الورطة والبديل الغائب
إذا أنصت جيداً لكل ما يقال، وتأملت بتمعن ما يكتب، ولم تجد جديداً لم يسبق أن طرق أذنيك من قبل، فتأكد مهما ساد الهرج والمرج أننا لسنا في ثورة أو ربيع عربي أو مصري، وإنما في هوجة وفوضى وفشل شامل ومترام الأطراف، فثورة أي شعب هي انقلاب وتمرد على الذات، قبل أن تكون تمرداً على حاكم أو نظام حكم، هي تمرد على القيم والثوابت وأسلوب الحياة والعادات والتقاليد، وهي لابد وأن ترنو لتحقيق أهداف جديدة لم يتم التغني بها من قبل على القيثارات القديمة البالية، ولم تلهج بها من قبل حناجر الفهلوية والمخادعين والمتاجرين بمصائر الشعوب!!
الجدل الذي ينبغي إثارته في الشارع المصري ليس ما تستطيعه الجماهير بخروجها يوم 30 يونيو، أو إن كان توقيع الملايين على وثيقة "تمرد" المطالبة بسحب الثقة من رئيس الجمهورية سيؤدي لنتائج فعلية أم لا، فهذا ليس لب القضية وإن كان أحد هوامشها الخطيرة، المشكلة في أننا بعد عامين ونصف من تجربة أليمة ومعاناة، نكاد لم نلحظ تغييراً في وعي النخبة أو عامة الناس، بخلاف ذات الحدود والتوجهات التي بدأنا بها الحراك الجماهيري (أو الثورة)، كل ما استجد هو الغضب من حنث الإخوان لعهود مراوغة زائفة كانوا قد قطعوها لنخبة تفتقد لأبسط مقومات الجدارة، وغضب جماهيري من عدم قدرة عصابة أمضت عمرها في العمل السري على إدارة البلاد واستمطار السماء "المن والسلوى" أو "الفتة واللحمة والرز"، لشعب أدمن على المطالبة والأخذ، دون أن يطرأ على ذهنه البذل والعطاء، وهذا يشير إما إلى فشل للأمة والنخبة في تعلم أي درس جوهري مما حدث، أو أننا لم نتجرع بعد ما يكفي من المر والعذاب، لندرك أن الداء في أصل الشجرة وليس في فروعها أو ثمارها، إنه في منظومة أفكارنا شعباً ومعارضة وعصابات حاكمة.
لذا فإن أكثر ما نحتاجه الآن وكل آن إلحاحاً هو دفع الناس للتفكير خارج ذلك الصندوق اللعين المحشو بالأفكار البالية باختلاف أنواعها، بدءاً من الرجعية الدينية إلى الرجعية اليسارية والعروبية، إلى منظومة العادات والتقاليد والقيم الشعبية التي بقيت أكثر مما يسمح به عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة في تاريخه، وصولاً إلى تلك النظرة الأبوية للعلاقة بين الشعب والحاكم، والتي يغلب عليها نمط "تنابلة السلطان" التاريخي، حيث يتولى السلطان "ولي النعم" منح العطايا الجزيلة لشعبه المسكين، وإلا يُعد حاكماً قاسياً ظالماً. . هي اليقظة لنحرر أنفسنا من أنفسنا في البداية، وعندها أو تزامناً معها ستختفي من على الخارطة المصرية والشرق أوسطية كل تلك العصابات الملتحفة بعباءة الدين، ومعها فلول اليسارجية والعروبجية الذين سقطوا عمداً من عربة الزمن!!
