انشغلنا بالحديث والجدل بعد الثورة ، وظهرت فئات وأطياف كانت مختفية ، فى محاولة منها لركوب الثورة أو ركوب الموجة ، وراحت تشغلنا بتوافه الأمور التي لا طائل تحتها سوى ضياع الوقت والجهد ، وساعد على ذلك الإعلام المتخبط ، والذي أفسح لهم مساحات طويلة وعريضة من البث ، فأعطى السلفيين والإخوان مساحات كبيرة ، كل يستعرض قوته ، ومنهم من يهدد ويتوعد، وكاميليا شحاتة ، التي لا تزيد هنا ولا تنقص هناك ، والمادة الثانية من الدستور ، هل نلغيها أم نبقيها ، مع أن إلغائها أو إبقائها لن يغير من الواقع شيئا ، وإنما مجرد تعله لإظهار القوة وفرد العضلات .
وانشغل البعض الآخر بتصفية الحسابات ، والثأر ممن قتلوا الشعب وعذبوه وأذلوه ، ونهبوا أمواله ، واستولوا على أراضيه بغير حق ، ومع انشغالنا بالكلام والجدل ، وشيوع نزعة الانتقـام ، والانفلات الأمني وغياب الشرطة ، انتشر البلطجية وقطاع الطرق وناهشو الأعراض ، وشاعت بين الناس عادة الخروج على القانون ، وتشجيع الخارجين عليه ،وضاعت هيبة الدولة ، وأصبح الناس غير آمنين فى بيوتهم على أموالهم وأعراضهم . وخسرت الدولة الكثير من مواردها ، وتوقفت أدوات الإنتاج ، وأغلق الكثير من المصانع أبوابه ، وتوجس المستثمرون خيفة ، وتوقفت حركة البناء والتعمير ، إلا المخالف منها للقانون ، وكثرت حوادث الهدم التخريب والتدمير . فهل كانت الثورة لذلك ، أم على ذلك ،ومن المسئول عن هذا كله ، هل هو المجلس العسكري ، أم هي الحكومة الانتقاليــة ، أم هو الشعب ، أم أننا جميعا ، كل بقدر .
وكثرت المطالبة بالحقوق ــ الفئوية وغير الفئوية ــ دون أن يؤدى هؤلاء المطالبين بالحقوق ما عليهم من واجبات ، ونسوا أن الحكمة تقول ” عليك بالواجب ، ودع الحقوق تسعى إليك بغير عناء “ وأن الزعيم الخالد سعد زغلول قال منذ ما يقرب من مائة عام ” إن آفتنا أننا لا نحمل تبعاتنا ، وإنما نحاسب غيرنا على واجباتهم ، ولا نحاسب أنفسنا على واجباتنا ” . إن المجتمع الذي يؤدى فيه كل واجبه ، لا يضيع فيه حق من الحقوق ، فالذي يطالب الناس بحقه ، ينبغي عليه أن يذكر دائما إن مطالبته بذلك الحق ، هي فى الواقع مطالبة للآخرين بأداء واجباتهم ، وأن مطالبته نفسه بأداء واجبه ، أيسر من مطالبته الآخرين بأداء واجباتهم ، وأن الحقوق لا تضيع فى بلد تؤدى فيه الواجبات .
ولما كانت الثورة عرضة للثورة المضادة ، وكانت رموز النظام البائد وفلوله تعي جيدا أن الإنسان يميـل بطبيعته إلى المطالبـة بحقوقه ، وينفر دائما من القيام بواجباته ، راحوا يلعبون على هذه الطبيعة فى الناس ، لإعادة التجمع ولم الشمل لإفساد وتخريب الثورة ، والترويج لفكرة الحقوق ــ التي حرموا الشعب منها ــ بينهم ، وإقصاء فكرة الواجب ، لإشاعة الفوضى فى المجتمع ، وتحويل مجريات الأمور لصالحهم . وإذا كان علينا أن نعى ذلك جيدا ، فإن علينا أن نعى وبذات القدر ، أن الحقوق ليست هدية تعطى ، ولا منحة تمنح ، ولا غنيمة تغتصب ، وإنما هي نتيجة حتمية للقيام بالواجب ، وأننا الآن فى حاجة إلى القيام بالواجب أكثر من أي وقت مضى ، لأن كل الحقوق التي حرمنا منها ، إنما هي واجبات أهمل الآخرون القيام بها ، وأن كل حق يأتي بمجرد القيام بالواجب … فهل يؤدى كل منا واجبه قبل المطالبة بحقوقه حتى لا تضيع منا الثورة ، ونضيع معها .
نائب رئيس محكمة النقض