آحمد صبحي منصور Ýí 2015-09-18
كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية
القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون
تابع الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق
الفصل السابع والثلاثون
في علوم اللسان العربي
ومعرفتها ضرورية لأهل الشريعة وهي اللغة والنحو والبيان والأدب ، فالأحكام الشرعية من الكتاب والسنة باللغة العربية . والنحو أهمها وبه يعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ، ولولاه لضاعت الإفادة ، ولولا فائدته لكان علم اللغة أي الصرف هو المتقدم عليه.
علم النحو
ماهية اللغة العربية
اللغة هي عبارة المتكلم أو تعبيره عن مقصوده ، واللغة فعل لساني تصير ملكة في اللسان وهو العضو الفاعل في التطبيق ، واللسان يعبر في كل أمة باصطلاحها . وكانت اللغة العربية أوضح اللغات لأن الحروف مع الإضافة فيها تدل على كثير من المعاني وذلك لايوجد إلا في لغة العرب ، أما في غيرها فلكل معنى أو حال له اللفظ الخاص به ، ولذلك تطول الجملة في لغات العجم عنها في لغة العرب .
إختراع النحو لعلاج اللحن
وكان العرب ينطقون لغتهم بالسليقة فلما اختلطوا بالأمم المفتوحة ما لبث اللحن أن أفسد سليقتهم ، وخيف على ضياع اللغة العربية وما يستتبع ذلك من انغلاق الأفهام عن القرآن ، فاستنبطوا قواعد اللغة العربية من خلال السماع ومجرى الكلام ، واخترعوا مصطلحات لها مثل الإعراب والفاعل والمفعول ، وجعلوها صناعة .
علماء النحو
أول من كتب فيه أبو الأسود الدؤلي باشارة " علي " وكتب الناس بعده إلى أن جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي أقام علم النحو ، وأخذه عنه سيبويه الذي أكمل الفروع وأكثر الشواهد ووضع كتابه المشهور الذي أصبح إماما في النحو لكل كتاب بعده ، ثم حذا حذوه الفارسي والزجًاج في كتب مختصرة للتعليم. ثم انقسم النحويون إلى مدرستي البصرة والكوفة وكثر اللجاج بينهما في الأدلة والقاعدة والقياس والشواذ والإختلافات الإعرابية خصوصا في القرآن . ثم جاء المتأخرون فاختصروا المطولات كما فعل إبن مالك ، أو اقتصروا على المبادئ كما فعل الزمخشري في المفصل ، وربما حولوا المختصر إلى نظم كإبن مالك وإبن معطي .
وهكذا فالمؤلفات في النحو كثيرة وطرق التعليم فيه مختلفة ، وكادت أن تضيع هذه الصناعة بالمغرب بذهاب الحضارة ، ووصلهم في المغرب – كما يذكر إبن خلدون – كتاب إبن هشام المصري وإسمه " المغني " وفيه علم جم إقتفي فيه أثر إبن جني .
علم اللغة : ( الصرف)
هو بيان الموضوعات اللغوية ، ذلك أن فساد الإعراب في حركات آخر الكلمة بسبب الإختلاط بغير العرب ما لبث أن تبعه فساد آخر في بنيان الكلمة وتراكيبها ، فاحتاجوا إلى حفظ الموضوعات اللغوية .
الخليل بن أحمد
وبدأ الخليل بن أحمد يحصر تراكيب الكلمة العربية حسب الحروف الأبجدية من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي ، وذلك وفق قوانين حسابية خاصة ، وبعد أن حصر كل التراكيب رتب الخليل أبوابه على حروف الأبجدية ، واعتمد فيه ترتيب المخارج ، فبدأ بحروف الحلق ثم حروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة ، ثم حروف العلة الهوائية ، وبدأ من حروف الحلف بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين .
ثم بين المهمل من التراكيب والمستعمل منها ، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب لهما .
