الحقيقة في الدين الإسلامي
أول سؤال في الإسلام والذي يشغل بال الشيوخ والعوام هو.."من ربك وهل تقيدت بأوامره ونواهيه"..الدافع وراء السؤال أزعم أنه ليس عن كمال شخصي بل عن شعور بالنقص يسري في جسد المسلم، فهو يحتاج لمن يعرفه الحقيقة ، ويفضل أن لا يسعى إليها بنفسه، وقد أثر ذلك عليه من ناحية امتهان العلوم العقلية والتجريبية.
ليس المطلوب أن تكفر بالإله أو أن تعصيه، ولكن المطلوب هو وضع ضوابط (لتصور) هذا الإله، فالمسلم السلفي يرى إلهه مختلفا عن المسلم الأشعري، الأول يراه جالسا على عرشه فوق السماوات، والثاني يراه بلا مكان، الأول يرى له صفات اليد والعين والساق، بينما الثاني لا يرى هذه الأشياء، ويعتقد أن ذكرها في القرآن لمجرد المجاز..أنظر لقد اختلفوا في صورة الإله، هذا بين المسلمين بالمناسبة، يعني لو قيل أن هذا الخلاف بين مسلم وكافر يكون الأمر طبيعي، أما أن يكون بين المسلمين وبعضهم وقتها تصبح إشارة تستحق الاهتمام.
كذلك فالمسلم المعتزلي -أو القدري – يرى أن مصدر أفعال الإنسان هو الإنسان نفسه، ودور الإله في ذلك هو ثوابه وعقابه على ما اكتسبت يداه، أما المسلم السلفي والأشعري يرون أن مصدر الأفعال هو الإنسان لكن بإرادة الله، وفي التصوف الحلولي يكون الفاعل الحقيقي والأوحد هو الله..أما الإنسان فهو صورة ظاهرية لتلك الأفعال، في الأولى عند المعتزلة آمنوا بإله عادل ومنطقي لا يضع في النار شخصا أراده الإله أن يخطئ، أما في الثانية عند السلفية والأشعرية آمنوا بإله يضع في النار من أراده الإله أن يخطئ، وسبق الإرادة الإلهية يعني جبرية فعل الإنسان، لذلك اتهم السلفيون والأشعرية بالجبرية من الطرف الاعتزالي.
أما في الثالثة عند التصوف الحلولي آمنوا بموجود واحد هو الله، وبالتالي لا فاعل حقيقي غيره، وهذا يطرح تساؤل: بأي منطق سيكون حساب الناس يوم القيامة؟..هل بإرادة ذلك الموجود الأوحد أم بأفعاله؟..وفي كلتا الحالتين الإنسان برئ لأنه لم يفعل وعلى الأقل لم يُرِد أن يفعل..إنما هو مجبور، وغاية ما وصل إليه التصوف الحلولي هنا هو العشوائية في الإقرار والاستنتاج، وفي تقديري أسلم لهم أن يعترفوا بأنه لا توجد حقيقة إسلامية لديهم، وغاية ما يؤمنوا به خليط من الروحانيات والأخلاق والزهد، وكلها مشاعر وقيم دنيوية، بينما الإسلام قائم على فكرة الثواب والعقاب في عالم ما ورائي.
ما أبحث عنه هو مجرد.."حقيقة مشتركة"..جامعة بين المسلمين، حتى فكرة وجود الله-التي تعتبر أكثر بداهة بين المسلمين- هي غير واضحة وغير مؤكدة بشكل تام على نحو ما يفهمه العوام، والعلة أن وجود الله مثلا عند فرقة السنة مختلف عن وجود الله في فرقة الشيعة، هنا كان الوجود لإقرار أفضلية الصحابة ، وهنا كان وجود الله فقط لإقرار أفضلية آل بيت الرسول، ومن فكرة الوجود هذه -وصورة الله في أذهانهم- خرجت نظريات تؤسس مفاهيم وتعاليم تلك الفرق، فخرجت نظريات عدالة الصحابة عند السنة، والإمامة وعصمة الأئمة عند الشيعة، حتى عند الدروز كان وجود الله لإقرار أفضلية الحاكم بأمر الله ومساعده حمزة بن علي..قس على ذلك بقية الفرق التي تؤمن بالرمز الدنيوي كوسيلة لمعرفة الله..لأن ما يطلقون عليهم صحابة وأئمة هم في الحقيقة رموز دنيوية.
