« المصرى اليوم » تبدأ فى نشر المقالات « المحجوبة » للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل

اضيف الخبر في يوم الثلاثاء ١٥ - يناير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: المصرى اليوم


« المصرى اليوم » تبدأ فى نشر المقالات « المحجوبة » للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل

الرهان علي «مبارك»

تمهيد

هذا التمهيد كتب في شهر نوفمبر ٢٠٠٣

كان «الهاجس الأمني» شاغل الرئيس «أنور السادات» في الفترة ما بين ١٩٧٤ وسنة ١٩٨١، خصوصاً أنه كان يستشعر حجم وعمق التغييرات التي يريد إدخالها علي استراتيجية العمل المصري في الداخل، وفي الإقليم، وفي العالم (وإلي حد كبير فإن ما تغير وقتها في مصر وفي المنطقة حسم إلي درجة مؤثرة نهاية الحرب الباردة بين القوتين الأعظم حينئذ: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي).. وكذلك كان شاغل الرئيس «السادات» في تلك الفترة هو تأمين حكمه ونظامه وتوجهاته الجديدة، كما كان هناك آخرون يحملون نفس الهم معه، وشاغلهم جميعاً تأمين وكفالة الاستمرار حتي تستقر التغييرات الجديدة وتترسخ!



وهكذا فقد كان هناك تحفز عام ضد أي مقاومة أو معارضة في الداخل أو في المحيط الإقليمي (العربي) أو ما هو أوسع منه. والذي جري فعلاً أن الرئيس «السادات» وجد نفسه أمام مجموعة من الرهانات في الخارج وفي الإقليم وفي الداخل -لم تحقق مأمولها ومطلوبها- ثم زاد علي ذلك ما اكتشفه في زيارته الأخيرة لواشنطن (أبريل ١٩٨١) من أن الرئيس الأمريكي المنتخب «رونالد ريجان» لا يعتبر نفسه مسؤولاً عن تعهدات سلفه «جيمي كارتر»، بمعني أن «ريجان» ليس مهتماً بذلك «الرهان» الذي وضعه الرئيس «السادات» علي مائدة كامب دافيد -بقصد مساعدة «كارتر» انتخابياً، علي وعد بأن يرد له الجميل إذا نجح، فيباشر بالضغط علي إسرائيل كي «تتهاود» و«تلين»، ومن ثم تصبح التنازلات متوازية، لكن رهانات «كامب دافيد» ضاعت كلها واحداً بعد الآخر:

* من ناحية خسر «كارتر» - ونجح المرشح الجمهوري (القادم من مدرسة السينما في هوليوود)، ودخل إلي المكتب البيضاوي في البيت الأبيض فعلاً علي مقعد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (يناير ١٩٧٧)، في حين خسر «كارتر» ولم يعد في مقدوره أن يرد للسادات جميله (علي فرض أن تلك كانت نيته).

* ومن ناحية ثانية خسر «إسحاق رابين»، الذي كان الرئيس «السادات» قد راهن علي نجاحه في الانتخابات الإسرائيلية (مارس ١٩٧٧).

وقد أدرك الرئيس «السادات» في الإسكندرية (يوليو ١٩٧٧) - وبعد أول لقاء بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد «مناحم بيجين» - أنه لن يحصل منه علي شيء، والظاهر أن الاستنتاج الوحيد الذي توصل إليه هو أن «قبضة من حديد» أصبحت لازمة لقمع المعارضة المتزايدة «لمبادرة السلام» أو مغامرة النزول علي سطح القمر (في القدس) كما شاع التعبير أيامها!

* ومن ناحية ثالثة فإن العالم العربي، علي اتساعه، تصاعد شعوره بالإحباط موجة عاتية تطغي علي ما بقي من دور وعطر نصر أكتوبر الذي كان بالفعل ملكية مشاعة للجميع.