بعد الخليل
ثم جاء أبوبكر الزبيدي بعد الخليل بقرنين فاختصر كتاب العين وحذف منه المهمل وكثيرا من شواهد المستعمل ، وكتب الجوهري في المشرق كتاب الصحاح على الحروف الأبجدية وبدأ بالهمزة واقتدى بالخليل في حصر التراكيب, وكتب إبن سيده من أهل دانية الأندلسية كتاب المحكم بطريق ترتيب كتاب العين وزاد فيه ذكر إشتقاقات الكلمات وتصاريفها , ولخصه محمد بن أبى الحسين في تونس الحفصية . وهناك مختصرات أخرى ، إلا أن كتاب الزمخشري في المجاز هو أروع ما وضع في مجازات الألفاظ ، وكتب الثعالبي فقه اللغة في معرفة إستعمال العرب للكلمة ، وكتب بعضهم في الألفاظ المشتركة وحصرها . وانتشرت المختصرات في هذا العلم – علم اللغة.
علم البيان ( البلاغة )
معنى علم البيان
إستحدث هذا العلم بعد النحو والصرف ، وهو يتعلق بدلالة الألفاظ وإفادتها المعنوية ، ذلك أن معنى الكلام المستفاد قد يأتي عن طريق مفردات الأسماء والأفعال والحروف ، أو بتغيير حركات الإعراب أو البناء وهذه صناعة النحو، وقد تأتي الإفادة عن طريق الدلالة المحيطة بواقعة الفعل ، وذلك بعد تحقيق صناعة النحو والصرف ، وعن طريق إختلاف الصيغة تختلف الدلالة وأهميتها ، فقولك جاءني زيد غير قولك زيد جاءني ، ففي الأولى تقدم المجئ لأهميته ، وفي الأخرى تقدم الجائي زيد لأهميته لدى المتكلم ، ونفس الحال في التأكيد من عدمه وزيادة التأكيد ، كقولك زيد قائم ، أن زيدا قائم وأن زيدا لقائم ، ومن ذلك إستعمال التنكير والعطف والإطناب والإيجاز والتشبيه والإستعارة والكناية وكلها هيآت وأحوال مختلفة الدلالات يبحثها علم البيان .
أقسام علم البيان
وينقسم علم البيان إلى ثلاثة أقسام : البلاغة : التي تبحث في الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ، ثم البيان : يبحث عن دلالة اللازم اللفظي وملزومه وهي الإستعارة والكتابة ، ثم البديع وهو تزيين الكلام بالسجع والتورية والجناس ..
علماء علم البيان
وبدأ الكتابة في هذا العلم جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة ، ثم بدأ العلم في الإكتمال بكتاب السكاكي المفتاح في النحو والتصريف والبيان ، ولخص القزويني ذلك الكتاب في " الإيضاح والتلخيص " وإبن مالك في كتاب " المصباح ".
إزدهارعلم البيان في المشرق
ويقول إبن خلدون أن علم البلاغة أكمل لدى المشارقة عنه لدى المغاربة لأن الحضارة أتم هناك ، ولضلوع العجم في الحضارة ، ولذلك كان تفسير الزمخشري مبنيا على البيان ، ولكن اهتم أهل المغرب بالبديع فأكثروا من أبوابه وأنواعه لسهولته وعذوبته بالنسبة لدقة البيان وتعمقه ، وكتاب العمدة لإبن الرشيق أشهر الكتب في البديع .
ثمرة علم البيان
وثمرة علم البيان في فهم الإعجاز القرآني في البلاغة وهي أعلى مراتب الكلام في انتقاء الألفاظ وجودة تركيبها ، ويدرك هذا الإعجاز من كان له ذوق في فهم اللسان العربي ، وانفرد الزمخشري بتفسيره في تتبع الإعجاز البلاغي للقرآن ، لولا أنه – في رأي إبن خلدون – يؤيد عقائد أهل البدع يعني المعتزلة ، ولذلك يعرض عنه أهل السنة ، وينصح إبن خلدون من يقرأ تفسير الزمخشري بأن يتشرب عقائد السنة أولا ، ثم يقرأ ويرد على الزمخشري ، أو يعلم أنه بدعه فيعرض عنه .
علم الأدب
والمقصود بعلم الأدب ثمرته ، وهي الإجادة في فن الشعر والنثر على أساليب العرب ، وذلك بجمع كلام العرب من شعر وسجع وما يقع خلال ذلك من أيام العرب وأنسابهم وأخبارهم ويستخلص منها مناحي البلاغة وقوانين النحو والصرف ، ولذلك قالوا أن الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط . وهي القرآن والحديث ، كما يحتاج صاحب هذا الفن لمعرفة الإصطلاحات .
