إذا كنت تريد تقديم نفسك بشياكة وأناقة للمجتمع قل أنك.."داعية وسطي"..وقتها هايفهم الناس انك مش متشدد ومع التيسير والاعتدال، لكن مع أول امتحان حقيقي يمس فيه جوهر قضيتك ستظهر بصورتك الحقيقية..
يعني إيه؟
يعني رجل كل همه (الخلافة والشريعة وقطع الرقاب والأيدي) لكن لسمعة الدعاه السيئة لذلك فطن أن الجمهور لن يقبل منه دعوة ولا خطابا إلا بعد أن يفصل بينه وبين هؤلاء، فيبدأ في تقديم نفسه على إنه (داعية وسطي) وأن الإسلام مع الوسطية، وأن أمتكم أمة وسط، وأن الدين هو الوسطية، ويجب أن يكون الشيخ وسطي..والشعب يحب الوسطية..إنت مش وسطي والا إيه؟!
أصبح اللفظ فارغ المعنى..وبمرو الوقت أصبح تجارة
هذا ما حدث بين العرب..أصبح كل من يدعو ويقدم نفسه على إنه داعية وسطي إما مشروع (إرهابي) أو مشروع (خرافي) وكلاهما وسيلة مهمة لتجهيل المجتمعات وإشاعة الثقة المزيفة والاطمئنان الكاذب..
أمثلة كثيرة بداية من القرضاوي وحسان والعريفي والشنقيطي والمطيري والسويدان والقرة داغي..انتهوا جميعاً إلى حالة من (التطرف والبغي والتعصب) لم يشاهدها العوام عليهم قبل زمن الثورات، والسبب كما قلت أنهم كانوا يخفون صورتهم الحقيقية بإشاعة صورة مزيفة تلتحف رداء الوسطية بغية نشر مذهبهم الإرهابي وقبوله بين الناس..
حتى أشهر دعاة الوسطية والشباب في العصر الحديث.."عمرو خالد".. ظهر كعنصري وطائفي خطير في دعوته لنصرة الثورة السورية، وتفرغ تماما -في حقبة من الزمن- لنصرة داعش وجبهة النصرة وفصائل أحرار الشام وجيش الإسلام..إلخ حتى أن برامجه ومواقعه شاركت في حفلة التبرع للثورة السورية التي ذهبت أموالها -الحرام- لجيوب البغدادي والجولاني والشيشاني وهلم جرا..
حتى أن الداعية.."خالد الجندي"..أشهر من قدم نفسه في مصر كداعية وسطي وبلباس أنيق وكرافتة شيك، انحدر هو الآخر لمستوى أخلاقي ردئ وشتائم وسباب وتكفير لكل من ينتقد البخاري أو يشكك في ابن تيمية، رغم أنه شخصيا يتبنى أحكام فقهية وأقوال عقدية هي عند ابن تيمية موجبة للتكفير كقوله مثلا بالتفويض والتأويل الأشعري..هذا عند ابن تيمية كافر..لكن ولأن الرجل متطرف في جوهره ويميل لأكذوبة الخلافة والشريعة رأى في ابن تيمية (طوق نجاه وحصن منيع) ضد خصوم الخليفة أو من يفتي بحد الردة والرجم التي تطبقها داعش..ورغم ذلك يزعم الجندي في كل مناسبة أن داعش لا تمثل الإسلام الوسطي..رغم أن الداعشيين لم يذهبوا بعيدا عن فتاواه..ولكن ولأن الجمهور أمّي نجح الجندي في استغفاله وتدجينه بأسلوب لا يخلو من (الشو والبروباجاندا) التي يلجأ إليها غالباً كل ضعيف ومحتال..