وفي داخل مصر ذاتها كان الشعور بالمرارة قاسياً منذ قسوة التعامل مع مظاهرات يومي ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧، والتي كانت آخر وقفة للطبقة المتوسطة التقليدية في مصر.

وأخيراً حلت الكارثة الكبري حين تدافعت الحوادث من اعتقالات سبتمبر ١٩٨١ - إلي اغتيالات ٦ أكتوبر ١٩٨١.

وفي لحظة مشحونة بالخطر علي مصر فإن دواعي السلامة الوطنية تخطت غيرها من الاعتبارات، ولعلها استنفرت وعي كل الناس كي يحيطوا بالرئيس الجديد حتي تمر الأزمة، وكذلك أمكن تفادي الفتنة والفوضي.

بالإضافة إلي ذلك، فقد كان هناك اعتبار أن القوات الإسرائيلية مازالت في أطراف سيناء، وانسحابها مقرر بمقتضي الاتفاقيات بعد ستة شهور - أي في أبريل سنة ١٩٨٢، وكانت دعوي النظام أن اسكتوا جميعاً حتي لا تتخذ إسرائيل من أي «شوشرة» في الداخل حجة لتأخير الانسحاب، وقبل الجميع دون مناقشة مراعاة اعتبارات عليا لها الأسبقية علي أي اجتهاد.

وكانت تلك «بداية رهان» علي «حسني مبارك».

وفي تلك الظروف المفعمة بالاحتمالات، التقيت مع آخرين غيري بالرئيس الجديد لأول مرة منقولين إلي قصره من غياهب السجن، خارجين من لقائه إلي متسع الحياة، ثم كان أنه تفضل بدعوتي للقائه وحدنا بعد أيام، ثم مضي عام حتي كتبت هذه المجموعة من المقالات لمجلة «المصور» بطلب رقيق من رئيس تحريرها ذلك الوقت، وكانت كتابتها في نوفمبر ١٩٨٢، وها هي تنشر ٢٠٠٨- وهذا أولها.

«من ١٩٨٢ حتي ٢٠٠٨ »..خطاب مفتوح إلي الرئيس «حسني مبارك»

نوفمبر ١٩٨٢

سيادة الرئيس

لقد مر عام كامل علي ذلك اليوم الذي تفضلتم وأمرتم فيه بالإفراج عن الدفعة الأولي من المعتقلين الذين ازدحمت بهم السجون، ضمن إجراءات تلك العملية الغريبة في تاريخ مصر الحديث، والتي تطوع البعض -سامحهم الله- وأطلقوا عليها وصف «ثورة ٥ سبتمبر ١٩٨١»!

كان لي الشرف أن أكون واحداً من المعتقلين في هذه العملية.

وكان لي الحظ أن أكون واحداً من أفراد الدفعة الأولي بين المُفرج عنهم.

ورأيتم يا سيادة الرئيس -وكان صواباً ما رأيتم- أن يكون الإفراج عملاً سياسياً وليس تصرفاً إدارياً - لتكون منه إشارة وبشارة، وهكذا فإن الذين أخذوا من بيوتهم بعنف السلطة عند منتصف ليل ٣ سبتمبر ١٩٨١ - أفرج عنهم بلطف نفس السلطة في عز الظهر يوم ٢٥ نوفمبر ١٩٨١، ومن مكتب رئيس الجمهورية، بعد لقاء كريم معه.

وفهمت مصر كلها معني الإشارة ووافقت، وهدأت خواطرها بالبشارة وانتظرت.

* * *

وأتذكر -يا سيادة الرئيس- أنني حين خرجت من مكتبكم مع بقية زملاء وأصدقاء تلك التجربة المثيرة، وجدت ممثلي الصحافة العالمية المكلفين بمتابعة أحداث مصر يحيطون بي ويركزون علي، ولعل اهتمامهم كان تعصباً من أبناء المهنة الواحدة لبعضهم، أو انعكاساً لعطف واسع مبعثه أن عمل أي كاتب جزء من شواغل قرائه.