وأمهات كتب الأدب أربعة ، أدب الكتاب لإبن قتيبة ، والكامل للمبرد والبيان والتبيين للجاحظ والنوادر لأبي علي القالي، ثم كتب الأخرون كثيرا في هذا الفن .
وكان الغناء تابعا للشعر ، ولم يكن الغناء في العصر العباسي ينافي الوجاهة والمروءة ، ولذلك كتب الأصفهاني الأغاني على أساس مائة صوت من الأغاني وجمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم ، وهو غاية كل أديب.
الفصل الثامن والثلاثون
اللغة ملكة صناعية
بين اللغة والبلاغة
يقول إبن خلدون أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة ، وبها يستطيع الإنسان التعبير عن المعنى المطلوب بحسب تمام ملكته في التعبير أو نقصانها . والبلاغة هي حصول الملكة التامة في تركيب الألفاظ المعبرة عن المعنى المقصود المطابق لمقتضى الحال .
بين الفعل والصفة والحال والملكة
ويقول إبن خلدون إن الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا فيصبح صفة للذات ، ثم تكرر الصفة فتكون حالا ، فالحال صفة غير راسخة ، ثم يزيد التكرار فتكون صفة راسخة ، وبذلك كان الطفل العربي بتعوده السمع والنطق الصحيح لايخطئ في الإعراب حتي صار ذلك ملكة أو صفة راسخة فيه ، ثم عندما اختلط العرب بالأمم المفتوحة أصبح أبناؤهم يسمعون اللحن في الكلام ويسمع كلاما أخر غير العربية فاختلط عليه الكلام ، وأخذ من هذه وتلك ، فتأثرت ملكة الأطفال ، وبهذا دخل اللحن في منطقهم وفسد اللسان العربي فاحتيج للنحو ، أي للضبط الصناعي للغة بعد ضياع السليقة ، وهذا بعد الفتوحات .
إختلاف الفصاحة بين القبائل
وقبل الفتوحات كان العرب داخل الصحراء أبعد عن الإختلاط بالأمم العجمية ، وكانت ملكاتهم نقية بالسليقة في اللسان العربي ، خصوصا قريش ،وثقيف وهذيل وخزاعة وكنانة وغطفان وأسد وتميم . أما عرب الأطراف على حدود الجزيرة العربية فقد فسد لسانهم من قبل لمجاورتهم الفرس والروم والأنباط ، مثل ربيعة ولخم وجذام وغسان وأياد وقضاعة . ولهذا لم يكن أهل النحو واللغة يحتجون بلسانهم في معرفة واستنباط قواعد اللغة من السليقة العربية الأصلية.
الفصل التاسع والثلاثون
لغة العرب في عهد إبن خلدون مختلفة عن لغة مُضر وحميَر
لهجة عصر إبن خلدون مثل لهجة مُضر
يرى إبن خلدون أن اللغة العربية في عهده تجري على طريقة لغة قبائل مُضر العربية ما عدا حركات الإعراب التي تحدد الفاعل المرفوع والمفعول المنصوب وغيرها ، وقد اعتاض الناس في عهد إبن خلدون بالتقديم والتأخير حتى يتحدد الفاعل والمبتدأ بالإضافة إلى القرينة .
إرتباط اللغة العربية بالبلاغة
ويرى إبن خلدون أن البلاغة في لسان قبائل مُضر أكثر حيث تدل الألفاظ على المعاني، وكل معنى لابد أن تكتنفه أحوال تخصه ، ويجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود ، وتلك الأحوال لها ألفاظ مخصوصة في كل اللغات ، ولكن في اللغة العربية يستعاض عنها بالتقديم والتأخير والحذف وحركات الإعراب في تركيب الكلمة أو باضافة حروف غير مستقلة ، وذلك دون كلمات خاصة مثل باقي اللغات ولذلك تجد الكلام العربي موجزا وأقل ألفاظا من اللغات الأخرى.
ومن هنا ارتبطت اللغة العربية بالبلاغة إلى عهد إبن خلدون الذي يؤكد أنه يجد في عهده الكثير من ألفاظ العربية الأولى وتعبيراتها وأساليبها ومقاصدها ، ولم تفقد إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم .
ومعروف أن لسان القبائل المُضرية إعتراه اللحن بعد اختلاطها بالأمم الأخرى فاحتيج إلى علم النحو لضبط اللغة ، وحتى لاينسى الناس لغة القرآن والحديث .
