لعل أخطر ما علينا البراء منه، هو نظرية المؤامرة، المتفشية في مصر وسائر الدول العربية. فهي تحول توجهاتنا نحو العالم من حولنا، بحضارته وقيمه ومعاييره، إلى حالة هوس محتقن بالتوجس والعداء والكراهية. ما أعرفه أن هناك فرق بين المؤامرة، وبين تحركات قوى ودول، محلية وعالمية، تعمل وفقاً لما تراه مصالحها. إذا توافقت أمريكا مثلاً مع الإخوان المسلمين (الذين انتخبهم المصريون مع السلفيين بأغلبية كاسحة)، فهذا لتحقيق مصالحها مع من يحكمون مصر، بناء على انتخابات ديموقراطية. يكاد لا يوجد مؤامرات إلا فيما ندر، وإنما توجد تباينات في المصالح والمواقف، يترتب عليها تباين في التحركات والخطط التنفيذية، تماماً كما توجد نقاط تلاق، تؤدي لتوافقات وتحالفات. لكن كثير ممن يسيئون فهم نظرية دارون، يتصورون أن قصة الحياة والغابة، تدور في الصراع بين الناب والمخلب، ويجهلون التكافل والاعتماد المتبادل بين الكائنات كافة، وليس فقط بين البشر. هؤلاء يعرفون الحياة لعبة صفرية zero sum game، ولا يلتفتون للعبة المكسب المتبادل win/ win game.
تبدو "نظرية المؤامرة" توصيفاً سياسياً، أقرب للوظيفة الموكلة في الخطاب الديني إلى "الشيطان"، الذي يقوم بدور المسؤول عن سقطاتنا وفشلنا. فالشعب المصري قد انتخبت أغلبية منه نواباً ورئيساً من الإخوان المسلمين، لكنه عندما انقلب عليهم، صارت أمريكا الشيطان الأعظم، هي التي تآمرت معهم على أخونة مصر وتقسيمها، فيما فلول الإخوان الآن على منابرهم الإعلامية، يتصايحون بأن أمريكا هي التي دبرت ما يسمونه "انقلاب 3 يوليو"!!
لعل المبرر الوحيد لرؤيتنا أن العالم كله يريد إضعافنا بل وتدميرنا، هو أن هذا ما نضمره نحن للعالم. نحن في الحقيقة أسرى تلك التصورات التي نرى بها العالم كأعداء متربصين، لأن هذا هو موقفنا نحن من العالم. فكيف لنا أن نتصور النقاء والموضوعية في ضمائر الآخرين، فيما ضمائرنا نحن، اللاموضوعية واللاعقلانية، مشحونة بهذا الكم الهائل من الضغينة والحقد والكراهية؟. . يضاف هذا بالطبع لترويج الطغاة لنظرية المؤامرة، فالتخويف من عدو خارجي، يعطي لطغاة الحكام المبرر لاستبدادهم وفسادهم، ولتكون المعارضة انحيازاً لأعداء الوطن، ومشاركة لهم في مؤامراتهم الدنيئة، كما تكون شماعة نموذجية، لكل الإخفاقات والكوارث، التي تتسبب فيها حماقاتهم وانعدام جدارتهم. أيضاً قد تفيد في تجييش فرقاء شعب، فشلوا في العثور على قواسم مشتركة بينهم، فيكون الحل في التوحد في الخوف من عدو خارجي، حتى لو كان متوهماً.
أصوات عالية ترتفع الآن في مصر، ترى على رأس أولويات المرحلة الراهنة تحقيق ما يسمونه "الاستقلال الوطني" أو "التحرر من التبعية". ما كان يمكن أن يكون مفهوماً وشعاراً جديراً بالتثمين، لولا توطن هوس "نظرية المؤامرة"، التي استزرعها الطاغية الراحل جمال عبد الناصر، وقام برعايتها وري غروسها الشيطانية تيار الإسلام السياسي. لنجد هذا المفهوم الوطني الأصيل الآن، محملاً بشحنة عداء وتوجس من الآخر. وبالتحديد ذلك اللآخر الغربي، معقل الحرية والديموقراطية التي نتغنى بها، وصاحب الحضارة التي فشلنا حتى الآن في التعلق بأهدابها.
هكذا وتحقيقاً لأهداف ثورة 25 يناير المجيدة، وجدنا سيادة السفيرة/ مرفت التلاوي، رئيس المجلس القومي للمرأة، تطرد وفداً من مراقبي الاتحاد الأوروبي، لتقديمه تقريراً ينتقد فيه الانتخابات الرئاسية، ويرصد بعض حالات التحرش الجنسي في الانتخابات الرئاسية، وذلك أثناء الندوة التي نظمها المجلس القومي للمرأة، عن المشاركة السياسية للمرأة في الانتخابات الرئاسية. . لا نظن أن هذا الموقف من سيدة ومسؤولة مصرية على هذا المستوى، هو مجرد موقف فردي شاذ. فالحقيقة أن هذا التصرف يأتي متسقاً مع روح شائعة لدي العامة، بتأثير "نافخي الكير" في سائر وسائل الإعلام، علاوة بالطبع على الأفلام السينمائية والأعمال الدرامية التليفزيونية، التي تصور دول وشعوب أوروبا وأمريكا تحديداً، وكأن لا هم لها ولا رسالة تسعى إليها في الحياة، غير تدبير المؤامرات والمكائد، لتدمير بلادنا، وإبقائنا كما نحن الآن بالفعل في أسفل سافلين!!
شهادة أظنها حقاً، أن رؤية السيسي للعلاقة بالعالم ناضجة، على الأقل وفق ما أدلى به في أحاديثه أكثر من مرة. لكن من حوله أمثال مرفت التلاوي، وهم غالبية المتثاقفين النابحين ليل نهار، يدفعون مصر إلى مواقف مخجلة، ويأبون اتخاذها للطريق السوي، باتجاه دولة متحضرة متوافقة مع قيم ومعايير العصر.
مقابل هذا نجد سؤالاً آخر ملحاً، قلما وجدنا من يصيغه بالوضوح الذي يتناسب مع جوهريته وهو: كيف يمكن أن نمهد أمام أولادنا الأرض، ونزودهم بالآليات التي تمكنهم من الالتحاق بالركب العالمي، قبل أن نتعفن، إن لم نكن قد تعفننا بالفعل؟!!
علينا أن نعالج الأمر بنيَّة البحث عن حل للإشكالية التي نواجهها، لا بنيَّة العثور على مبررات لموقفنا الكارثي. وأن نقبل عن طيب خاطر تغيير ما بأنفسنا، فهذا أقرب منالاً من المحاولات الدون كيشوتية لتغيير العالم الذي لا يعجبنا. أو بالأصح لتدميره، شفاء لما يعتمل بصدورنا من غل. نحتاج لثقافة أخرى غير ثقافتنا المتوارثة. ثقافة محبة للحياة، فلو أحببنا الحياة، سنحب أنفسنا، ونحب كل من حولنا، بخلاف ثقافة الكراهية السائدة، التي يظهر منها كراهيتنا للآخر، لكن لو توغلنا في أعماقنا، سنجد الجذور هي كراهية الحياة، وكراهية أنفسنا. أليس هذا ما تشير إليه ظاهرة الانتحاريين أو الاستشهاديين من شبابنا؟!!