وأتذكر أنني سُئِلت تلك اللحظة - وكانت الحوادث مازالت ساخنة والمشاعر التي أثارتها جياشة - عن رأيي فيما جري وسوف يجري.

ورويت للسائلين جزءاً مما سمعناه منكم قائلاً:

«إن الرئيس تحدث إلينا بأمانة عن أولوياته: قضية الأمن - وقضية العلاقات مع العالم العربي - وقضية مفاوضاته مع إسرائيل من أجل إتمام الانسحاب من سيناء».

وكان الرئيس واضحاً في تحديد أولوياته، صريحاً في عرضه للمشاكل التي يواجهها في كل واحدة من تلك القضايا.

ولقد طلب ما يريده في النهاية قائلاً:

- «أريد فتح صفحة جديدة في تاريخ مصر».

- «أريد حواراً مفتوحاً مع كل القوي الوطنية».

- «أعطوني وقتاً كافياً حتي أفكر في خياراتي».

وقد أجبناه جميعاً -وكنت بينهم- بنعم.

وسألوني:

- «وهل عرض عليك شيئاً».

وأجبت:

- «لم يعرض شيئاً، وأريد أن أقول لكم - هذه اللحظة وعلي الفور - إنني لست طرفاً في لعبة السياسة المصرية، ولا طرفاً في لعبة الصحافة المصرية، وليس هذا موقفاً جديداً، وإنما هو موقف قديم اتخذته منذ سنة ١٩٧٥، حين عرض علي الرئيس «السادات» - يرحمه الله- عدة مناصب في الدولة - بينها منصب نائب للوزراء أو منصب مستشاره للأمن القومي - إلي جانب عدة مناصب في الصحافة - بينها العودة إلي الأهرام - شريطة أن «ألتزم»، وكان ردي هو الاعتذار عن مناصب الدولة لأنها خارج مهنتي، وقد قبلت بمنصب الوزير مرة واحدة ولمدة محددة في ظرف استثنائي، وأما عن الصحافة فقد كان ردي أنني لا أستطيع الالتزام إلا بما أقتنع به، ولم أغير رأيي من يومها، وحتي اليوم.

وفي كل الأحوال فإن الرئيس لم يعرض علي شيئاً، ثم إنني -من جانبي- لست علي استعداد لشيء».

وسألوني أيضاً:

- «وما الذي تنوي عمله؟».

وأجبت:

- «سوف أواصل ما كنت أفعله قبل السجن، أعيش في مصر وليس خارجها، وأكتب وأنشر كتبي في العالم (حتي وإن لم تنشر في وطني!)، وعندما كنت في السجن فقد خطرت لي فكرة كتاب جديد اخترت عنوانه فعلاً داخل الزنزانة وهو: «خريف الغضب»، وفيما عدا ذلك فإنني بالطبع لا أنوي مقاطعة الشأن العام، وأؤثر أن أتخذ لنفسي موضع وموقع المراقب المهتم، وهذا كل شيء».

وسألوني أخيراً:

- «ألم تتحدث برأي أثناء اجتماعكم بالرئيس؟».

وأجبت:

- «لقد اتفقنا ونحن في الطريق من السجن إلي قصر الرئاسة أن يتحدث عنا واحد منا فقط، ووقع اختيارنا علي الأستاذ «فؤاد سراج الدين»، باعتباره الأكبر سناً والأسبق عهداً بالعمل السياسي، وبالفعل فإنه هو الذي تولي الرد بالنيابة عنا فيما سمعناه من الرئيس».

وصحيح أن الرئيس تفضل في لحظة فنظر إلي وبادرت القول:

«إن مجرد حدوث هذا الاجتماع -وفي هذا المكان- أهم من أي كلام يقال».

ولم أزد.

ثم أضفت من عندي للسائلين:

- «إنني أحسست بإخلاصه فيما قال، وأنني أؤيده فيما طلب منا».