ويرى إبن خلدون أنهم لو اعتنوا باللسان العربي في عهدهم وعرفوا أحكامه لأمكنهم الاستغناء عن الحركات الإعرابية بأمور أخرى داخل اللغة منها قوانين ضبط الكلام ، وربما تكون في أواخر الكلام على غير المنهاج الأول في لغة مُضر .
بين لغة حميَر ولغة مُضر
ويقول أن لغة حميَر مع لغة مُضر كانتا بهذه المثابة ، وحدث إختلاف بين اللغتين فلا يصح إجراء اللغة الحميَرية على مقاييس لغة مُضر لأنهما كانتا لغتين مختلفتين . إلا أن العناية بلغة مُضر بسبب كونها لغة القرآن والشريعة جعلهم يستنبطون منها قواعد النحو ، وليس في عهد إبن خلدون ما يدعو إلى ذلك .
حرف Gأصيل في لغة مُضر
وأشار إبن خلدون إلى الإختلاف في نطق حرف القاف ، حيث جرت اللهجة على نطقها متوسطة بين الكاف والقاف ( أي مثل نطق حرف G باللغة الانجليزية ) ويرى إبن خلدون أن هذا التطور لحرف القاف هو الأصل في لغة مُضر ومما يتميز به العربي الصريح عن العربي الدخيل وعن لغة أهل الأمصار . لذلك فإن هذا النطق قد توارثته قبائل مُضر حتى عهده ، ويقول لعلها كانت لهجة النبي عليه السلام ، لذلك زعموا أن من لم يقرأ القرآن بها في صلاته فقد فسدت صلاته . ويبدي إبن خلدون حيرته في الأصل الذي جاءت منه القاف الصريحة لأن أهل الأمصار لم يستحدثوها وإنما تناقلوها أيضا من السلف ، وكان أكثر السلف من قبائل مُضر أيضا ، كما أن الجيل الذي ينطق بـ (G) لم يستحدثها وإنما تناقلها أيضا عن السلف إلا أنه تميز بعدم اختلاطهم بالأمصار وأهل العجم ، مما يرجح أن نطق القاف (G) لديه هو الأصل بدليل الإتفاق على أن هذا النطق إنما يميز العربي الصحيح من العربي الدخيل .
الفصل الأربعون
لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مُضر
يرى إبن خلدون أن اللهجة السائدة في الأمصار والحضر ليست لغة مُضر القديمة ولا لغة أهل الجيل المعاصر لإبن خلدون بل هي لغة أخرى قائمة بذاتها . مختلفة عن لغة مُضر وعن لغة جيل إبن خلدون . ويبرهن على أن لغة الأمصار قائمة بذاتها بوجود الإختلاف في داخلها ، وهو ما يعتبره النحويون لحنا في الكلام ، ثم أن هذا الإختلاف يظهر في اختلاف المصطلحات واللهجات بين الأمصار فيما بين المشرق والمغرب والأندلس ، ومع ذلك فكل لهجة تؤدي المقصود منها في الدلالة على المعنى وبدون حاجة إلى الإعراب والتزام قواعد النحو .
كما يبرهن على كون لغة الأمصار مختلفة عن لغة مُضر بأن الإبتعاد عن لغة مُضر إنما يكون بقدر الإختلاط بالعجم ، ذلك الإختلاط الذي يؤثر على ملكة النطق العربي الفصيح حيث يسمع الطفل من هنا وذاك ، وبقدر ما يسمع من اللغة الأخرى يكون ابتعاده عن الفصاحة في لغته الأصلية ، وفي مناطق الأطراف حيث تكاثر الإختلاط مثل أفريقيا والمغرب تغلب العجمة على اللسان العربي وصارت هناك لغة أخرى خليطا بين العربية والبربرية ، ونفس الحال مع المشرق في الإختلاط بالفرس والترك ، وكذا مع الأندلس والأسبان ، ومن هنا صار لكل إقليم لغة مخصوصة به تخالف لغة مُضر وتخالف بعضها بعضا .
