الإخوان والحنان الليبرالي اليائس
صار أغلب الحوار السياسي في الشرق حالياً، يتركز حول قضية احتواء الإخوان المسلمين، في مسيرة الإصلاح أو التغيير، ولأن كل يغني على ليلاه، تعددت العروض على تلك الجماعة التي تحظى بالشعبية الأعظم في شرقنا الكبير، عروض من أنظمة الحكم التي يرى البعض أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، وعروض من الغرب الذي لا يرى طريقاً للتغيير والإصلاح الديموقراطي إلا عبر تلك القوة الجماهيرية العظمى، وعروض من فلول اليسار والقومجيين العروبيين، الذين احترقت كل أوراقهم، ولم يبق منها إلا الدخان المتصاعد من حريقها، مصحوباً ببعض الضجيج والقعقعات، إلى عروض الليبراليين، الذين يبحثون عبثاً عن موطئ قدم في أراضينا العتيقة المقدسة.
كان آخر ما وصل بريدي الإلكتروني في هذا السبيل، مسودة بيان من حزب "مصر الأم" تحت التأسيس، وهو كما يقول برنامجه، حزب ليبرالي يستند إلى مرجعية وطنية مصرية، تنفتح على العالم، باتجاه الحداثة والديموقراطية الليبرالية، ومسودة البيان بعنوان: "معا نحو دولة مدنية ديموقراطية".
يقول البيان: "وبينما يرى الموقعون على هذا البيان أن "الإخوان المسلمون" جزءا من أزمة النظام السياسي في مصر فإنهم يتطلعون لتقديم كل العون والدعم للإخوان المسلمون كي يصبحوا جزءا من الحل"
هنا أتساءل:
هل الإخوان فعلاً في أزمة؟
هل يريد الإخوان أن يصيروا جزءاً من الحل؟
هل حزب مصر الأم، أو أي جماعة ليبرالية، أو حتى يسارية أو عروبية، قادرة على تقديم عون، ولماذا تراها تفعل؟
لا أظن أن الإخوان يرون أنفسهم في أزمة، رغم المطاردات والاعتقالات الموسمية، فالقوى الدينية بصفة عامة، حتى لو تمكنت تماماً من الاستحواذ على السلطة، فإنها تفضل أن تكون على مسافة من قمة الهرم، فأصحاب الدعوات المقدسة يختارون دائماً أحد مقعدين، إما مقعد المرجعية، في حالة التمكن من السلطة، أو مقعد المعارضة، وكلا المقعدين يحقق لهم ثلاثة أمور:
تعلق الجماهير بهم بصفتهم الملجأ والملاذ، سواء بالفتوى في حالة دور المرجعية، أو بالصراخ في وجه الحاكم الظالم في دور المعارضة.
البعد عن محط سخط الجماهير على واقعها، والذي ينصب على قمة الهرم والسلطة التنفيذية، هذا ما كانه الكهنة في مصر القديمة، وكانته الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى، وهذا ما تفعله المرجعية الشيعية في إيران، إذ تستتر خلف واجهة مدنية ديموقراطية ظاهرية، تكاد لا تملك من أمرها شيئاً، ومع ذلك يتركز عليها النقد وسخط الجماهير، فيما يسترخي المرشد الروحي الأعلى، وآيات الله المقدسون في مقاعد المرجعية الوثيرة.
حرية القول وإطلاق الشعارات المبهمة أو الخالية من المعنى، والتي تخلب لب الجماهير، دون الالتزام ببرنامج واجب التنفيذ، يحتمل الفشل ويحتمل النجاح، مما يهدد بزوال القداسة التي يخلعونها على أنفسهم.
واهم من يتصور أن الإخوان في أزمة نتيجة الحظر الرسمي أو الاعتقالات أو ما شابه، بالعكس، فالعمل السري في شرقنا يتيح قدراً من الحرية أكبر من العمل العلني، واضطهاد السلطات ومطارداتها تكسب الإخوان شعبية وبريقاً وإعجاباً لدى الجماهير التي تعودت الاضطهاد من الحاكم، خاصاً إذا كان الحظر غير جاد، والاعتقالات أشبه بالمداعبة وأدعى لاكتساب الشهرة والشعبية، منها للقمع الحقيقي!!
نأتي إلى تساؤل إن كان الإخوان يريدون أن يكونوا جزءاً من حل، وأنا أحسبهم لا يريدون، وإن لم أكن واحداً منهم، فطبيعة فكرهم الشمولي ينأى بهم عن الحلول الجزئية، التي تقتضي المشاركة مع غيرهم، هم مثل أصحابنا اليساريون المأسوف على نضالهم، لا يحبذون الإصلاح الجزئي الذي يؤخر نضج الثمرة التي ينتظرون أن تسقط بين أيديهم المقدسة، فلماذا ينقذون المجتمع والنظام قبل نقطة الفوضى الشاملة والانهيار التام، الذي يجعل الثور يخر أمامهم، يسلخون ويقسمون أبعاضه كما يحلو لهم، وإلى أن يتم هذا هم في نعيم مقيم، أموال تتسرب إلى أياديهم المباركة، وأسلحة لفتيان لا يحملونهم مسؤولية وجريرة أعمالهم، وشعوب تتطلع إليهم وتجعل منهم أبطالاً ونجوماً وقديسين!!
