• موقف المجتمع المصري عموماً من قضية سد النهضة الإثيوبي، يكشف حالة المزاج الفكري والسيكولوجي، السائدة بعد ستة عقود من تفشي الأيديولوجيات ذات النزعة الهجومية الصدامية. أيديولوجيات العروبة واليسار والإسلام السياسي. والتي قام الحكام في العهود الثلاثة من انقلاب يوليو 1952، بتوظيفها لتجميع الجماهير حول الحاكم. علاوة على رد الفعل التلقائي لشعب متخلف منكفيء ومنغلق الفكر، على ما سميناه الغزو الحضاري والثقافي الغربي. ترتب على تفاقم هذه النزعة الهجومية الصدامية بالمجتمع، رواج نزعة دفاعية انسحابية لدى الأقباط، أكسبتها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية رداء مسيحياً تقوياً. المهم أن هذه النزعة الهجومية الصدامية صارت تلون مقارباتنا لكافة قضايانا. حتى تلك التي تحتاج لمعالجة فنية وسياسية محترفة وعلمية، مثل قضية سد النهضة. الخطير في الأمر ليس التناول الصدامي للأمر من قبل النخب الثقافية المصرية، فهذه لا تعرف غير الصدام الحنجوري، ومحاربة حتى طواحين الهواء الدون كيخوتية. فالأمر يبلغ خطورته القصوى بانتقال تلك الروح الصدامية لفئة الخبراء وأستاذة الجامعة المتخصصين في شئون الري ونهر النيل. هؤلاء الذين يفترض في أدائهم الوقار والصرامة العلمية. نجدهم خلعوا أردية العلم والمنطق، وتقمصوا شخصيات تلقي بنفسها في أحضان حالة صدامية مهووسة، ثم تبحث عن تبريرات وحيثيات لموقفها هذا، حتى لو بدت خلال ذلك في حالة مزرية من الجهل والتفاهة، مصحوبة بقدر مذهل من الاستعداد للكذب والتزييف.
الأمر خطير يا سادة، ويحتاج لعلاج سيكولوجي للشعب ونخبته، وليس إلى مجرد نقاشات علمية جزئية، في هذه القضية أو تلك.
• معرفة القراءة والكتابة وحدها، أو حتى الحصول على شهادات دراسية عالية، لا يكفي لمحو ما يمكن تسميته "الأمية الفكرية". أي الانتقال من "العقلية الشفاهية" إلى "العقلية الكتابية". فالأمر يحتاج للتدريب والتعليم الجيد، ليتعلم الفرد ويستوعب ما أوجدته "الكتابة" من إمكانيات، أحدثت ثورة في مجال الفكر، بما أتاحته من إمكانيات للتركيب والتعقيد في الأفكار.
العقلية الشفاهية تفتقد القدرة على التحليل، وعلى استيعاب الأفكار المركبة. فهي تعتمد في قراءة الأحداث وتفهم الأفكار، على الموروث الشفاهي من القوالب الفكرية، التي تحفظها في شكل أمثلة شعبية أو مقولات مأثورة، أو مفاهيم ذات تركيب بسيط، يقوم على ثنائية التضاد، فهذا أبيض أو أسود، خير أو شر، مع أو ضد.
وعندما ترد عليها فكرة مركبة، لا تستوعبها في ذاتها، وإنما تلجأ لتوفيقها مع أقرب قالب فكري تحتفظ به. فتفقد الفكرة المركبة بذلك محتواها. أي يفشل المرسل إليه في استيعابها كاملة. وهنا الصعوبة التي يواجهها صاحب "الفكر الكتابي" مركب التكوين، في إيصال فكره في مجتمع تسودة "الثقافة الشفاهية".
ربما نظرة عابرة على التعليقات التي ترد على مقاربات مكتوبة عبر "عقلية كتابية"، على مقالات المواقع الإلكترونية أو في وسائل التواصل الاجتماعي، تعطينا مثالاً لما نقول، حيث يندر أن نجد تعليقاً، نستطيع أن نحكم عليه أنه قد استوعب ما ورد كاملاً، وبنى تعليقه على هذا الأساس. فالأغلب أن نجد صاحب الرد قد اقتطع من العبارة الجزء الذي تصادف أن وجد له قالباً فكرياً مختزناً لديه، ليحشر بعضاً من العباره فيه، تاركاً باقي الأفكار بالعبارة أو المقال وكأنه لم يرها.