الفصل الحادي والأربعون
في تعليم اللسان المضري
لقد ذهبت ملكة اللسان المُضري العربي الفصيح ، وأصبحت اللغة في عهد إبن خلدون مغايرة للغة أهل مُضر التي نزل بها القرآن ، أي أصبحت لغة أخرى امتزجت فيها اللغة الأعجمية ، فكيف يمكن تعلم لغة مُضر القديمة ؟
يجيب إبن خلدون على هذا السؤال بأن يأخذ الإنسان نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على ألسنتهم من القرآن والحديث والشعر وكلام السلف حتى تتربي لديه ملكة اللغة السالفة الفصيحة البكر ، ثم يأخذ نفسه في تعبيره عما في ضميره بحسب عباراتهم وكلماتهم وما حفظه من أساليبهم ، ويداوم على ذلك الإستعمال ، وبالحفظ والتلقين وجريان اللسان بنفس اللغة تزداد الملكة رسوخا ، وهذا يحتاج إلى سلامة الطبع وتفهم العقلية العربية والذوق العربي . وعلى قدر المحفوظ وكثرة الإستعمال تكون جودة القول المصنوع بفصاحة ولغة أهل مُضر .
الفصل الثاني والأربعون
ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم
صناعةالعربية هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها ، أي هي علم بالكيفية ، وليس علما بنفس الملكة ، مثل الذي يعرف إحدى الصناعات علما نظريا ولا يستطيع أن يمارسها عمليا . وهكذا العلم بقوانين الإعراب ، فهو شئ ، ولكن تطبيقه والإلتزام به في النطق والكتابة شئ آخر ، والعكس صحيح ، فهناك من ينطق العربية نطقا صحيحا ، ويأتي بها شعرا ونثرا فصيحا ، وهو لا يدري شيئا عن قوانين النحو والصرف مع التزامه بهذه القوانين في سليقته وفطرته . وهكذا فالملكة أو السليقة تختلف عن صناعة العربية وقواعدها . وهناك من يجمع بين صناعة اللغة – أي الإعراب ، وبين الفصاحة ، وذلك قليل ، كما يقول إبن خلدون ، ولذلك حشا سيبويه كتابه في النحو بأمثلة وشواهد من الأدب العربي ، حتى تتوازن القواعد مع التطبيق والإستعمال أي تتوازن الملكة مع الصناعة . وذلك ما نفتقده في كتب النحاة المتأخرين ، الذين استغرقوا في القواعد دون إيراد الأمثلة والشواهد ، إلا أن الأندلس في عصر إبن خلدون إمتازت بالعناية بالأمثلة والشواهد والتطبيق عن المغرب وشمال أفريقيا اللتين أصبحت فيهما علوم النحو واللغة بحوثا نظرية جامدة وبعيدة عن المران وعن تربية الملكة والسليقة العربية .
الفصل الثالث والأربعون
تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان
وتحقيق معناه وبيان أنه لايحصل للمستعربين من العجم
الذوق هو حصول ملكة البلاغة للسان ، والبلاغة هي مطابقة الكلام للمعنى المراد من جميع وجوهه بخواص في التركيب تفيد ذلك ، والبليغ العربي يتحرى ذلك في كلامه ، وهو بنفس القدر إذا سمع كلاما يخلو من البلاغة لم يهتم به . ويرى إبن خلدون أن البلاغة العربية ملكة تمكنت ورسخت بين العرب وظهرت كأنها طبع ،وهذه الملكة تتمكن بالممارسة والتكرار بالقول والسمع والتنبه لخواص البلاغة في الكلام، وليس بمعرفة القواعد البلاغية والنحوية، ولذلك فإن صاحب ملكة البلاغة لا يستطيع الفكاك منها إذا تكلم أو إذا استمع ، فإذا تكلم أفصح وكان بليغا ، وإذا استمع اهتز للبلاغة ولم يهتز للكلام غير البليغ ، وهذا أمر وجداني تخلقه الممارسة والمعايشة لكلام العرب وفصاحتهم . شأن من تربى في البادية الفصيحة فتكلم بالعربية الأولى في تلقائيتها وفصاحتها وبلاغتها والإلتزام الفطري بالإعراب .
واصطلح أهل البيان والبلاغة على أن الذوق هو تلك الملكة البلاغية التي ترسخ وتستقر في الوجدان ، وهو مأخوذ من ذوق الطعام باللسان ، وأصبح يدل على تذوق البليغ للكلام .