الآن إلى ظاهرة السادة الليبراليين الذين يتطوعون للدفاع عن عما يسمونه حق الإخوان في المشاركة في العملية السياسية، فهم يتحدثون كما لو كان الأمر أن ليبراليتهم الموقرة تملي عليهم مد يد العون للآخر، أو أن حصافتهم السياسية البرجماتية تملي عليهم الإقرار بالأمر الواقع، لاستخلاص أفضل الممكن منه، رغم أن الأمر كما نعرفه نحن الليبراليين وإن كنا لا نصارح أنفسنا به، وكما لابد ويعرفه الإخوان، وربما يتندرون عليه في مجالسهم، ليس هكذا على الإطلاق!!
الليبراليون ومثلهم اليساريون والعروبيون ومعهم نظم الحكم، مجرد مجموعات ونخب شبه منقطعة الصلة بالشعوب، بعضهم عالي الصوت والبعض منخفضه، قد يمتلكون وسائل إعلام أو مناصب حساسة بالدولة، أو حتى يقبضون على مقاليد السلطة، لكن الساحة الشعبية بالنسبة لهم منطقة حرام، يستعصي عليهم الاقتراب منها، ناهيك عن اختراقها، فهي تكاد تكون حكر على جماعة الإخوان المسلمين ذات القاعدة العريضة، سواء بالانتماء التنظيمي، أو التعاطف والتبعية الشعبية، باعتبارهم قد أفلحوا في تقديم أنفسهم ومقولاتهم بأنها هي ذاتها دين الأغلبية، وليست مجرد تفسير خاص له، أو وجهة نظر واجتهاد يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب.
إذا كان ذلك كذلك كما يقولون فإن ادعاء من لا شعبية لهم، محاولة مساعدة من يمتلكون الشعبية على لعب دور بالساحة، هو ادعاء يستدعي الإشفاق، مهما تجمل المتجملون بتبريرات وحذلقات، يدرك الإخوان ولاشك زيفها، ويعرفون أن كل هؤلاء يائسون، يحاولون ركوب مركبة الإخوان الشعبية، والتسلق على ظهور رموزها ونجومها اللامعة.
يفعل هذا الحكام كما السادات، الذي كان مصيره الاغتيال على أيدي فتيانهم (المعتبرون مارقين على سبيل الاحتياط)، ويجري الآن مد نصف الحبل لهم ليتحركوا في دائرة يعرفون كيف يستغلون كل شبر فيها، ويستظل بشعبيتهم دعاة القومية العروبية للترويج لمقولاتهم وعنترياتهم، التي لا تعيرها الجماهير التفاتاً، إلا إذا قدمت لهم معجونة بالماء المقدس، وبمباركة كهانه!!
يعرف الإخوان ذلك، ويستطيبونه، يعرفون أيضاً كيف يستغلون كل الظروف والفرص المتاحة، فهم براجماتيون حتى النخاع، لكنهم براجماتيون يستندون إلى قوة، ومثلهم الأنظمة التي تحاول الاستفادة منهم ولو في دور الفزاعة، سواء للغرب أم لليبراليين بالداخل، حتى اليساريين والقوميين الذين يحاولون التعلق بمركبة الإخوان، بأيديهم أوراق قوة، مثل السيطرة على أجهزة الإعلام، والتبريرات العلمانية والقومية التي تستغل لتجميل وتسويق المقولات الإخوانية العتيقة، مثل التصايح لتحرير العراق أو فلسطين من الاحتلال، رغم أن الصراع يستند بالأساس إلى مقومات لا علاقة لها لا بالوطنية ولا بالقومية، ولا بأي أمر واقعي معاش.
لكن الليبراليين الذين يتمسحون بمركبة الإخوان، متعللين بمقولاتهم الثقافية الغريبة على تربة الشرق العتيقة، فليس لديهم ما يقدمونه للإخوان نظير مجرد التفاتهم إليهم، ناهيك عن الاستماع لشروطهم التي يفرضونها عليهم، بحسن نية منقطع النظير، مثل ما يتحدث عنه بيان حزب مصر الأم، من فصل الدين عن الدولة، و أن الأمة هي المصدر الوحيد للسلطات وأن مصالحها هي غاية التشريع.
ما الذي يجعل الأقوياء، وهم هنا الإخوان المسلمون، يخضعون لشروط الضعفاء، وإلى درجة التخلي عن صلب خطابهم، ناهيك عن باقي المستحيلات، التي تفصل بين الشامي والمغربي، كما يقولون!!
اجمالي القراءات
11939