الانحياز للفقراء
كمال غبريال
من أكثر الشعارات والمفاهيم التي يلوكها الكثيرون في مصر الآن، خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011، تعبير "الانحياز للفقراء". الحقيقة أن هذا التعبير يحمل لي مدلولات غاية في السلبية. وأراه يعود بنا إلى عالم غادرته البشرية منذ نصف قرن على الأقل، كما أراه يحمل لنا تهديداً بصراع مجتمعي اقتصادي، يضاف إلى ما تعانيه مصر والمنطقة من صراعات دموية، ترفع شعارات ومفاهيم دينية.
من غير المتصور أن يكون التعاطف مع الفقراء، محل خلاف أو جدل، مهما تباعدت الرؤى والأفكار بين مكونات أي مجتمع. الخلاف فقط يتركز على التصورات التي يتبناها الفرقاء، لتحويل هذا التعاطف إلى سياسات، تؤدي لنتائج إيجابية، تنعكس على حياة من نتعاطف معهم. ففي جميع القضايا، وليس ما نحن بصدده هنا فقط، تتوقف صحة وصلاحية تصورات الحلول للإشكاليات، على صحة فهمنا وتوصيفنا للمشكلة محل النظر وأسبابها. فهذا الفهم أو التوصيف هو القاعدة التي ننطلق منها، بحثاً عن الحلول. ولا يستدعي جدال القول، أن القاعدة الخطأ لابد وأن تذهب بنا إلى طريق آخر، لا نحقق فيه أياً من أغراضنا، وقد يؤدي في أحيان أخرى لمضاعفة المشكلة التي أردنا معالجتها.
الحقيقة أن مفهوم "الانحياز للفقراء" الشائع، بما يصاحبه من تهويمات يطلقها من يلوكونه ليل نهار، ما لم يكن ذلك متاجرة وارتزاقاً به، فإنه ينطلق من النظرة الماركسية المشوهة للمجتمع، والتي تقسمه إلى "طبقتين"، فقراء وأغنياء، عمال ورأسماليين. بداية مفهوم "الطبقات"، بما يتضمن من انغلاق كل طبقة على أهلها، لم يعد له وجود في عالمنا، منذ نهاية عصر الإقطاع والنبلاء، وبداية عصر الصناعة، ناهيك عما تم بعدها من تطور في تركيب المجتمعات، وفقاً لتطور المراحل الحضارية. الفقر الآن ليس صفة ملازمة لطبقة أو مجموعة محددة من البشر. وإنما هو "حالة فشل" فردي ومجتمعي. فشل الفرد في امتلاك مقومات النجاح، وفشل المجتمع في الأخذ بيد أفراده، وتمكينهم من امتلاك هذه المقومات. هذا الفشل لا يمكن تداركه أو علاجه، بهذا المنظور والرؤية الطبقية التي ينضح بها تعبير "الانحياز للفقراء"، والذي يحمل بين طياته حالة عداء أو مواجهة، مع طرف آخر هو "الأغنياء". المقاربة الصحيحة فيما نرى، هو النظر للفقر، لا كصفة أو "هوية"، لأي أحد أو مجموعة من البشر، ولكن النظر له باعتباره "حالة "فشل" في تحقيق النجاح. ويحتاج هذا "الفشل" إلى دراسة العوامل المسببة له، باعتباره مشكلة اجتماعية، تهم سائر أفراد المجتمع، سواء كانوا "أغنياء" أم "فقراء"، مفارقة للنظرة الماركسية الشوهاء، التي تصور أن "غنى الأغنياء"، يقوم على "إفقار"الفقراء". فهذا بكل المقاييس ليس صحيحاً في عالم اليوم، هذا إن كان صحيحاً في يوم ما. فما أصعب أن تكون "غنياً" أي "ناجحاً"، في مجتمع "فقير" أي "فاشل"!!