وأتاحت لي الظروف بعد ذلك -يا سيادة الرئيس- أن أسافر إلي لندن لعمل يتصل بنشر كتابي الذي جاءتني فكرته في السجن، ووجدت عنوانه في الزنزانة «خريف الغضب»، وفي لندن فتحت لي صحف الغرب وصحف العرب مساحاتها كما أشاء، وكنت أشعر أن ذلك دين في عنقي أؤديه إلي الذين وقفوا بجواري وحملوا قضيتي أثناء غيابي الإجباري عن الساحة، وتحدثت، وفي كل ما قلت هناك لم أخرج علي حدود ما سبق أن قلت هنا، وإن كنت توسعت -إلي حد ما - في التفاصيل. وحين عُدت من لندن وجدت حملة علي بسبب بعض ما قلت وبعض ما لم أقل، واكتفيت برسالة توضيح بعثت بها إلي «المصور».

قلت كلمتي ومشيت!

* * *

وانقضي عام كامل - يا سيادة الرئيس.

لم أتخل عن صمت فرضته علي نفسي - ولم أتخل في نفس الوقت عن اهتمام بالشأن العام يفرضه علي الواجب أولاً كمواطن، وثانياً -بعدها- كمواطن أتاحت له الظروف لسنوات طويلة أن يكون في صميم العمل الوطني والقومي، وبالقرب من القمة التي يصنع عندها القرار.

وكذلك تفرغت بالكامل لكتابي الجديد، وكنت أرفع رأسي بين فترة وأخري مما أنا منكب عليه، ثم أتلفت علي المسرح حولي وأتابع ما يدور في الوسط وفي الأطراف ووراء الكواليس وحتي وراء الحدود، ثم أصغي إلي الأصوات، وأتتبع الإشارات والإيماءات، والأضواء والألوان - أحاول أن أتأمل وأفهم وأستوعب...!

كانت الأحداث تسابق بعضها وأنا ساكت منتظر، وكانت المواقف تتغير وأنا ملتزم بمكاني وشاغلي.

كان تأييدي لكم هو آخر ما قلته قبل الصمت، وآخر ما وقفت عليه عندما آثرت السكوت.

وظل ذلك محسوباً علي وأنا قابل ومقتنع، ومازلت قابلاً ومقتنعاً حتي هذه اللحظة، ومن هنا -بالقطع- دواعي هذا الخطاب الذي أوجهه الآن مفتوحاً إليكم.

* * *

سيادة الرئيس

سؤالان لابد من الإجابة عليهما -أولاً- دفعاً لأي تأويل أو ظن.

أولهما: لماذا اتخذت لنفسي موقف الصمت والانتظار عاماً كاملاً؟

والثاني: لماذا أيدتك ومازلت أؤيدك حتي هذه اللحظة؟

إذا أذنتم لي -يا سيادة الرئيس- أن أحاول جواباً علي السؤال الأول، فإني سوف أختار أسلوباً يخرج علي المألوف، باستعمال النفي وصولاً إلي التأكيد، أي أنني سوف أركز علي ما لم يكن من أسبابي كي تظهر دواعي إلي اتخاذ موقف الصمت:

١- لم يكن من أسبابي للصمت أنكم تفضلتم بالإفراج عني، والحقيقة -وبدون تجاوز- أنني لا أعتبر ذلك ديناً علي لكم، فقرار الإفراج لم يختصني وحدي وإنما شمل الجميع غيري، ولم يكن عفواً خاصاً وإنما كان قرار سياسة عامة لها مقتضياتها التي تتعدي رغبات الأطراف.

ولكي أكون صريحاً إلي أبعد مدي، فإن هذا القرار لم يستفد به طرف واحد من أطراف العلاقة فيه، وإنما استفاد الطرفان.

صحيح أن القرار أعاد للمُفرج عنهم حقهم فيما فرض عليهم -لكنه من الصحيح أيضاً أن نفس القرار أعاد لسلطة الحكم نصيباً من شرعية ضيعتها بسلسلة من السياسات والإجراءات، آخرها مأساة «ثورة ٥ سبتمبر».