ومن الطبيعي فهذا الذوق البلاغي والأدبي بعيد عن الأعاجم أو الداخلين في تعلم اللغة العربية من غير العرب ، لأن ملكة الذوق تترسخ بعد معايشة للأسلوب العربي الفصيح . كما أن هذا الذوق قد ضاع من أهل الأمصار ، مع معرفتهم بالقواعد والأحكام , ويقول إبن خلدون إن أئمة البلاغة والنحو كانوا من الأعاجم مثل سيبويه والزمخشري والفارسي ، إلا أنهم تربوا في مجتمع عربي فصيح أضفى عليهم طابعه الثقافي بحيث كانوا أعاجم في النسب فقط ، وكانوا عربا في النشأة والثقافة والإنتماء والمهنة ، وكان ذلك في أوان قوة العربية وفصاحتها ، وعكفوا على الممارسة والدرس فحصلوا على الغاية من ذلك . ولايتوفر ذلك لأي أعجمي اليوم إذا خالط العرب حيث فسد اللسان العربي وضاع الذوق البلاغي العربي ، وحتى لو عرف القواعد النحوية والبلاغية فأين له بالملكة إذ ستكون متعذرة عليه لو حاول بالممارسة أن يرسخها في نفسه .
الفصل الرابع والأربعون
أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل الملكة
اللسانية أو الفصاحة العربية التي تستفاد بالتعليم ، ومن كان منهم أبعد
عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب
الملكة في الفصاحة هي الأساس
ذلك لأن المتعلم في الأمصار قد سبق له أن حصل على ملكة أخرى مخالفة للملكة اللسانية التي يريد أن يتعلمها . إذ تعلم في طفولته اللهجة المحلية وهي مزيج من العربية والأعجمية التي كانت سائدة قبل الفتح ، ولذلك يسارع بعضهم بتعليم الأولاد اللغة ، والنحو ، إلا أن قواعد النحو لاتفيد ، بل الذي يفيد هو تأسيس الملكة بمعايشة كلام العرب .
بين الأندلس وأفريقيا العربية
وكلما ابتعد القطر عن الفصاحة العربية والتحم بالأعاجم تباعد عن تعلم اللغة العربية ، وعن توافر ملكتها ، ولذلك كان أهل شمال أفريقيا والمغرب أعرق في العجمية وأبعد عن الفصاحة العربية في الشعر والنثر ، أما أهل الأندلس فقد كانوا أقرب إلى العربية بسبب معايشتهم للمحفوظات الشعرية والنثرية ، وكان فيهم إبن حيان المؤرخ وإبن عبد ربه والقسطلي ، وازدهر ذلك في عصر الطوائف ، وعندما ضعفوا أمام الزحف الأسباني تناقص العمران فيهم وتناقص شأن الصنائع ومنها الأدب ، وهجرها الأدباء ألى الساحل الأفريقي ، وهو دونهم في الملكة اللغوية والأدبية فانقرضوا .
بين الأندلس والمشرق
وشأن المشرق كالأندلس في تقوية الملكة ، وظهر في المشرق فحول الأدباء وأمهات الكتب مثل الأغاني للأصفهاني ، وبقيت الملكة مستحكمة في المشرق في الدولتين الأموية والعباسية ، بل ربما كان فيهم من هو أفصح ممن كان في الجاهلية ، وظل ذلك حتى تلاشى أمر العرب وفسدت لغتهم وغلبهم الأعاجم في عصر البويهيين والسلاجقة .
السؤال الثاني و أعتذر على الاطالة : أذكر محنة الباحث الشاب المصري اسلام بحيري واذكر انه قد ناشدكم احد قرائك بأن توجه رسالة أو مقال للسلطات المصرية ولكنك امتنعت حرصا عليه لأنك ارتأيت بأن توجيهكم مقال بشأن محاكمة واعتقال اسلام بحيري قد يؤدي الى تعنت السلطات المصرية و تعسفها وبالتالي العناد بحبسة فترة أطول ... لكنكم يا دكتورنا العزيز أطال الله بعمرك قد سارعت بكتابة مقال حين قامت قوات الأمن المصرية باعتقال قريبكم الأستاذ المحترم رضا عبد الرحمن علي ! أرجو عدم الظن بأني أتصيد عليكم ولكني لم استطع فهم موقفك من الحالتين فهل لو تكرمتم ولو سمحتم وتوفر لكم الوقت والجهد بأن تساعدني على فهم موقفك من الحالتين ! يشهد الله اني احترمك يا دكتور أحمد وأتابع بشغف وعن كثب أغلب ما تنشره على الفيس بوك وعلى موقع أهل القرآن لهذا فيهمني أن أفهم مواقفك في كل حالة لأني متابع لابأس به لحضرتكم !
