مصر بين الصراع والحوار
الحقيقة أن "الصراع" و"الحوار" ليسا من حيث محمول المصطلحين طرفي نقيض، فالصراع بين طرف أو أكثر ليس من المحتم أن يتم بانتهاج العنف كما يبدو للوهلة الأولى من مفردة "الصراع"، فالحوار العقلاني ومحاولة التفاهم المتبادل، للوصول إلى نقاط يمكن عندها التوافق أو التخفيف من سخونة وحدة الصراع، هو جزء عضوي من أي "صراع طبيعي"، ونقصد بتعبير "صراع طبيعي"، النأي بالذهن عن نوعية من الصراعات المحمومة التي حفل بها تاريخ البشرية، والتي نطلق عليها بلغتنا المعاصرة تعبير "صراعات الإبادة"" أو "التطهير العرقي".
سلوك جماعة الإخوان المسلمين وشركائها فيما بعد ثورة الشعب المصري في 30 يونيو 2013، وما تلاه من قيام القوات المسلحة المصرية بالتقدم لإنقاذ البلاد من الانهيار، فاتخذت في 3 يوليو ما ارتأت أنه يحقق الإرادة الشعبية الكاسحة، بتنحية الإخوان عن السلطة، التي فشلوا وأساءوا استخدامها بطريقة فجة هددت البلاد بالضياع، هذا السلوك الإخواني الذي انتهج التهديد بحرق البلاد والعباد، والاعتصامات غير السلمية، التي تخرج منها غزوات تقطع الطرق وتقتل وتروع الآمنين في أنحاء البلاد، كل هذا أوجد بالشارع المصري حالة من الحيرة والجدل، حول الكيفية التي يجب التعامل بها مع تلك الحالة، التي تمثل استجراماً وخروجاً على القانون وتهديداً جدياً لمصر وأهلها، فرأينا من يرتدون ثياب الحمائم، مطالبين بمعالجة الأمر بالحوار، ومن وجدوا أنفسهم مصنفين كصقور، إذ لا يرون بداً من مواجهة الخروج على القانون بقوة وبحسم، مهما ترتب على ذلك من نتائج.
لاشك أن الخيار الأول لكل عاقل متعقل لابد وأن يكون هو "الحوار"، لكن أي مائدة للحوار السياسي بين أفرقاء في ظروف كالتي تمر بها جميع بلدان الشرق الأوسط الآن، ربما دون استثناء، تلزمها أصول وشروط لمن يجلس إليها، وأولها أن يكون الجميع ملتزمين بالأوليات والأساسيات المتفق عليها عالمياً وإنسانياً، كمبادئ المساواة والعدالة والحرية، وذلك وفقاً للمفاهيم السائدة والمواثيق الدولية، وليس الادعاء بتبنيها عبر تفسيرات وتخريجات تفرغها من مضمونها، بل وتنقلب بها إلى الضد، كما تفعل جماعة الإخوان وشريكاها السلفيون والجهاديون، وبدون تحقيق هذا الشرط تتحول مائدة الحوار إلى ساحة للتطاحن والصراع العدمي، أو إلى مائدة للتدليس، استسلاماً لتجرع السموم التي يبثها أعداء الإنسانية والحياة، هذا بالطبع ما لم يكن "الحوار" مجرد مظهراً أو تظاهراً وتجملاً لا يأخذه أحد بجدية، أو يكون وسيلة لاستهلاك الوقت، لغرض في ضمير هذا الطرف أو ذاك، فالوطن لابد أن يحتضن ويتسع لكل أفراده، لكنه لا يحتمل أي أفكار مهووسة قد يعتنقها بعضهم، وإذا ما اعتبرنا تنظيمات الإخوان والسلفيين والجهاديين بأفكارهم تنظيمات وتوجهات سياسية وطنية، فعلى الوطن عندها الخراب وليس السلام.
أيضاً لا يجب على أي دولة تحترم نفسها أن تسمح بأن يكون ممارسة العنف أو التهديد به ورقة ضغط تحقق بها أي فئة مكسباً أو مطلباً لها، فالتظاهر والاعتصام التي هي وسائل مشروعة للتعبير عن الرأي، وللضغط على أصحاب القرار للإلتفات إلى المطالب، تختلف جوهرياً عن اتخاذ الاعتصام بؤرة تهدد حياة الناس، لتأديبهم على عدم تضامنهم معهم، أو لإحراج النظام، إظهاراً له بمظهر الضعيف غير القادر على إدارة البلاد، أو لتخرج منها غزوات باسم المسيرات والتظاهرات، لتقطع الطرق وتطلق النار وتشعل الحرائق، أو تحاصر المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي، وهي مؤسسات خاصة، لا تندرج ضمن مؤسسات الدولة التي يمكن التظاهر أمامها للضغط عليها للاستجابة لمطالب مشروعه، فكلا المؤسسات القضائية والإعلامية يجب أن تكون منزهة عن أي ضغوط جماهيرية أو غير جماهيرية، حتى يتاح لها تأدية الوظائف المنوطة بها بالصورة المثلى. . الحوار لا يكون إلا بعد تحقيق الاستقرار والخضوع لسيادة القانون، وغير هذا ابتزاز واستجرام وإرهاب.