إن شرعية النظم التي تعيش في ظلها معظم دول العالم الثالث لا تحققها -يا سيادة الرئيس- نتائج الاستفتاءات، لأن نتائج الاستفتاءات -علي افتراض صدقها- هي في الواقع شهادة صلاحية بدخول امتحان، ويجيء امتحان أي نظام بما يستطيع تحقيقه من منجزات تستحق القبول العام، وعندها تتبدي شرعية النظم.

وفي العالم الثالث عادة -وحيث لا مؤسسات بسبب تعثر نمو القوي الاجتماعية التي هي البناء التحتي لقيام المؤسسات- فإن رجلاً واحداً -في الغالب ولسوء الحظ- يملك سلطة القرار، وهذا الرجل الواحد يجيء أحياناً بزلزال ثورة أو حادثة، أو بذهاب رجل سبقه.

علي أن الوصول إلي قمة السلطة ليس شرطاً كافياً للشرعية، وإنما لابد لهذه السلطة أن تستجيب لحركة التاريخ، وتكون منجزاتها العملية بهذه الاستجابة أساس شرعيتها، مع ملاحظة أن شرعية رجل واحد ليست قابلة للإرث بواسطة رجل يليه علي كرسي الحكم. وهنا يصبح علي كل رجل جديد -وحتي تنمو القوي الاجتماعية في الوطن وتفتح طرقاً طبيعية، دستورية وقانونية للتطور والتقدم- أن يقدم الرجل الجديد موضوع -وليس مجرد شكل- شرعيته، وأن يؤكد هذه الشرعية بسياساته هو وليس بسياسات سواه.

أقصد أن أقول -يا سيادة الرئيس- إن قراركم بالإفراج عن المعتقلين كان واحداً من أسباب الموضوع في التقديم لشرعية حكمكم وتأكيد هذه الشرعية، مع أننا -الذين أفرج عنهم- استفدنا منه شخصياً.

أي أن العلاقة بين الأطراف متكافئة: لا ديون لأحد علي أحد، ولا كمبيالات، ولا شيكات بغير رصيد علي طريقة هذه الأيام!

٢- لم يكن من أسبابي للصمت أيضاً أنكم الآن في الحكم وفي موضع القرار. ولقد سمعتكم بنفسي تقولون إنكم «لم تفكروا في رياسة الجمهورية ولم تسعوا إليها»، وأعرف أكثر من غيري أنه الصدق والحق. فلقد فرضت الظروف عليكم تبعات المنصب ومسؤولياته في أوقات يعلم الله فيها هموم الرئاسة وأثقالها. ومن ناحية أخري -ودون أن أتجاوز حدي أو قدري- فأنا واحد من ناس ليس لديهم ما يطلبونه من حاكم.

ولقد كنت أقول -ومازلت- ومرة أخري دون تجاوز -إن أي حاكم في مصر يملك في شأني قراراً واحداً هو اعتقالي إذا شاء، لكنه لن تكون لديه -عدلاً- مبررات لمثل هذا القرار، فأنا لم أخرج دقيقة واحدة في ممارستي لعملي العام علي حدود مهنة الصحفي دون خطوة واحدة بالزيادة، أو خطوة واحدة بالنقصان (فيما أتمني!).

ثم إنني -وقد أثبتت الظروف عملياً- لا أريد أن أكون ضمن طراز معين من الصحفيين.

لا أريد أن أكون ضمن هؤلاء الذين تنحني هاماتهم أمام الحكام في قصورهم، وترتفع هاماتهم أمام الحكام في قبورهم!