الحقيقة أن ظاهرة الدروس الخصوصية، التي انتشرت في التعليم المصري، بداية من أولى سنوات الحضانة، حتى التخرج من الجامعة. قامت بتحويل عملية التعليم، من عملية "كتابية"، حيث الدرس بالفحص والاستيعاب للمدونات المكتوبة، إلى عملية سماعية، يقوم المدرس فيها بدور المرسل الشفاهي، ويقوم الطالب بدور المتلقي السماعي، ولا يكون رجوع الطالب بعد ذلك للمدونات إلا لاستظهار الدروس والإجابات النموذجية بمنهج شفاهي. لا يتوقع بعد هذا أن نجد خريجاً قادراً على الفهم والتفكير العلمي، مهما حصل بعد ذلك على شهادات دراسية. وتظل العقلية المصرية هكذا في مرحلة ما قبل اختراع الكتابة.
قوالب الفكر المقدسة تظهر لنا هكذا كظاهرة مترتبة على نوعية "العقلية الشفاهية". ونقصد بالقوالب الأفكار النمطية، التي يتصور الناس لها صحة مطلقة، وتدخل لديهم في قائمة البديهيات والمسلمات. نأخذ هنا كمثال مقولة "الوحدة قوة، والفرقة ضعف". هذه العبارة صحيحة بالتأكيد، لكن "الوحدة" لكي تستحق هذه التسمية، تحتاج لتطابق الشكل مع المضمون، أي يكون التوحد ليس فقط في النظام المفروض على "العناصر الموحدة"، ولكن لأن تكون "العناصر" ذاتها تحمل مقومات التوحد فيما بينها، أما فرض توحد تعسفي بقوى خارجية، بغض النظر عن طبيعة المكونات، فإن النتيجة لابد وأن تكون "ضعفاً" لا "قوة". نرى أمثلة لهذا الآن في عالمنا. شاهدناه أولاً في بعض دول في أوروبا الشرقية بعد تحررها من الهيمنة السوفيتية، مثل تشيكوسلوفاكيا ويوجوسلافيا، ونراه الآن في منطقة الشرق الأوسط، في انفصال بعض المكونات واستقلالها التام، كما حدث في السودان. أو تحولها من نظام الحكم المركزي الموحد، إلى النظام الفيدرالي، كما حدث في العراق واليمن أخيراً. وأثناء تلك التحولات التي ترتبت على صحوة وتحرر الشعوب، نرى شيوع الأسى والتنديد بين العامة والنخب بما يحدث، واعتباره مؤامرات دبرها الشيطان الذي يقود العالم ويتربص بشعوبنا. يحدث هذا دونما اعتبار أو تأمل، ما إذا كان ما يجري هو لصالح الشعوب، أم ضد مصالحها، أو ما إذا كانت الشعوب الموحدة قصرياً وتعسفياً كانت في وضع قوي بالفعل، أراد الشيطان تدميره، أو أنها كانت في الحقيقة كيانات ضعيفة متفتتة داخلياً، وجاء الانفصال ليحيل الكيان الواحد الفاشل المتهالك، إلى كيانات صغرى متجانسة داخلياً، بما يتيح لها تحقيق النجاح والقوة الذاتية الحقيقية. بل ويتيح لهذه الكيانات المنفصلة التعاون والتكامل فيما بينها على أسس جديدة. تظاهرها مقومات حقيقية للتقارب. وهذا ما حدث من تكوين الاتحاد الروسي، بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي.
الخلاصة أن "العقلية الشفاهية" تعيش العصر الراهن، بعقلية عصور ما قبل اختراع الكتابة. عقلية غير قادرة على فهم واستيعاب ظواهر العصر بالغة التشابك التعقيد.
اجمالي القراءات
10441