كذلك الداعية.."سعاد صالح"..هي الأخرى شاركت في حفلة الوسطية واستغفال العوام، قدمت نفسها كمجتهدة ومجددة للإسلام، واقتحمت حصن الفتوي بآرائها المثيرة للجدل عن الختان وغشاء البكارة، ولكن فور المساس بثوابتها افتضح أمرها أنها تُجيز أفعال داعش من سبي النساء واغتصابهن كأسرى باسم (ملك اليمين) ولم تراجع نفسها على الأقل كأنثى كيف تقبل بحدوث ذلك على بني جنسها؟!..ولكن المتطرف عادةً قد يظهر بعقله بعض الأحيان لكن فور المساس بثوابته تجده كالثور الهائج بلا عقل..
بالعموم توجد علاقة جدلية بين الدين والأفكار التقليدية المتشبع بها العوام، وهي التي سببت خلط في أذهان البعض بحيث جعلت من الأعراف دين..ومن الدين مصلحة شخصية، أي أن فتاوى ومواقف هؤلاء الوسطيين المزعومين لها جذور فكرية اجتماعية بالأساس، وهو ما يطرح سؤال مباشر: ماذا لو كانت الجماهير تكره ابن تيمية هل سيجرؤ خالد الجندي على الدفاع عنه؟..ولو كانت الجماهير ترى أن سبي النساء في الحروب جريمة هل ستجرؤ سعاد صالح على الإفتاء باغتصابهن؟..ولو كانت سمعة الثورة السورية في مصر سيئة- منذ بدايتها- هل سيجرؤ عمرو خالد على دعمها؟..ولو كان التعايش والتسامح سائد في المجتمع هل سيجرؤ القرضاوي والمطيري والعرعور على الإفتاء بضرورة قتل الشيعة أو أنصار الأسد؟
الوسطية ما هي إلا ستار لتمرير الأفكار المغلوطة وإشاعتها في غفلة من الزمن، حتى الشعراوي- الذي يعشقه العوام في مصر- له أفكار غاية في التطرف منها فتواه بقتل تارك الصلاه وأخرى بفرضية الخلافة، رغم أن للشيخ اجتهادات أخرى وردود على الإرهابيين والتكفيريين ..لكن تقديم نفسه تحت عنوان.."داعية وسطي"..يجعل من قبوله أمر بدهي غير قابل للنقاش..وهنا مكمن الداء الذي أزعم أنه لولا شيوع هذا اللفظ (الوسطية) في ثقافة المسلمين ما نجح أمثال القرضاوي والعريفي في إشاعة البغض والكراهية بين المسلمين..حتى مسّ ذلك ذوي الأرحام فتجد الإبن يقتل أباه وأمه فقط لأن الشيخ قال له ذلك وأوهمه أن عليه الخيار بين دينه وأمه..وأن سحق الجماجم والتمثيل بالجثث شرف للمؤمن..
ولو قالها في مجتمع الحيوان لفكّر الحيوان قبل أن يؤذي أمه..لكن ولأن الحيوان لا يعرف الوسطية نجا
بالمناسبة هذا الإنحراف البشري -الذي تسبب فيه هؤلاء الوسطيين –دفع المفكر الإنجليزي.."جون ستيوارت ميل"..(ت 1873) إلى السؤال عن (جدوى الأديان) أي انتقل لمرحلة أخرى لا تناقش ماهية أو طبيعة الدين..بل جدواه..والسبب ما رآه من المنحرفين في عهده –ومن سبقه- وأساليبهم وحِيَلهم في إشاعة الكراهية والحروب، وفي تقديري أن استمرار هذه الحالة بين العرب والمسلمين سيخلق عشرات من ستيورات ميل يسألون نفس السؤال..فالإنسان مهما كان مخطئا ومتوحشا..إلا أن في لحظة صدق يرى أن أفعاله ما يجب أن تكون وكان عليه التصرف بطريقة أفضل..وهي اللحظة التي يكرهها ويخاف منها كل داعية..خصوصا لو كان وسطيا..
اجمالي القراءات
8429
جزاك الله خيرا .... شكرًا جزيلا