أتساءل هنا عن إمكانية وجود تلك الحقيقة المشتركة، وفي ظني أن المسلم لن يتوصل إليها إلا بعد خلع القدسية عن كل مشاهدات الدنيا، بمن فيهم البشر..مرورا بالحيوانات والنباتات والبراكين والزلازل والأفلاك عند غير المسلمين، بل حتى المسلمون لم يسلموا من آفة تقديس الحيوان فقدسوا الجَمَل اعتقادا منهم ببركة ألبانه وأبواله، وفي الأحاديث البخارية نجد فضائل لتلك الأبوال والألبان تشبه ما يعتقده الهندوس في مخرجات البقرة.
كذلك أتساءل عن إمكانية وجود تشريع إلهي ورد في القرآن الكريم لم يختلف حوله المسلمون ..أو على الأقل يتميزوا به عن الأمم الأخرى، فحتى مع أكثر التشريعات بداهة في القرآن كورث الذكر ضعف ورث الأنثى نجد من يجتهد الآن ويوضح أن الإسلام ساوى بين نصيبي الذكر والأنثى ، كذلك في تشريعات الحدود والعقوبات لشتى الجرائم، منها ما ورد في القرآن بألفاظ صريحة لا تحتمل التأويل..لكن بالاجتهاد والتأويل تبين للبعض أنها في المجمل ليست حدود شرعية ولا تحمل صفة .."حكم شرعي"..بل مجرد إجراءات عقابية اتخذها المسلمون في زمن ما وقت نزول القرآن.
حتى مع أكثر الأشياء بداهة في الإسلام وهو .."تحريم زواج المحارم"..لم يحقق فيها المسلمون تميزا عن غيرهم، بل نرى أن أغلب شعوب الأرض تحرم نفس الشئ، بل يوجد من تجاوز ذلك بمنع زواج أولاد العم والخال مثلا كما هو يحدث في بعض الولايات الأمريكية، سننتهي في الأخير إلى كونها مجرد تشريعات محلية متسقة مع أعراف ومفاهيم القوم، حتى أن الهند مثلا يوجد من يمنع زواج العم بابنة أخيه لكن في ولايات مجاورة يبيحون ذلك.
ملخص ما جاء في المقال: إن غياب صورة موحدة للإله في الإسلام أدى لاختلال (نظري) وبالتالي تفرق ودونية اتسم بها المسلمون يوم أن شرعوا في نقاش تلك الصورة، وتحديداً منذ القرن الثاني الهجري كان إعلان لهذا التفرق الذي يعاني منه المسلمون إلى اليوم، وكذلك لغياب شريعة مفهومة وواضحة أدى لاختلال (عملي) فخرجت علينا تشريعات لا تخدم الفقراء والمفكرين..وهم أكثر أطياف المجتمع ضعفاً وسلاما، بل خدمت فئة الحكام والأغنياء والنافذين..وهم أكثر أطياف المجتمع عدوانية وتسلط.
