يمثل وكيل النيابة بداية السلم القضائي وهو أول من يتعامل مع المواطنين من القضاة قبل مرحلة دخول المحاكم، وكيل النيابة.... هو من يملك الصفة القانونية في التحقيق والتصرف والادعاء في القضايا بأنواعها (الجنايات - الجنح - المخالفات) بصفته وكيلا عن النائب العام أو المدعي العام، وهو أول عضو في السلطة القضائية يتعامل مع الجمهور مباشرة.
إذ يمارس عمله في التحقيق بالواقعة ليصبغ عليها التكييف القانوني المناسب قبل أن يتصرف بالقضية بإرسالها إلي رئيس النيابة، سواء بتقرير اتهام وقائمة بأدلة الإثبات تمهيدًا لإحالة المتهم فيها إلي المحكمة، أو بمذكرة حفظ لمجهولية الفاعل أو لعدم كفاية الدليل أو باستبعاد شبهة الجريمة أو لعدم الأهمية.
ومن منطلق هذه الأهمية للدور الذي يقوم به وكلاء النيابة بصفتهم الأمناء علي الدعوي العمومية للمجتمع، فإنه لابد أن تكون هناك معايير واضحة وشفافة للاختيار عند التعيين في النيابة العامة، وللأسف فإن المتابع للتعيينات في النيابة العامة خلال السنوات الماضية، يعرف جيدا ويسمع عن كم التجاوزات التي تحدث خلال هذه التعيينات من تعيين من لا يستحقون من خلال الواسطة والمحسوبية وقبول أبناء المستشارين الذين زادت نسبتهم في القضاء علي حساب أصحاب الكفاءات والتقديرات العلمية الأعلي.
ولعل الواقعة الشهيرة المعروفة والمتداولة في الوسط القضائي عن التحاق أحد أبناء القضاة الذي كان يجلس علي رأس السلطة القضائية، بالنيابة العامة وهو حاصل علي ليسانس الحقوق بتقدير مقبول «دور ثان» خير مثال علي ذلك، ليس هذا فقط بل مثله العديد من الحالات الذين يأخذون فرصة ليست من حقهم لمجرد أنهم أبناء قضاة، كانت النتيجة لذلك إفراز جيل جديد من معاوني ووكلاء النيابة لا يفهمون جيدا طبيعة وأهمية الرسالة التي يقدمونها، حتي أصبحت الصورة العامة لوكيل النيابة اليوم «هو ذلك الشخص الذي يمر وحوله حرس يقولون للمارة وسع للباشا».
الغريب أن القضاة يدافعون بقوة عن حق دخول أبنائهم والتحاقهم بالنيابة العامة كمدخل لدخول السلك القضائي، بمنطق أنهم تربوا في بيئة قضائية وأنهم الأنسب والأكفأ لدخول النيابة العامة، وقد برز ذلك بقوة من خلال الدفعة الأخيرة في التعيينات واستبعاد عدد من أبناء المستشارين الحاصلين علي تقدير مقبول رغم أن التعديل الأخير لقانون السلطة القضائية يشترط الحصول علي تقدير جيد علي الأقل للتعيين بالنيابة العامة، ومع ذلك شكلوا كتلة وعقدوا اجتماعات وتوجهوا لرئيس نادي القضاة لمحاولة التحرك ومخاطبة رئيس الجمهورية لتعيين أبنائهم ! بل والأدهي من ذلك أن الأنباء ترددت عن عزمهم تقديم مشروع قانون يطالبون بكوتة لتعيين أبنائهم في القضاء .
الدكتور والفقيه الدستوري يحيي الجمل أكد أن مظهراً من مظاهر الخلل في تعيينات رجال النيابة دخول أبناء المستشارين، نافيا ما يتردد عن أنهم الأنسب لدخول المهنة بمنطق أنهم تربوا في بيئة قضائية وقال الجمل : الذي نشأ وتربي في بيئة قضائية وفي بيت مستشار ثم يحصل علي تقدير مقبول أو يحصل علي الليسانس بعد 9 سنوات لا يصلح للدراسة القانونية أو العمل القضائي، لكنه يقول في قرارة نفسه، «أنا ابن مستشار، عينوني لأني ابن مستشار».
ويحكي الدكتور يحيي الجمل عن واقعة خطيرة في هذا الصدد قائلا : إنه في إحدي المرات كان بمكتب الدكتور فتحي سرور وجاء إليه ثلاثة من المستشارين يطلبون تدخله لتعيين أبنائهم في النيابة في الوقت الذي لم يتحقق فيهم شروط التعيين ! إلا أن الدكتور سرور أكد لهم أن هذا غير جائز قانونا.
