مشروع الحوار القروي(3:6)
القرية المصرية ورغم كونها تفتقر للمبادرة وصُنع الإنجازات..إلا أنها تتأثر بالأحداث السياسية بمعدل متصاعد خاصةً في الآونة الأخيرة، فقد ساهم الإعلام في تشكيل وعي قومي موحد بين عموم الشعب لا فرق فيه بين مدني وقروي، فقديماً لم تؤثر الحروب العالمية على القرية المصرية إلا في اتجاه تجنيد الفلاحين، ورغم هذا التجنيد الواسع الذي طال شباب ورجال القرية إلا أن القرويون كانوا أقل اهتماماً بالسياسة من أهل المدن، وأبرز الأحداث الدالة على ذلك هو ما أعقب الحربين العالميتين الأولى والثانية من ثورات شعبية لأهل المدن أدت إلى إضعاف سلطة الاحتلال في الحرب الأولى ثم سلطة الملك في الحرب الثانية.
حتى ثورة 25 يناير بدأت في المدينة وتمددت-كمشاعر-في القرية، ولكنها لم تتطور لمستوى الثورة إلا في 30 يونيو من العام 2013، والأسباب كانت اقتصادية واجتماعية -كما سلف الحديث عنها في إطار أزمة الهوية الإخوانية داخل المجتمع المصري-ولكن قبل تاريخ تلك الثورات كان جُلّ اهتمام أهل القرية منصب على الخدمات وما تقدمه الحكومة للشعب، وهو اتجاه كان يكشف حالة الاستقرار السياسي التي كانت تتمتع بها الدولة المصرية، وكانت لها جذور من زمن عبدالناصر وما قدمته الحكومة آنذاك للفلاح، فأصبح الفلاح يعتمد على مبادرات الحكومة دون جُهدٍ منه، وهو لم يعي الفارق بين عبدالناصر ومبارك، في حين كان أهل المدينة يلحظون هذا الفارق ومن أجله قامت ثورة يناير.
لقد أفرزت تلك الفوارق بين المدينة والقرية إلى توحد جهود المدنيين للقرية، وقد وصلت تلك الجهود بسرعة بفضل الإعلام-وخاصةً الموجّه-فقد شعروا أخيراً أن قوة الثورة الحقيقية ليست في المدينة، قد تصلح هذه القوة المدنية في السابق، أما الآن فقد أصبحت القرية تُشكل أعظم خلفية لخصوم المدنية والحضارة، وعليه كان توجه المدنيون للقرية لاستيعاب أي طبقات جديدة نشأت بفضل الثورة المعلوماتية، وأظن أن الحوار القروي سيقوم بالأصل على تلك الطبقات تحديداً، فهم قادة الفلاحين الجُدد، وهم الذين أثروا وسيؤثروا على المشهدين الاجتماعي والسياسي الريفي.
مشروع الحوار القروي يقوم على رصد تلك الطبقات والتعامل معها، ومن ثم تقديمها كممثل للثقافة الريفية دون إخلال بالنظام الثقافي العام والشعبي، وأنا هنا أقصد تلك الطبقات المهتمة وليست الدارسة أو المتخصصة، فأزعم أن الدارسين والمتخصصين قد انتقلوا سابقاً للمجتمع المدني، ويصعب عليه تمثيلهم للقرية في حين يتشبعون بأعراف وقيم مختلفة، قد يكون المهتمون أعظم شأناً من غيرهم فيما لو تفرغوا لتنمية معارفهم، فالثقافة الحقيقية-كما قال إينشتين- هي التي بقيت بعد انتهاء فترة الدراسة، وعليه فالدارسون أو المتخصصون هم بالأصل ليسوا مثقفين سوى ثقافة هشة ربما تذهب مع المهنة وربما تبقى وتتطور حسب درجة التعليم وممارسة الوظيفة .
تلك الطبقات جميعها أراها مهتمة وهي مُقسّمة-لدي- كالتالي :
1-مهتمون ايجابيون: وهؤلاء هم المتفاعلين الثقافيين مع أهل المدينة، وهم عصب الحركة السياسية في الشارع القروي، وهم المؤهلون للحركة الشعبية أيضاً، قد يكون منهم دارسين ولكن الاستثناء يؤكد القاعدة.