الآن لو أتينا إلى الخيار الآخر، وهو استخدام القوة في الصراع الدائر بين الدولة المصرية والخارجين عليها، ومع التحفظ على ما يبدو من أن جبالاً من المشاعر الإنسانية الرهيفة، قد هبطت فوق رؤوسنا فجأة وبدون مناسبة، نجد بصورة عامة أن اللجوء لوسائل عنيفة لحل المشاكل مرفوض إنسانياً قبل أن يكون مرفوضاً سياسياً، لكن حتى أعرق الدول تحضراً وديموقراطية لديها شرطة مسلحة وجيوش، تستخدمها حين لا يكون لاستخدام العنف بديلاً، ولا يعني وجوب استخدام القوة لوضع حد لما تشهده الدولة المصرية من تحد لها من قبل من نجحت جماعة الإخوان في تجييشهم بهذه الطريقة أو تلك، أي بالرشوة بالمال، أو بإقناعهم أن الإسلام في خطر، وأنهم يجاهدون في سبيل الله بما يثيرون من فزع وبما يرتكبون من جرائم، نقول أن قرار استخدام القوة لوضع حد لهذا العبث لا يعني الذهاب إلى قتل مصريين لمصريين، وتحويل البلاد إلى ساحة حرب أهلية يقتتل فيها الأخوة أبناء العائلة الواحدة والوطن الواحد، فحتى في الحروب بين الدول، هنالك قتال يستهدف قتل أفراد الطرف المقابل، وهناك استهداف السيطرة وفرض الإرادة على العدو بأقل قدر من العنف وإهدار الأرواح، وغير هذا التكتيك الأخير يدخل في نطاق ما يسميه العالم المتحضر "جرائم حرب"، رغم أن الحرب نفسها بكل صورها وأساليبها تعد جريمة ضد الإنسانية وتعد فشلاً للإنسان في أن يكون إنساناً، فمؤشرات الانتصار مثلاً لا ينبغي أن تكون قدر ما أزهقت من أرواح الطرف المقابل مقارنة بخسائرك في الأرواح، بل بقدر ما حققت من مواقع أفضل وسيطرة لقواتك على ميادين القتال، توصلاً لفرض إرادتك، لكن مع الأسف جذور المفردات العربية للتعبير عن الفعاليات الحربية تأتي مشتقة من ثقافة دموية، فنقول "اقتتال" بمعنى تبادل القتل، وليس كما في الإنجليزية Fighting بمعنى صراع أو اشتباك.
قبل محاولة حل أي أزمة ينبغي الذهاب أولاً إلى "إدارة الأزمة"، بمعنى السيطرة عليها وحصار تداعياتها وتحجيمها، بعدها يمكن التفكير في "حل الأزمة" بصورة نهائية، وهو ما سيكون أسهل وأقرب منالاً مما لو كانت الأزمة في صورتها الأولية العشوائية، أو المدبرة بما يحقق أغراض من تسببوا في الأزمة، ويحدث مثل هذا عند مقاومة حرائق مشتعلة، فلابد بداية من السيطرة على الحريق ومحاصرته، بعدها يأتي دور إخماده نهائياً. . فيما يخص أزمة الخارجين على القانون الآن من جماعة الإخوان المسلمين، لا يبدو لنا ثمة محاولة جدية من المسؤولين "لإدارة الأزمة"، فمازالت عصابة الإخوان تمسك بزمام المبادرة والفعل، وينحصر دور الدولة ومؤسساتها في ردود فعل لا تتناسب مع الحالة، ولا تبشر بخير في إدارتها، فيما نحن ننتظر منهم حلاً لها، وجدير بنا هنا أن نحذر من المبادرة بمحاولة "حل الأزمة" بالقوة، أي إنهاء تلك الاحتشادات والاعتصامات بالقوة، دون أن يسبق ذلك "إدارة للأزمة"، لأن التكلفة عندها ستكون باهظة من الدماء الإنسانية المصرية التي لا تقدر بثمن.
kghobrial@yahoo.com
ايلاف
اجمالي القراءات
8103