إن داعش مثلا هي نتيجة لغياب تلك الشريعة الآن، فالدواعش فهموا الشريعة من ظاهر النصوص..والمنكرين عليهم لا يبالوا بظاهرية ووضوح تلك النصوص، فلم يؤمنوا بتطبيقها كما آمن وتشجع أبناء داعش، حتى مع بعض التأويلات المعقولة والمنطقية والتي تثبت خطأ داعش في استنتاج هذه الشريعة إلا أن هذه التأويلات يلزمها في الأخير (إيجاد البديل) فهم ينطلقون من فكرة نزول القرآن بشريعة صالحة لكل زمان ومكان، بينما أنكروا على داعش التي طبقت هذه الشريعة حسب تعريفهم لها، وبحثوا عن شريعة أخرى غير مكتوبة بل استنتجوها بأفهامهم..والسؤال المشروع: هل فهمكم مقدس؟..وماذا لو تبين لكم خطأ ما توصلتم إليه بالحسابات العقلية والتجريبية؟
إن ما أود قوله أن الإقرار بوجود حقيقة إسلامية يجب قبلها الإقرار بوجود صورة موحدة لله في أذهان المسلمين، وشريعة موحدة كذلك يفهمها ويستوعبها المسلمون، وإلا فهذه الحقيقة نسبية، حتى مع تحريم الكذب والقتل والبغي والعدوان ..كما جاء في القرآن الكريم نجد هذه الممنوعات في كل الأديان، وبالتالي أفهم أن الإسلام جاء به الرسول ليُحيي (معرفة الله) ولكن بطريقة عملية، فشرع في تفسير هذه الممنوعات كون بعضها يحتمل أكثر من وجه وتأويل، وشرع كذلك في بيان معنى الشريعة وهو واضح في القرآن بقوله تعالى.." شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه "..[الشورى : 13]
إذن الشريعة في القرآن هي (إقامة الدين) لكن ما هو هذا الدين؟..في سورة البقرة جواب لذلك ولكنه غير مباشر.." لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم "..[البقرة : 256] فالدين في هذه الآية هو الإيمان بالله والكفر بالطاغوت..كونه جاء ردا ونتيجة لمقدمة عدم الإكراه، ولكن يبقى السؤال بمن أؤمن بالضبط؟..هل بإله السلفية صاحب العرش والعين والساق أم بإله الأشعرية الذي يحرم عليه الصورة وليس كمثله شئ؟..وهل البديل لذلك أن أؤمن بقدرة ما ورائية عظيمة خلقت هذا الكون وتقوم على تدبير أموره بدون التطرق لآلهة السلفية والأشعرية؟..وما هو الطاغوت بالضبط..هل هم الأصنام والصالحون بمقاييس القدماء؟..أم هم الشيوخ والأئمة بمقاييس المعاصرين؟
كذلك ما الفرق بين الدين الإسلامي وبين الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل؟..إن أبسط جواب بديهي ترى أن حقيقة الإسلام جاءت لإقرار حقائق سابقة بما فيها ميثاق الإسرائيليين كمثل قوله تعالى.." وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "..[البقرة : 83] هنا أتفهم معنى الدين كونه جاء لإقرار حقائق ومعانٍ أخلاقية واجتماعية، فالقول الحسن أصبح دين، والتوصية بالفقراء والأقارب أصبح دين، وبالتالي لا معنى هنا لشريعة تهتم بإجراء العقوبات الجسدية كالقطع والجلد..إذ ستأخذ فورا شكل قوانين ضبط وربط..وليست من صميم الدين، بمعنى أنه يمكن الاستعاضة عنها بعقوبات أخرى تحقق نفس الغرض، وهو الدافع-بالمناسبة- الذي أغرى بعض الباحثين المعاصرين بالتجرؤ لإنكار حقيقة تلك العقوبات الجسدية، والإيمان أنها كنت مقيدة فقط لزمان ومكان وأقوام معينة.