2-مهتمون سلبيون: وهؤلاء لا هم لهم سوى التنفيس عن آرائهم وتعداد أصواتهم في الانتخابات، وربما يُشاركون في الحركة الثقافية الدينية ولكن عن بُعد وحَذَر شديدين...وللأسف ففي تقديري أن هذه الفئة هي أكثر الفئات عدداً في الشارع القروي، وهي محط أنظار شيوخ الدين، فهم يوجهون خطابهم الديني والسياسي لهذه الفئة والفئات الأدنى، وأعتقد أن سر ابتعادهم عن .."المهتم الإيجابي".. هو طبيعة الخطاب الديني الساكن لديهم، فلو كان خطابهم متحركاً لجاز لهم أن يؤثروا فيه ولو عن بُعد، وأعنى بالخطاب الساكن والمتحرك هو ديمومة التغيير لديهم، فهم يُعانون من الجمود الطبعي والمعرفي، بينما المهتم الإيجابي متواصل ثقافياً مع أهل المدينة، وهو متحرك بحركة الأحداث ويبحث دائماً عن التغيير، وتلك الجوانب جميعها تتصادم بالأصل مع دعوة الشيوخ .
3-مهتمون مُهمَلون: وهؤلاء هم الفلاحين ، فهم يهتمون بالأحداث ولكن لا أحد ينظر لآرائهم إلا للمصلحة، فالاهتمام الشعبي القروي بتثقيف الفلاح يكاد يكون معدوم، ولو لم تحل الدولة هذا المحل لبقيَ الفلاح مسجوناً في هذه الفئة لا يُغادرها إلا إذا ارتأت الدولة أنه من مصلحتها عقد دورات توعية دينية وثقافية عامة للفلاح المصري.
الدولة لا زالت تستهلك الفلاح ولا تعمل على توعيته إلا بما يخص مهنته فحسب، فتؤجر له المرشدين الزراعيين، بينما لا تنفق هذه الأموال على تعليم وتثقيف الفلاح في الدين وفي السياسة، وأتذكر أنه ومنذ سنوات عديدة كانت حملات.."محو الأمية"..قائمة على قدمٍ وساق، وقد أخذت تلك الحملات من جُهد ومال الدولة الكثير، ولكن في تقديري أن الفلاح ليس بحاجة إلى محو أميته الكتابية أكثر من محو أميته العقلية، فقد سار مشروع محو الأمية لسنوات عديدة ولكن دون فائدة ملحوظة أسهمت في تغير اجتماعي وثقافي في الريف.
قد نختصر معارك المرحلة في معركة واحدة نصب عليها جهودنا للتخفيف من الأعباء من جهة، وللاختصار والنفع من جهة أخرى، فالأمية العقلية هي أشد خطراً وأعظم تأثيراً من الأمية الكتابية، وإن كنت أرى ضرورة القراءة والكتابة إلا أنني أرى العقل قادراً على قراءة وكتابة الأحداث بشكلٍ منفصل بعيداً عن الورقة والقلم، وهذه ميزة بشرية أنعمها الله على الإنسان نجح من خلالها في التكيف مع الطبيعة وتفسيرها في حين لم يكن يقرأ ويكتب بعد.
ماذا سيحدث مثلاً إذا عقدنا ندوات متتالية في القرية نشرح فيها مفهوم الدولة الحديثة، ثم نعرج منها على الفرد والمجتمع بأسلوب مبسط ومنمق وواقعي، ماذا سيحدث إذا فهم أهل القرية أن علاقتهم بالدولة هي بالأصل علاقة خدمية نظراً لبُعدهم عن بؤرة الأحداث، وأنهم في مقدورهم تطوير تلك العلاقة إلى سياسية واجتماعية ودينية إذا أرادوا ذلك..سيفهم أهل القرية إذا استطاعوا تجريد مفهوم الدولة في أذهانهم، وسيشرحون لأنفسهم ما احتار في تفسيره الفلاسفة، فالفلاح المصري هو فيلسوف مُعطّل، وفور إصلاحه يبدأ بحركة أولى عنيفة يسترجع فيها كافة تحدياته ويُعوّض فيها نقائصه التي شعر بها في أيام الغُبن والتجاهل.
اجمالي القراءات
7444