المشكلة أن تعبير "الانحياز للفقراء"، يبدو كما لو كان يتضمن أن "الفقر" في ذاته، يشير إلى قيمة إيجابية في "الفقير"، تدفع للانحياز له، مقابل قيمة سلبية في "الغني"، تؤدي للانحياز ضده. هو كذلك يحمل مضموناً عقيماً، يقف حائلاً دون المعالجة الصحيحة لحالة الفقر، وهو اعتبار الفقر نتيجة "حالة ظلم" حاقت بالفقراء، دون أن يكون للفقراء أي دخل من قريب أو بعيد بها، وبالتالي يكون كل ما على "الفقراء"، هو انتظار "المخلص" أو "الحاكم العادل"، الذي يرفع عنهم هذا "الظلم". ويبدو الأمر هكذا لا يقتضي من "المخلص" أكثر من بضعة قرارات يصدرها، فيرفع "الظلم" عن المظلومين، ويسترد حقوقهم "المنهوبة" من قبل "الظالمين". وهذا بالفعل هو الفكر الشائع في مصر الآن.
الأمر هكذا ليس فقط يؤسس لمفاهيم تؤدي إلى الصراع الاجتماعي المدمر، لكنه يؤسس أيضاً لترسيخ ثقافة سلبية لدى الإنسان الفرد. فالطبيعة البشرية تنحو لاستمتاع الإنسان بتصور نفسه في دور الضحية، غير المسؤولة عن كل ما تعاني منه من سلبيات، مصدرها الوحيد "شرور" ارتكبها "أشرار". بالطبع لا يخلو الأمر في حياتنا العملية الإنسانية، من "شرور" يرتكبها البعض ضد بعض آخر، تتسبب في تعويقهم عن تحقيق النجاح، أو تؤدي إلى سلب بعض ما كانوا يستحقونه، من نتاج سعيهم لتحقيق النجاح. لكن هذا في حالات حدوثه، يكون في الأغلب الأعم، الذي يتحتم البناء عليه، هو جزء من كل شامل للعديد من العناصر، التي تنتظر منا معالجة بذات الشمول والجذرية.
إذا تحدثنا عن الفقر باعتباره "حالة فشل" في تحقيق "النجاح"، يقفز أمامنا تساؤل، عن دور كل من الفرد والمجتمع في كل من حالتي "الفشل" و"النجاح". إذا نظرنا بداية إلى دور "الفرد"، وجدنا أن الفرد يصعب عليه النجاح في مجتمع يتسم بالفشل، كما يندر أو يقل عدد الفاشلين في مجتمع يتسم بالنجاح. بحيث نستطيع أن نقول أن المجتمع الناجح، مكون من أفراد ناجحين، والعكس صحيح بالطبع. على أن المسألة ليست كما قد تبدو هكذا، عملية حسابية لأعداد الناجحين أو الفاشلين الذي يشكلون غالبية المجتمع. فالمجتمع يختلف عن الجماعة، التي هي وفق تعريفها عدد من الأفراد يشغلون حيزاً معيناً من المكان، في لحظة أو فترة زمنية محددة. فالحيوانات فقط هي التي قد تعيش في "جماعات"، دون اعتماد متبادل بين أفرادها للتغلب على مصاعب الحياة ومواجهة متطلباتها. أما "المجتمعات" فتحتوي علاوة على عديد أفرادها، مجموعة النظم المجتمعية المنظمة والمتحكمة في حياتها، وتشمل القيم والعادات والتقاليد ونظم وأساليب الإنتاج، وهذه تلعب دوراً محورياً في تقرير "نجاح" أو "فشل" الفرد في سعيه لإقامة حياته. بالطبع بجانب دور الفرد، الذي إذا غاب عنا، أو تجاهلناه لسبب أو لآخر، تفقد مقاربتنا قيمتها، وتفشل في تحقيق أي من أغراضها.
مشكلة "الفقر" بمختلف جوانبه المادية والثقافية والاجتماعية، هي مشكلة مصر الأولى وربما الأخيرة أيضاً، والمعالجات والمقاربات الفاسدة لها، هي صخور توضع في طريق الشعب المصري، لتحقيق ما يصبو إليه من حياة أفضل.
اجمالي القراءات
12251