٣- لم يكن من أسبابي -كذلك- أنني أصبحت أخاف بعد أن دخلت السجن لأول مرة في حياتي، فقد كنت أدرك منذ بداية اشتغالي بالمهنة أن السجن -وربما أسوأ- قدر يتربص بأي صاحب رأي في العالم الثالث. فصاحب الرأي في بلدان هذا العالم وحيد في مواجهة السلطة، وليس هناك من يجيره: لا قبيلة ولا مدينة - ولا أمير ولا خفير - ولا حدود أو سدود - أي أنه بدون كل أنواع الحمايات التي كانت توفرها حتي عصور البداوة والإقطاع في الماضي، أو عصور الدستور والقانون حيث تهيأت الظروف - فعلاً لا مجرد قول- لسيادتهما.

وفي خلافي مع الرئيس «السادات» بسبب اتفاق فك الاشتباك الأول، ثم تصاعد هذا الخلاف بعد فك الاشتباك الثاني، ثم وصول هذا الخلاف إلي الذروة بعد مبادرة القدس - فإن احتمال الاعتقال كان وارداً باستمرار، ونُصِحْت عشرات المرات أن أترك مصر وأعيش خارجها ولو لبعض الوقت، ولكني شكرت للناصحين حرصهم وبقيت في مصر حتي أغلقت علي بوابات السجن.

ولم أخف من السجن وكان بالنسبة لي عالماً غامضاً، وربما قلت الآن إن التجربة عرفتني بهذا العالم الغامض وأجوائه الموحشة، وفي كل الأحوال فلقد اعتقدت دائماً أن هناك ترفاً واحداً ووحيداً لا يستطيع أي صاحب رأي أن يسمح به لنفسه، وهو ترف الخوف.

وهكذا فإن داعي الخوف -علي فرض أن هناك ما يدعو إليه- لم يكن من أسبابي للصمت.

٤- وربما سمحت لنفسي أن أضيف سبباً آخر من دواعي الصمت.

لقد كنت طرفاً في صدام طويل وعنيف مع الرئيس «السادات»، وكانت جبهة هذا الصدام واسعة تمتد إلي خياراته الداخلية والعربية والدولية بعد حرب أكتوبر، ولقد قلت رأيي فيها جميعاً، وفي حضوره، وأمام سلطته.

وقد انتهي هذا الصدام بوضعي في السجن، ثم ـ لسوء الحظ ـ باغتياله.

وتصورت أنني أحتاج إلي استعادة كل ما حدث ومراجعته.

ثم تصورت أن القفز من الأبواب الواسعة التي تفتحت للكلام قد يبدو تزيداً يستحسن تجنبه.

وتصورت أيضاً أن كلاماً كثيراً أقوله بعد الخروج من السجن قد يؤخذ مشوباً بمظنة تحامل، أو شهوة لتصفية الحسابات!

ومن ناحية أخري فقد كنت واثقاً أن مر الأيام والحوادث سوف يضع كل شيء وكل رجل أمام امتحان الحقيقة، وساعتها يكون الكلم في موضعه وبمنأي عن الظنون والشهوات.

ولقد لفت صمتي أنظار كثيرين، وتكرر علي سمعي سؤالهم عن بواعثه، وشاء بعضهم ـ بحسن نية ـ أن يجد تفسيراً يرضيه، فسألوني:

- هل يمكن أن يكون هذا الصمت في حد ذاته إعلان موقف؟

ـ وكان ردي أنني ـ بالطبيعة وبالمهنة ـ لا أستطيع إعلان موقف بأسلوب الصمت، لأن «الكلمة» ببساطة هي حياتي وعملي، وأنا أحاول أن أقولها موضوعية قدر ما أستطيع، وأحاول أيضاً أن أقولها بأسلوب لا يفتعل الحماسة ولا ينازل طواحين الهواء، عارفاً علي أي حال أن كل كلمة تحترم قارئها أو سامعها ـ لها إمكانية تأثير.

وإذن، فإن الصمت لم يكن موقفاً أعلنه ـ أو أخفيه ـ أياً كانت الظروف! 

اجمالي القراءات 4422
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق