هل هناك صراع بين العلم و الدين؟
المقولات على شاكلة ( بين العلم و الدين تضاد و عداء ) و أن ( طبيعة الدين تناقض شيئا من طبيعة العلم ) ليست جديدة علينا. بل لها مبرراتها القديمة و الحديثة, لكن لو صح أن بين الدين و العلم عداء و صراع, فكيف يظل لمدة 25 قرنا دون نتيجة حاسمة و دون أن يقضي طرفا على الأخر ؟, هل هذه المدّة غير كافية ؟, ألم نقرأ في التاريخ أن العلم يجري تيّاره بأقصى ما جرى تيّار التقدّم في كل العصور, و دائما بجانبه روح الدين قائمة و راسخة القواعد ؟ أليس الكوجيتو الشهير " أنا أفكّر اذن أنا موجود " الذي غيّر وجه العالم الى الأبد صدر عن ديكارت المسكون بالروح اللاهوتية الى النخاع ؟. أليس من حاول التوفيق بين العلم و الدين هو مسلم يدعى " ابن رشد " التي أثّرت أعماله الفكرية على أوروبا الى حد تشكيل تيّار يحمله اسمه ساهم في نهضة أوروبا ؟. أليس من اقترح أشهر نظرية في العصر الحديث, نظرية الانفجار الكبير هو قس مسيحي اسمه " جورج لومتر "؟ هل سننسى أن مذهب " الميثوديست " الذي بزغ في الكنيسة الأنغليكانية هو الذي قاد الى حركة الاحياء البروتستانتية التي قادت الى التنوير ؟ .
لكن في المقابل ألم يتخلّى الناس عن معتقداتهم و أديانهم بسبب العلم ؟, ألم يستدل الكثير من العلماء و حتى غير المتخصّصين في مجال العلم على لا عقلانية الأديان و لاعلميتها ؟ ألا نرى هذه الأيّام صوت المادّية يعلوا و صوت الدين بروحانيته يَخفوا ؟. و اذ لم يكن هناك تعارض بين العلم و الدين لماذا حاول كهنة الأديان أن يخفتوا بكل ما أوتيت لهم من قوّة صوت العلم و العلماء كما يخبرنا التاريخ حتى و ان كلّفهم ذلك ارتكابهم المجازر كما حدث مع العالم الفلكي " تيكو براهي " و انتزاعهم حرّية الانسان مثلما حدث مع الفيزيائي و الفلكي العظيم " غاليلي " ؟.
لقد حاول الكثير من الفلاسفة قديما و حديثا أن يجعلوا العلم يحلّ محل الدين فوقع الانسان في مأزق, لقد أخفقوا في مسعاهم لأنه ببساطة الطبيعة لم تحب للانسان هذه القدرة, كما أن الدين في النفس الانسانية ثابت لا تتغير ماهيته و ان تغيّرت مظاهره, و هو فوق ذلك صفة غريزية تلازم الطبيعة الانسانية, و هو صفة تستمدّ مما فوق العقلية البشرية, و هو جاء ليسد في المجتمع فراغا لا يعتبر من مهمّة العلم سدّه, فبين العلم و الدين فجوة لا تسدّها الا الفلسفة.
بينما العلم هو صفة عقلية متسلّحة بالروح التجريبية, فلا علم دون عقل و تجربة كما أن العلاقة بين التجربة و العقل هي علاقة تكامل, فلا يحصل العلم من جهة العقل وحده, لأن دون التجربة سيشطح العقل بعيدا نحو الخيال و المثاليات اللاواقعية المستحيلة التحقيق, كما أن التجربة دون عقل تصبح عبارة عن عملية ينتج منها كم هائل من الملاحظات التجريبية عديمة الفائدة. ان العلم ليست من وظيفته أن يقول لنا لماذا الكون موجود على الصورة الحالية و ما غاية وجوده, بل أن حتى مفهوم الغاية هو مفهوم غير علمي و لا يعتبر من مباحث العلم, ان العلم هو وسيلة تشرح لنا كيف يسير الكون و كيف نفهم ظواهره و أن نحاول التنبؤ بها بناءا على معطيات الظاهرة السابقة.
ان المنهج الذي يسلكه العلم و المنهج الذي يسلكه الدين مختلفان تماما, فمنطقيا المقارنة يجب أن تتم بين شيئين لهما نفس الخصائص و الطبيعة و الوظيفة, فلا يمكن أن نقارن مثلا بين الكائن الحي كالانسان و الجماد مثلا, لأن هذا الأخير فاقد لميزات الحياة و العقل و الارادة و الشعور, نفس الأمر ينطبق على المقارنات الحاصلة بين الدين و العلم.
فالعلم يتميّز بصفتين و هي أنه تام و موضوعي, و الفرق بينه و بين صنوف المجالات الأخرى هي أنها غير تامة و غير موضوعية, فالفيزياء مثلا لديها اصطلاحاتها المعروفة و الخاصة و الواضحة المعنى, و وجودها على الأرض الواقع و خلو نظريّاتها و مواضيعها من الآراء و المعتقدات الشخصية. كما أن للعلم أسلوبه الثابت في البحث الذي لا يقبل الجدال, أما بقيّة فروع الفكر الأخرى كالدين مثلا فاما أن تستعير أسلوبها من الأسلوب العلمي, أو تتخذ أسلوبا مستقلّا تماما عن الأسلوب العلمي و هذه الأساليب لا اجماع عليها و دائما ما تكون موضع جدل و نقاش.
ان استخدام الأسلوب العلمي لا يعني دائما الوصول الى نفس النتائج اليقينية كما في العلم, لقد سبق و أن دعى علماء الاجتماع و أشهرهم " هربرت سبنسر " الى دراسة الظاهرة الاجتماعية بنفس الطريقة التي تدرس بها البيولوجيا الكائن الحي, لكنّه تناسى أن المجتمع لا يخضع بأكمله لجميع قوانين و مبادئ البيولوجيا, ان ملاحظة حقيقة أن البشر يتصرّفون بطريقة لا عقلانية في الكثير من المواقف وحدها, كفيل بإظهار أن الأسلوب العلمي لا يمكن تطبيقه بنفس الدّقة في غير محلّه ولن يعطي نفس النتائج اليقينية و الثابتة كالتي يعطيها في مجاله و الذي يقول أن الدين به الكثير من الأمور غير القابلة للتجربة أقول بأن حتى واقعنا يخبرنا بأن الكثير من مظاهر الحياة اليومية التي نعيشها لا يمكن أبدا أن نخضعها للتجربة و الفحص و ما سبب اندثار الكثير من السرديات الكبرى كالماركسية الا محاولة دراسة المجتمعات على طريقة الأسلوب العلمي وحده و الوصول الى قانون عام يحكمها, ان مجرد التأمل في طبيعة العلم و طبيعة الدين تظهر لنا فساد المقارنات التي تتم بينهما و هذا, لأن المنهج الذي يسلكه العلم و المنهج الذي يسلكه الدين مختلفان تماما, و هذا ينتج مباشرة اختلاف المواضيع التي تخصّهما و الوظائف التي يعملان عليها.
و من حقّنا أن نتساءل ما الشيء الذي أبقى العلم و الدين في تعايش و توازي منذ 25 قرن رغم الاختلافات الصارخة بينهما في المنهج؟ انها الفلسفة, الفلسفة هي أصل المعرفة و مصدر الاعتقاد و اليقين. انه من غير المجدي أن نقارن بين العلم و الدين لأنها مقارنة ظالمة للطرفين, و بالتالي من يقول أنه يريد ترك الدين لأن العلم يناقضه, فعليه أن يراجع حساباته لأنه ان حاولنا البحث في التناقض فلن نجده بين الدين و العلم, بل بين العلم و اللاهوت.
اجمالي القراءات
6093