تعيين أبناء المستشارين ممن لا يستحقون أو بالمخالفة لشروط التعيين ليس وحده العامل الوحيد في حدوث خلل في تركيبة الجيل الأخير لوكلاء النيابة، هناك أيضا عامل آخر أحدث خللا كبيرا بين رجال النيابة العامة وهي الظاهرة التي حدثت خلال السنوات الأخيرة متمثلة في دخول ضباط الشرطة النيابة عن طريق الواسطة أيضا، يعني خريج كلية الشرطة يصبح فجأة وكيل نيابة، ولنا أن نتخيل عقلية وسلوك طالب الشرطة، التي تختلف كليا عن عقلية وسلوك أي طالب آخر لا لشيء سوي لطبيعة الدراسة والمعاملة في كليات الشرطة.
وفي هذا السياق قال الدكتور إبراهيم درويش - أستاذ القانون الدستوري - خلال العشرين السنة الأخيرة حدثت تجاوزات في التعيينات في النيابة العامة بتعيين طائفتين غير مستحقين للتعيين في بداية السلم القضائي كمعاونين للنيابة، الطائفة الأولي وهم أبناء المستشارين الذين لم يحصلوا علي تقدير في المؤهل العلمي يؤهلهم للتعيين وكلهم من أصحاب درجة المقبول، أما الطائفة الثانية وهم ضباط الشرطة الذين تخرجوا في كليات الشرطة وعن طريق الواسطة تم تعيينهم في النيابة العامة.
هاتان الطائفتان من أخطر ما يمكن علي السلطة القضائية، وليس صحيحا ما يقال عن أن أبناء المستشارين يتربون في بيئة مناسبة وجو أفضل حتي يصيروا قضاة مثل آبائهم، فهذا الكلام غير صحيح، وأنا بناء عن تجربتي وأنا أعمل في المحاماة منذ 40 عاما وجدت أن أبناء المستشارين لا يستحقون إطلاقا أن يأخذوا فرصة غيرهم لمجرد أن آباءهم قضاه، لأنهم يعتمدون علي آبائهم إضافة إلي أنهم غير مؤهلين علميا ولا سلوكيا، وأنا أقول ذلك من خلال تعاملاتي وعندي حالات كثيرة لا أود أن أذكرها.
وبالنسبة للطائفة الأخري وهم ضباط الشرطة الذين اقتحموا النيابة العامة وهي بداية السلم للتدرج في السلك القضائي، وهؤلاء عقليتهم وتكوينهم النفسي والسلوكي يتسم بالعنف، ومن ثم كان منتج سلوكياتهم عدم التعامل بما يجب أن يكون عليه مع المتقاضين والمحامين أو حتي مع زملائه، ويتعاملون بهيئة ومنطق ضباط الشرطة، فهناك وكلاء نيابة لا تختلف هيئتهم عن ضابط الشرطة أدخل عليهم المكتب وأجدهم يضعون الطبنجة والنظارة السوداء علي المكتب.
كل هذه التجاوزات أفرزت في النهاية المشهد الذي نراه الآن، خلقت جيلاً من وكلاء النيابة غير متفهم لطبيعة وخطورة العمل الذي يقومون به.
لكن المستشار هشام جنينة - رئيس محكمة استئناف القاهرة - يري أن الخلل الذي أفرز عناصر في النيابة العامة للأسف لا تفهم مهمة الرسالة التي يؤدونها ( علي حد قوله )، يبدأ من المنظومة التعليمية في مرحلة التعليم الجامعي بكلية الحقوق، قائلا : هذه الكلية كانت في زمن سابق كلية الوزراء والباشاوات وكانت الدراسة فيها وافية وتؤهل إلي تخريج نماذج مشرفة، وأضاف : كليه الحقوق هي نفسها التي تخرج المحامي ووكيل النيابة، فإذا لم تكن مؤهله لتخريج نماذج جيدة لا يفهم خريجوها طبيعة الرسالة التي يقومون بها فمن الطبيعي أن تفرز نماذج غير مسئولة، واليوم كلية الحقوق تهتم بتخريج أعداد دون البحث عن نوعية الخريج هذه هي بداية المشكلة والأزمة.
ويعود الدكتور إبراهيم درويش لهذه النقطة متفقا مع كلام جنينة قائلا : كلية الحقوق البوابة الرئيسية للتعيين سواء في النيابة العامة أو المحاماة، هذه الكلية التي تأخذ أقل المجاميع وبالتالي يلتحق بها أضعف الطلاب، لابد من تطوير الدراسة بها بأسرع ما يمكن، وأن يتم الاتجاه لتقليل أعداد المقبولين بالكلية، بمعني أنه توجد 18 كلية للحقوق في مصر، كل واحدة منها يكفي أن تأخذ 500 طالب وأن يتم رفع نسبة القبول بالكلية إلي 80%.