تحياتي
سالم قنبر الحسين
دكتورنا العزيز اسمح لي ان اضيف نقطة استدرك فيها على سؤالي الأول
"فأجنحة الملائكة صنف من المعدود و النساء صنف آخر من المعدود مختلف تماما عن الصنف الأول في الكيف والماهية ولكنهما اتفقا فقط في العدد مثنى وثلاث ورباع !" أضف الى هذا فان رب العزة في آية التعدد في سورة النساء انما يشرع للمؤمنين لمن أراد التعدد فهي آية تشريعية .... أما آية وصف أجنحة الملائكة في سورة فاطر انما يصف فيها ربي خلقه (الملائكة) وبديع صنعته في تعدد أجنحة الملائكة فهي آية وصفية تصف حال مخلوق لرب العزة وليست آية تشريعية كآية تعدد الزوجات في سورة النساء ...
تحياتي وكل عام وأنتم بخير
تحياتي
سالم قنبر الحسين
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5094 |
اجمالي القراءات | : | 56,261,134 |
تعليقات له | : | 5,426 |
تعليقات عليه | : | 14,784 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
الخليل بن أحمد العبقرى العربى مبتدع علمى النحو و العروض
لمجرد التذكير : مقدمة تاريخية عن نشأة علم النحو
دعوة للتبرع
أهلا وسهلا: سلام علی ;کم یا دکتر احمد صبح 40; ...
أسئلة متعددة : اود ان اسالك عن ما فاتنى من عبادا ت اول ا هل...
حسن البنا وأحمد فتحى: بسم الله الرحم ن الرحي م الاخو ه ادارة موقع...
كفر بالنعمة: ما رأيك فى السعو ديين الذين يرمون فى...
ليس تخويفا لداود : ليه الله يخيف عبده النبى داود ؟ ...
more
بارك الله في عمركم ,, لدي سؤالين لو تكرمتم وأعتذر عن الخروج عن موضوع المقال !
السؤال الأول : في ما يخص تعدد الزوجات .. أذكر لكم وللدكتور محمد شحرور أنكم شرحتم المقصد التشريعي العظيم لرب العزة جل وعلى في اباحة تعدد الزوجات في سورة النساء بأن التعدد مستحب العمل به مع الأرامل اللاتي يعلن أيتاما .. كما تعلمت من منهجكم الفكري بأن آيات ربي الكريمات في القرآن العظيم تشرح بعضها البعض .. فلقد استدللتم عملا بهذه القاعدة في اثبات عدم تقييد التعدد بأربع زوجات في شرح الآية الكريمة التالية (( وان خفتم الا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ..)) بآية أخرى كريمة (( الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء ..)) .. سؤالي هنا لحضرتكم آملا الاستفادة من علمكم , هل بالضرورة أنه لو توافق العدد بين معدودين فان المعدودين يتوافقا ؟ اعطي مثالين أحدهما كمي والآخر معنوي .. المثال الكمي : هل لو قلنا أن لدنيا في هذه السلة 10 سكاكين و 10 أقلام , فهل بالضرورة أن القلم يقوم بعمل السكين والعكس بالعكس لمجرد توافقهما في العدد 10 ؟ المثال المعنوي: خدم الدكتور أحمد صبحي منصور القرآن العظيم 30 عاما بكل اخلاص و خدم الدكتور "فلان" "الدين الأرضي" 30 عاما بكل اخلاص .. فهل من الضرورة بأن الدكتور أحمد قد قام بنفس عمل الدكتور "فلان" والعكس بالعكس لمجرد أن كلاهما قد عملا لخدمة ما قد اختاره كل واحد لنفسه في نفس الفترة الزمنية 30 عاما ؟
أعذرني يا دكتوري العزيز فأنا أجد صعوبة في فهم استشهادك في أول آية في سورة فاطر بثالث آية في سورة النساء فأجنحة الملائكة صنف من المعدود و النساء صنف آخر من المعدود مختلف تماما عن الصنف الأول في الكيف والماهية ولكنهما اتفقا فقط في العدد مثنى وثلاث ورباع ! اعذرني فأنا علمي عبارة عن صفر صغير على الشمال (اليسار) مقارنة بعلمك الغزير فأرجو ان توفر لك الوقت والجهد بأن ترشدني !