خداع السيسي للمثقفين
على مر عامين من حكم الرئيس المصري ظل يردد دعاوى تجديد الخطاب الديني، بل وبلغة تشبه لغة المفكرين، مما شجع الأقلام الحرة لدعمه، وأخرى على التوجس منه خيفة أن يصبح يوما كالحبيب بورقيبة أو كمال أتاتورك، وفئة ثالثة تسمع وتشاهد دون تعليق..لكن كلها أمل أن يكون السيسي على هواهم..
بهذا المدخل نجح السيسي في خلق قاعدة شعبية له في مصر لم تحدث منذ سنوات عبدالناصر، حتى شبهه البعض بالزعيم المصري الذي تواصل مع كل فئات الشعب من عمال وفلاحين ومهنيين ومثقفين وعسكريين..إلخ..وهو عين ما قدمه السيسي في الأشهر الأولى من حكمه، حتى ظهر الرجل كأيقونة في الشارع المصري اكتسبت شعبيتها من كراهية الإخوان والجماعات له..
لكن في خضم ذلك لم يسأل أحد نفسه..
إذا كان السيسي بالفعل رجل مثقف ومتنور ما الذي يمنعه أن يأخذ قرارات حاسمة لصالح التنوير؟..الرجل رئيس جمهورية وهي أعلى سلطة في البلاد، وخصوصية الرجل أنه تابع للمؤسسة العسكرية الأعمق في وجدان الشعب، أي أن قراراته لن تجد معارضة في أروقة الدولة ومؤسساتها، فضلا عن قبولها لدى الشعب في هذا التوقيت بحجة الحرب على الإرهاب..
الامتناع عن هذا السؤال كان خشية أن تصبح الإجابة سلبية من فرط تودد السيسي للأزهر وشيوخه، خصوصا وأنه في إحدى خطاباته انتقد الوسيلة الشائعة في مصر وقتها لتجديد الدين..وهي ظاهرة إسلام بحيري، وقال نصا أنه لم يقصد التجديد بهذه الطريقة..عرفنا وقتها أنه يرى تنويرا غير الذي نراه..لكن لم نتأكد لحين دعم ذلك بالوثائق والأدلة..وبعد مرور الشهور ودعمه للأزهر يزيد حتى أعطاه الثقة المطلقة وبخطابات مكررة عاطفية..وكأن التجديد مجرد مشروع اقتصادي بحاجة لقرار أزهري يدخل فورا للمشروع دون مقايسات..!
السيسي لم ينتبه أن مشكلة مصر السياسية- والتي أنتجت الإخوان والجماعات الإرهابية -هي مجرد عَرَض من أعراض أزمة حضارية كبرى أصابت المنطقة بالكامل ومصر بالتبعية، أي أن المشكلة إقليمية وثقافية قبل أن تكون خاصة بشعب دون آخر، وهذا يعني ضرورة مناقشة هذه الأزمة على مستوى دول الجوار بالعموم..والثقافات الغازية للمجتمع المصري بالخصوص، أي لابد قبل مناقشة التجديد ضرورة البحث عن إيقاف الهجمة أولا وتحديد مصدرها بوضوح..فهل بحث السيسي عن مصدر الأزمة؟..كلا..بل ذهب للتحالف مع هذا المصدر وتعظيمه بحجة مساعدة مصر وإخراجها من كبوتها..
كذلك لم ينتبه إلى أن النظام السياسي في مصر هو.."بيروقراطي أمني"..منذ 60 عاما ..وهي النسخة المحدثة بعد سقوط الأسرة العلوية، نسخة صنعها جمال عبدالناصر بعد ثورة يوليو، والتنوير أو التجديد يعني في الأخير حرية رأي تسمح بإظهار العيوب..وهذه الحرية خطرة على النظام الأمني، لذلك قبل أن يشرع في طلبه التجديد كان يجب عليه أن يعالج الجانب الإقصائي والأمني من نظامه، وهو لم يفعل ذلك..بل تمادى في تطوير وتوسيع منظومته الأمنية ببناء السجون وتشريع القوانين المضادة للحريات كقانون التظاهر ، فكيف يطلب تجديد من شخص مقيد ومهدد في أمنه ورزقه؟!
هنا ارتكب السيسي ثلاثة أخطاء كشفت خداعه للمثقفين:
الأول: تمكينه للأزهر من كل مفاصل الدعوة الدينية مما ساهم في إعادة إحياء التراث القديم ونشره بصورة أخلاقية وليست تنويرية، والفارق أن الصورة الأخلاقية هي انتقائية تأخذ من التراث الحسن وتترك القبيح..أي أنها مجرد مسكن للألم وليست علاج فعال، بينما الصورة التنويرية التي لفظها الشيوخ هي النقد والبحث الحر في ذلك التراث..وهي العلاج الفعال لأمراض المجتمع، والسيسي لم يشجع هذه الصورة النقدية التنويرية بل تعامل معها بجفاء بالغ..مما ساهم في الاعتقاد بأن الرجل يؤيد منهج الأزهر وانتقائيته..
الثاني: عدم اتخاذه أي قرار لصالح التنوير طوال عامين، مما ساعد في تنويم كل القوى الثقافية -المحبة له والمتعشمة فيه -تنويما مغناطيسيا، بحيث كلما أرادوا الضغط والانتقاد تذكروا فورا أن الرجل هو الرئيس الوحيد الذي دعم التنوير بذلك الوضوح..ومع مرور الوقت لم ينتبهوا للخديعة التي وقعوا فيها عن عمد أو بجهلٍ منهم بوسائل وأدوات التغيير..
الثالث: تحالفه الاستراتيجي مع أكثر الدول والمجتمعات رجعية في العالم وهي السعودية ، بل وتقديمهم بصورة مميزة لها صفات العطاء والكرم والشهامة، وهي صفات يعشقها العربي ويتأثر بأصحابها إلى أن يصبحوا قدوة، بما يعني تقديم هذه الرجعية كمنبر ديني وثقافي يوجه المصريين إلى خير الدنيا والدين..!
فطبيعي بعد ذلك أن نرى الرجل يظهر على حقيقته ويذهب للعدوان على الشعب اليمني ، ويعادي الشعب اللبناني بوقف قنواته الفضائية ، ويقدم الأزهر على استعداء أهم مكون اجتماعي وعسكري في العراق وهو الحشد الشعبي، ثم يتمادى في غيه ويصدر بيانات ضد إيران وكأنه يتحرش بها استجابة لطلب حليفه الاستراتيجي الرجعي، والمؤلم لي شخصيا من كل هذه السلوكيات المتعجرفة أنها تحدث باسم الشعب المصري وجيشه ، بما يساهم في تشويه صورة مصر عربيا..التي في تقديري وصلت الآن إلى أوج سقوطها منذ اتفاقية كامب ديفيد..
اجمالي القراءات
6428