بالمناسبة الفيلسوف أرسطو كان من أوائل من قرروا.."التوسط في الأشياء"..كسبيل لمعرفة الحقائق، وهو مبدأ مشهور فلسفيا يسمى.."بالوسط الذهبي"..ومعناه أن كل فكرة وكل عمل وكل عاطفة يمكن أن تقع بين إسراف وتقصير، بين غضب واستهتار، لذلك قرر أرسطو أن الحقيقة هي التوسط بين قبيحين، ومن هذا المبدأ الأرسطي استنتج بعض مفكري المسلمين مبدأ.."الوسطية الإسلامي"..على اعتبار أن المسلمين لديهم تفاسير قاصرة وأخرى غارقة في التفاصيل لحد الضلال، فيقوم الوسطي بمناقشة القاصر وانتزاع حقيقة نظرية منه، ثم يناقش الضال الغارق في التفاصيل وينتزع حقيقة عملية منه، ثم يجمع بين الاثنين فتكون تلك الوسطية.
لكن وكما سبق استدركت على هذا المنهج، وقلت إذا كانت كل الأطراف الإسلامية تنطلق من قاعدة واحدة إسلامية- بمن فيهم الوسطي- فكيف يتسنى لهم معرفة الحقيقة المطلقة في حين لم يُنوّعوا من تلك القواعد؟..يعني هل يحق لك مثلا أن تعرف حقيقة المسيحية من الإسلام والعكس؟..أو أن تعرف حقيقة الإيمان من الإلحاد والعكس؟..هذا يعني ضرورة تعدد القواعد..والأسلم كما فعل أرسطو انطلق من قاعدة واحدة بشرية لم يعتمد على أي حقيقة دينية ، لأن اعتماده وقتها سيكون على الشائع من هذا الدين-أو الفكر فقط- وليس الدين في تجلياته الحقيقية والإلهية، أي يمكن –بتعبير العصر- أن ينطلق من حقيقة الدين في فهم الشيخ محمد حسان أو أبو بكر البغدادي، رغم إنكاره عليهم لكن سيقع في الفخ لو لم يعود لطبيعته الإنسانية.
وهذا في الأخير سبب ادعاء نسبية الحقائق انطلاقا من أنها جاءت حسب تصورات بشرية في نفس أرسطو أو غيره، وذلك لأن الحقيقة المطلقة وقتها ستكون مجرد (تقييم) بشري لأي نشاط إنساني مخالف، يعني واحد يحكم على آخر مخالف له بناءً على تصوره هو وليس كما هي الحقيقة في ذاتها، لأن أرسطو وأكثرية الفلاسفة-خصوصا الماديين- قالوا باستحالة معرفة الحقائق، وأن ما نقوله ونفعله هو مجرد تعابير منا لتصور تلك الحقائق في (الزمكان) أي يمكن للحقيقة أن تتغير إذا تغير الزمان والمكان.
في الأخير سنرى الحقيقة الإسلامية (نسبية) أنتجت فرق وصراعات ونزاعات لم يخل منها تاريخ الفكر الإسلامي، والوقوف على تلك الحقيقة ..أو على الأقل تصورها كمشترك ديني.. يجب أولا الاعتراف بتلك الصراعات واعتبارها أنها مجرد (صراع عبثي) وهذا عسير عند المتعصبين والمنغقلين بالمناسبة، لأنهم يرون صراعاتهم هي مواجهة بين الحق والباطل..وليست بين مجرد أفهام بشرية نسبية، وبعد هذا الاعتراف العسير يمكن مناقشة هذه الحقيقة بتجرد وليس بهوى، أي نطلق العنان لعقولنا في البحث والتدبر بدون حواجز أو أي خطوط حمراء..والمسلم إذا اعتقد أن الله خلقه بعقل وأنزل عليه دين مخالف لذلك فهو كائن مزدوج..كمن اشترى ماكينة لمصنعه ومعها كتالوج لماكينة أخرى مختلفة..أو مجرد نشرة ليس بها علامات تشغيل، فيقف المشتري حائرا..هل من باعه تلك الماكينة خدعه..أم أن البائع أعطاه الكتالوج ولكن حتى الآن لم يراه.
اجمالي القراءات
14119