ويتابع درويش : معاونو النيابة بعد تعيينهم يلتحقون بدورات تدريبية في معهد الدراسات القضائية، وهذا ليس كافيا، بل يجب تعديل قانون السلطة القضائية بحيث لا يترقي معاون النيابة إلي مساعد النيابة إلا بعد حصوله علي دبلومين من دبلومات الدراسات العليا بكلية الحقوق أحدهما في القانون الجنائي أو درجة الماجستير، وإذا لم يحصل علي أي منهما خلال 4 سنوات يحول لوظيفة إدارية، وسندي في ذلك أن المندوب المساعد بمجلس الدولة لا يترقي إلا بعد حصوله علي دبلومين من دبلومات الدراسات العليا، لذلك ومنذ نشأة مجلس الدولة عام 1946 نجد أن نسبة التجاوزات من قضاة مجلس الدولة قليلة للغاية، وهذه الدراسات لابد أن يحصل عليها معاونو النيابة من أجل أن تكون لديه زيادة في المعرفة، فكلما حصل علي درجة كبيرة من التعليم، وصل إلي مستوي أعلي من الرقي والسلوك المنضبط، والتعامل مع المجتمع ومع أقرانه من المحامين ومن وكلاء النيابة، فالنيابة العامة ذات سلطات خطيرة للمجتمع فهي الأمينة علي الدعوي العمومية، يعني الأمينة علي المجتمع المصري، ومنصب وكيل النيابة من أهم وأخطر المناصب.
الشيء الخطير والذي ربما كان سببا رئيسيا في تكرار حوادث الاشتباكات بين وكلاء النيابة والمحامين وتفاقمها هو ذلك الإحساس الذي من الممكن أن يتسرب لوكيل النيابة أنه فوق القانون لأنه يتمتع بحصانة قضائية وهذه ميزة تميزه عن أي شخص عادي، وبالتالي ينعكس ذلك علي سلوكه وفي تعامله سواء مع المواطنين أو المحامين، وفي هذا الاتجاه أكد المستشار هشام جنينة : للأسف هذا يحدث مع بعض وكلاء النيابة، ولكن لابد وأن يعلم وكيل النيابة أن الحصانة التي يتمتع بها ليست من باب «الوجاهة أو الأبهة» بل هي مجرد ضمانة من أجل المواطنين حتي يطمئنوا أنه لا تأثير في القضاة، وقال جنينة : أشعر بالحزن حين أجد خطأ يقع فيه بعض وكلاء النيابة الذين يشعرون أن الحصانة بالنسبة له احتماء ويستغلها في غير موضعها، لأنه لابدأن يكون قدوة، فالحصانة لا تعطيه الحق في ارتكاب أي أخطاء أو مخالفات.
مضيفا : زمان القاضي كان يحترم هيبته ولا يحتمي بحصانته لارتكاب مخالفات، أو حتي لا يشعر الآخرون بهذه الحصانة، فمجرد إشعار الآخرين أنه يحتمي بالحصانة أوأنه فوق القانون هذا خطأ، القاضي زمان كان حريصاً علي عدم إيصال هذا الشعور للناس، لكن كل هذا غاب وأصبح غير موجود.
وتابع جنينة : أسلوب اختيار وكلاء النيابة محتاج إعادة نظر، أحد الأسباب التي كان يركن إليها واقعة نيابة طنطا، أن المحامي ذكر لوكيل النيابة أنه حاصل علي تقدير أعلي منه، هذا من مبعث إحساسه بالظلم، لأنه لا توجد معايير شفافة وواضحة للاختيار، المعايير غير معلنة وغير واضحة، وحتي الآن لا توجد معايير واضحة للتعيين في النيابة العامة.
ويحكي الدكتور إبراهيم درويش من خلال خبرته كمحام منذ عشرات السنوات عن سلوكيات وكلاء النيابة الجدد في التعامل مع المواطنين أو المحامين حيث يقول : هناك سلوكيات خطيرة تصدر عن وكلاء النيابة في تعاملهم مع المحامين وأنا بنفسي لمستها، فهم يتركون المحامين خارج مكتبهم بالساعة حتي يسمح لهم بالدخول وتقديم طلباتهم، وهذا يحدث بشكل يومي، المعاملة السيئة من جانبهم وجميع النيابات بالأقاليم يتعاملون بهذا الشكل.
وأضاف : صحيح قد نجد محامين متجاوزين بل آلافًا من المحامين الذين يتجاوزون، ولكن لا يجب أبدا أن نجد وكيل نيابة متجاوزًا لأن صفته تجعله الأمين علي الدعوي العمومية، لهذا يجب أن يكون بابه مفتوحًا باستمرار إلا بخلاف وقت التحقيق، لكن مشهد وكيل النيابة اليوم « يمشي وحوله أشخاص يرددون علي الناس وسع للباشا»، يخرج من مكتبه ويذهب لدورة المياه قائلا وسع للباشا رايح دورة المياه، لقد تعرضت لهذا ففي إحدي المرات كنت بمحكمة الجيزة وعندما أردت ركوب الأسانسير قال لي العامل مينفعش تركب أصل الباشا وكيل النيابة هيركب دلوقتي ! في حين أنني بمحكمة النقض أستقل الأسانسير مع نواب رئيس محكمة النقض دون أن يعوقني أحد، الأمر يحتاج لإصلاح جذري وحقيقي للتعيينات في النيابة العامة.