتور أن يعترف بفشل السيسي في توظيف وحماية المصريين اقتصاديا كلما ارتفع معاش التكافل من حيث القيمة وأعداد المستحقين..
كذلك فالرأسمالية ليست كيان اعتباري بل فكرة تصبح سلوكا متبعا للتفكير من الفرد، فهل تصلح الرأسمالية مع سلطة فاشية تعاقب وتثيب بالمجموع؟..أزعم أن هذا سؤال فلسفي لم يخطر ببال الدكتور الفيلسوف..!..فمصر تتحول لمسخ مشوه لا يعرف رأسمالية ولا اشتراكية أصلا كي يروضها، فهو من ناحية الطبقات والأسعار رأسمالي، ومن ناحية الأجور اشتراكي..ومن ناحية الإنتاج طفيلي يقتات على ثروات الغير، ومن ناحية السياسة فاشي لا يؤمن بكل ما سبق إلا إيمانا ببقائه..!
فالرأسمالية كي تروضها يادكتور يلزمك مجتمع متحرر يعرف ظواهر وخفايا كل النماذج ويختار بنفسه النموذج الأصلح، ومصر لم تعد تناقش تلك الأمور الفلسفية على مستوى الإعلام والنخب..ربما في حقبة مبارك في ظل استقرار الدولة وسياسة احتواء الجماعات على أمل تغيير أو التأثير في مفاهيم المتخلفين، أما الآن فالمتخلف يزداد قناعة بتخلفه لعزلته وعدم شموله بالخطاب، ثم الاستقطاب يحول الدولة لشيع وهويات مختلفة تهدد نسيج المجتمع من الداخل، متشبعا بأزمات سياسية ودينية تركت آثارها الجانبية السيئة في مخزون ووعي الناس.
ثم يادكتور مراد: هل الإصلاح من تأييد السلطة أم من نقدها؟..وسأتركك ترد على نفسك هذه المرة ففي كتاب الدكتور "جرثومة التخلف " قال بالحرف "لابد من تدمير الدوجماطيقية" صـ 65 والإنسان الدوجمائي هو الذي يعتقد بفكرة دون نقدها..فهل انتقدت الإصلاح في مصر يادكتور مراد؟ هل انتقدت السلطة مرة واحدة؟ ..الثابت أنك لا تنتقد ، بل تبرر كل سياسات الرئيس بدعوى خطر الإخوان وأنت العالم أن الرئيس يعادي كل من يختلف معه بمن فيهم الليبراليين حتى داخل القوات المسلحة، أنت تحولت لإنسان دوجماطيقي حسب كلامك..فكل ما بنيته من معارف وعلوم لم تستفد منها في سنواتك الأخيرة..هدمت تاريخك بموقف لا ينبغي أن يصدر من فيلسوف..
أذكر أيضا في نفس الكتاب طالب بانفتاح الدولة وأن تكون مثل رجل الكهف معزول، بينما تطالعنا أخبار محلية عن حجب آلاف المواقع والصحف عن مصر في اتباع أعمى لتحويل مصر لرجل الكهف..!!..والغريب أن حجب المواقع والصحف هذا لم يثر حفيظة الدكتور وهو العالم بأن المعلومة حق للمواطن حسب التشريع القانوني والإنساني والديني، وأن الوصاية على عقول الناس ليست إصلاحا في شئ بل تدمير لكل مقوماتهم الذاتية وحواسهم النقدية..بما يؤدي في الأخير لتدمير المجتمع وخلق أجيال مشوهة.
ثالثا: الأجندة الخاصة للشعب: وقالها الدكتور في سياق تبرئة السلطة من أي فشل وإلقاء حمل وتبعات ذلك على الناس، ورأيي أن الدكتور في هذه أصبح شيخ سلفي من علماء البلاط، يذكرنا بفقهاء العصر المملوكي والعثماني الذين إذا ما رأوا مجاعة وفشل سياسي يحمّلون أوزاره للناس لتخديرهم وإسكاتهم ليس إلا.
ليس المطلوب الثورة كي تقضي على الأخضر واليابس فالإصلاح الثوري له شروط كالسلمية في الأداء والانسجام في العمل والمعرفة في الحركة، وهذه أشياء غير متوفرة الآن في المعارضة المصرية المفككة والتي تستحيل أن تنسجم أو تلزم السلمية مع بعضها لأسباب بنيوية داخلية، وكذلك أمور المعرفة ليست متاحة، فالمعارضة المصرية أوهن من بيت العنكبوت (معرفيا) سواء إخوان أو ليبراليين، وكل ما يعرفوه هو طلب السلطة متجاهلين كل شرائط ذلك بالتنوير والاطلاع وإنكار الذات..
أنا هنا قد ألتمس العذر للدكتور ولن أهاجمه كما حدث في الفقرتين السابقتين، بل سأكتفي بنداء وحيد وهو : يادكتور إذا ضعف المظلوم ليس تشريعا لظلم الظالم..أنت كمثقف مطلوب برفع الظلم عن الناس على الأقل بالكلمة، وقديما قيل أن العرب في لغتهم ما يحملهم على النقد مواربة وتعريضا دون إلحاقهم بأذى، يعني في إمكان مراد وهبة أن يعارض وينتقد دون أن يمسه أذى من الحاكم، فقط لو أراد..لا أن يتماهى مع تيارات سياسية هي أحقر من أنجبت مصر في تلك المرحلة ورهنت الدولة بين فصيلين متطرف ديني ومتطرف عسكري..وبينهما متزلفين منافقين لا يعرفون للكلمة ضميرا ولا للإصلاح رغبة..
اجمالي القراءات
4841