ما نجح فيه عبد الناصر خلال ثمانية عشر عاماً من حكمه هو خصي الشعب المصري، وتحويل رجاله ومثقفيه إلى "أغوات"، يخرجون من سجونه ومعتقلاته ليسبحوا بحمده ويبشروا بحماقاته ويمجدوا مغامراته، في طفولتي كنا نلعب بما يسمى "الدبور أبو علقة"، وهو جزء بلاستيكي يدور إذا ما ضربناه بكرباج من حبل، وهذا ذات ما كان عبد الناصر يفعله مع عتاولة الناصريين الذين مازلوا يدورون من أثر كرباجه إلى اليوم. . هكذا كان من الطبيعي أن يأتي عصر السادات ومصر في حالة فشل ثقافي وسياسي واقتصادي، علاوة على الهزيمة العسكرية الوبيلة، وكأن السادات قد استلم "خرابة" وليس وطناً، فقام باستدعاء شياطين الارتزاق بالدين ليملأوا الفراغ، لتستكمل هذه الشياطين سيطرتها على "الخرابة" في عصر مبارك المديد، والعجيب (أو من الطبيعي والحالة هذه) أن الشعب المصري طوال ما تلا من عقود عجز عن إنتاج صفوة قادرة على تبني أو إنتاج أي فكر جديد، ما خلا استثناءات نادرة تعد على أصابع اليدين، ولا يجد هؤلاء الأخيرين مكاناً يليق بهم في الساحة المصرية، بعكس الخبث والزبد الذي ظل يطفو وحده على السطح، وبقيت النخبة التي كان من المفترض فيها مواجهة التخريب الثقافي الذي تمثله الهجمة الظلامية مشغولة بالارتزاق وباجترار حنجوريات وهرتلات الحقبة الناصرية.
لذا وبغض النظر عن أي مؤامرات أو تربيطات بين الإخوان وفصائل الإرهاب الفلسطيني (حماس) واللبناني (حزب الله)، كان إسقاط نظام مبارك يعني تلقائياً أن يحل محله غربان وذئاب الظلام الذين تعاظم شأنهم خلال حكم مبارك، فالبديل غير موجود أصلاً، ففلول العصر الناصري والساداتي والمباركي ليسوا بديلاً لأي شيء على وجه الأرض، لهذا ورغم أن علينا طرد الظلاميين من كراسي الحكم وإعادتهم إلى جحورهم وزنازينهم، فهذه ضرورة حالة لا نقاش فيها ولا اختلاف حولها، إلا أن هذا يزيد من إلحاح معضلة البديل، فإن كنا بصدد "خرابة احتلتها شياطين"، فحسناً أن نشرع في طرد الشياطين الحالة، لكن ماذا بعد، خاصة وأن هناك شياطين أشد بشاعة تتلمظ على السلطة وتستعد للوثوب؟!!
بغض النظر عما نسمع من العصابة الحاكمة وأذيالها عن آمال وتوجهات لتحقيق "أحلام طوباوية مأفونة"، فإن الواقع على الأرض يخلو من إجابة على السؤال التقيلدي الذي يردده الشعب المصري لنفسه ليل نهار: "هي مصر رايحة على فين؟!!"، فالحقيقة العملية وليست الخيالية المتوهمة أن مصر ليست بسبيلها للذهاب إلى أي مكان، فهي تتخبط وتتعثر في أرجلها وفي كل حفرة صغيرة وكبيرة في طريقها، وإذا نظرنا إلى ما يجأر به مثلاً عتاولة الإرهاب الخارجون من السجون والقادمون من كهوف تورا بورا إلى سدة الحكم والسلطان في مصر، عن الخلافة الإسلامية الوشيك إقامتها، سنجد أن الأمريكيين قد أسسوا سلطانهم في العالم عبر قوتهم الاقتصادية، والصين الآن في طريقها لأن تصير قوة عظمى عبر نمو اقتصادها الذي يتعملق يوماً فيوماً، أما أصحاب "الخلافة الإسلامية" و"أستاذية العالم" فيسعون لتحقيق أحلامهم بقتل بعضهم بعضاً وقتل من يعيشون بينهم، أليس إعلان المشايخ للجهاد في سوريا يعني أن المسلمين يجاهدون بقتل بعضهم بعضاً؟!!
بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية "القوة العظمى" أو "الشيطان الأكبر" حاضرة معنا على الأرض، وفي فكر المؤامرة الذي ينهش العقول والأفئدة، بحيث يعد فهم الدور الأمريكي وطبيعته شرطاً جوهرياً لكل من يحاول أن يساهم إيجابياً في تحديد مصير بلاده، وليس بالطبع هؤلاء الذين يتحدثون عن هذا الدور لتوظيفه كشماعة لكل البلايا التي نتورط فيها، فأمريكا مثلاً لا تنتوي أن "تجاهد في سبيل الله" في سوريا، حتى يتولى مشايخ الوهابية إعلان الجهاد في سوريا من قلب القاهرة، بالتزامن مع قرار الإدارة الأمريكية تزويد "السُنَّة" المقاتلين في سوريا بالأسلحة. . عرف الشعب المصري "الترحيلة" لاستجلاب عمالة للحقول، والآن يأتي إلينا مشايخ الإرهاب لجمع "الأنفار"، بعد أن صارت مصر مستودعاً لتوريد "ترحيلة" إرهابيين. . أمريكا لا تملي على أحد تصرفاته، لكنها تلوح بعصا غليظة لمن يفكر في الخروج عن الطوق، وهي لا تختلق ولا تدبر لنا المآسي التي نضع نحن أنفسنا فيها، لكنها تضع لها خطوطاً حمراء يستحيل علينا تجاوزها، فهي لن تسمح بانتصار لإيران وحزب الله في سوريا، كما لن تسمح أيضاً بانتصار لتنظيم القاعدة والإخوان المسلمين، هي إذن المطحنة التي تسحق الآن الشعب السوري، وربما ينتظر الشعب المصري دوره في مثيل لها. . هي "استراتيجية إدارة الإرهاب".
تحتاج مصر لالتقاط الأنفاس ومراجعة الذات بهدوء، استطلاعاً لما كان وللممكن أن يكون لو أحسنا إدارة حياتنا، تحتاج لتفاعلات وحوارات مجتمعية هادئة لكنها جذرية وشجاعة في مواجهة النفس ومواجهة متطلبات الحياة وشروطها في عالمنا المعاصر. . نحتاج لعودة الإخوان وأذيالهم من فلول الإرهابيين والقتلة والمحرضين على الكراهية للحياة ذاتها لجحورهم وسجونهم، ولعودة "بتوع الثورة مستمرة" إلى أعمالهم إن كان ثمة أعمال منتجة لهم، فاستمرار الثورة يعني السير في نفس الطريق الذي أوصلنا لما نحن فيه الآن، وأي تصحيح للمسيرة لا يبدو أن ذات الشخوص قادرة عليه. . نحتاج أن نعطي فرصة لنفر من بيننا قادرين على استقراء التاريخ، وعلى رصد الواقع العالمي المعاصر وتبين ملامحه، وقادرين على اكتشاف خارطة طريق نسلكه مغادرة لقروننا الوسطى إلى القرن الواحد والعشرين، رجال لديهم ما يشيرون علينا به من توجهات تصعد بنا لأعلى حضارياً، بدلاً من هؤلاء الذي لايجيدون غير ركوب الموجة حتى لو كانت هابطة، فتمعن في الهبوط بنا وبهم، نحتاج لرجال مصريين بحق. مخلصين بحق. علماء بحق، وليس مجرد حاملين لشهادات عليا ليس لهم من محتواها قلامة ظفر. . نحتاج لعلمانية وعلمية عقلانية في التفكير لنخرج من ورطتنا هذه. . نحتاج إلى خمس سنوات على الأقل بعد تنحية رئيس الجمهورية الحالي وكل ومن يمثلهم من أهله وعشيرته. . تحتاج السفينة المصرية إلى جزيرة هادئة ترسو عليها، لتقوم بصيانة ما تخرب من ماكيناتها، وليراجع بحارتها ألف باء الإبحار، ويعيد ركابها النظر في أحوالهم، وفي مواصفات الشاطئ الذي ينشدون الوصول إليه.
kghobrial@yahoo.com
ايلاف
اجمالي القراءات
8295