الفارق الأساسي بين مصر والجزائر هو في استقامة وإخلاص قادة القوات المسلحة لوطنهم وشعبهم ولمبادئهم.
إن لم يقم حباينا الحلوين بما يتوجب عليهم لإنقاذ مصر الآن وفوراً، فلن أستطيع منع نفسي من الشماتة فيهم حينما يقطع الظلاميون أرجلهم وأيديهم من خلاف. . على المجلس العسكري ردع المجرمين ووضعهم في مكانهم الطبيعي، قبل أن يحاولوا مع قياداته ما فشلوا فيه مع عبد الناصر في المنشية ونجحوا فيه مع السادات في حادث المنصة.
أعترف أنني تصورت في بداية الثورة المصرية أنها سوف تأتي بنتائج إيجابية فورية، حتى وإن تم ذلك على مدى فترة زمنية، باعتبار أننا سنتوجه باستقامة في طريق الحرية والحداثة، وتصورت أن كل ما سبق وكتبت من تحليلات تشير إلى عدم مناسبة التربة المصرية للثورة أو التحديث سريع المعدل كانت أقرب للتهويمات التي يدمن المثقفون الغرق فيها، إذ أثبت الشعب عكسها حين خرج يهتف للحرية. . أعترف أن تصوراتي الأخيرة هذه كانت حماسية ولا عقلانية، وهذا خطأ لا يغتفر لمثلي، وأعتذر بشدة لكل من ضللهم موقفي المتهافت هذا.
لا يبرر خطأي هذا أنني وكثيرين غيري لم يكن بمقدورنا وقد انفجرت الشوارع والميادين المصرية بالآلاف يزلزلون الأرض هتافاً للحرية والكرامة الإنسانية وبسقوط النظام، أن نظل قابعين في صوامعنا الفكرية نجتر مقولاتنا. . لم يكن الزمان زمان العقل والتحليل الرصين، وإنما زمان الثورة على واقع كئيب نرفضه. . زمان يعلي قيمة الرفض المطلق، ليختفي لبعض الوقت تساؤل "وماذا بعد؟"
حاولت الشعوب العربية الخلاص من أغلال نظمها الفاسدة، لكن لأنها كانت كسيحة من طول الأسر، وقعت صريعة بين أنياب قوى الظلام والتخلف!!. . ربما كان الخطأ أو الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها هي حسن الظن المفرط بوعي الشعب المصري!!
نعم تمكن الشعوب العربية من خلع رؤساء لها هو في حد ذاته كفيل بجعل أي حاكم يحسب حساباً للشعب، وهذا هو المكسب الأهم للثورات العربية حتى الآن، وسط غلبة الخسائر الفادحة. . فلقد حققت الثورة المصرية بالفعل مكسباً غير قابل للاستلاب، حين خلعت مبارك ووريثه ولي العهد وسائر الفاسدين المطبلين المزمرين حولهما، لكن خطوات الثورة التي تلت ذلك كانت ضياعاً في المجهول، ثم لم نلبث أن وقعنا في الشرك المنصوب لنا بحذق، من قبل من ظلوا يدبرون لذلك لأكثر من ثلاثة أرباع قرن. . هي بالفعل كارثة بكل المقاييس، أن تقع مصر مهد الحضارة بين براثن أعداء الحضارة والإنسانية. . ورطة لابد وأن نجد لها مخرجاً، مع الأخذ في الاعتبار أن ثورتنا المصرية أو الثورات العربية لا تنفرد وحدها بمثل هذا التعثر أو حتى السقوط المبدئي. . نعم قد انكفأنا على وجوهنا في الجولة الأولى، لكنها بالتأكيد ليست نهاية العالم.
حقيقة الثورة المصرية صناعة إخوانية بامتياز، لكنهم لم يخترعوها أو يصنعوها من فراغ، لقد وظفوا فساد النظام وتغول أجهزته القمعية للدفع لثورة تعبر فيها جميع مكونات الشعب عن رفضها للعصابة التي تحكمنا، بعد أن فشل النظام بغبائه في السير في طريق الإصلاح من الداخل مستهيناً بالشعب وسادراً في غيه، في مقابل تركيز الإخوان على نقمة الجماهير وحسن توظيفها. . هم إذن لم يسرقوا الثورة، وليس ذنباً اقترفوه أنهم أجادوا اللعب بكل الأوراق، حتى ورقة الشباب التواق للحرية والحداثة والكرامة الإنسانية، حين ساندوه في هتافه مرددين نفس شعاراته. . أتذكر أيام الثورة الأولى، ونحن نسير حول سيارات تحمل مكبرات الصوت اكتشفت فيما بعد أنها للإخوان المسلمين، تقود المظاهرات وهي تردد "لا جماعات ولا أحزاب، الثورة ثورة الشباب"، ولن أنسى ما حييت لحظة أخذي للمايك منهم، وهتفت لتردد الجماهير خلفي "حرية. . حرية"!!
سواء كان ما فعلوه خدعاً أم تقية أم إيهاماً في القول، فإن إدعاء منهج التوافق المرحلي لم يكن يعني أن يذهبوا مع هذا الشباب إلى حيث يطمح، أو أن يتخلوا عن الثمرة التي سقطت ناضجة بين أيديهم، وعن أحلامهم في دولة تنتمي للقرن السابع الميلادي.
على المدى الطويل يعد ما حدث من انكفاء خطوة لابد منها، ولابد وستتلوها خطوات تضع الشعب المصري على بداية طريق الحداثة والتحرر. . بل ورغم ما نعيشه الآن من كابوس يبدو أقرب للأفلام الأمريكية، التي تصور كائنات فضائية هبطت من كوكب ملعون لتغزو الحضارة البشرية وتدمرها، فإن هناك ما تحقق ولا رجعة فيه، ولن يستطيع أحد أن يسلبه منا مع ما تم سلبه من آمال تحطمت على صخرة الواقع الضنين، فلقد استشعر المصري البسيط أنه قادر على توجيه مسيرة بلاده، بل وأن مصر ملكه وليست مزرعة يعمل فيها ويمتلكها الأكابر، نقول هذا رغم التفويض شبه الكامل الذي أعطاه الشعب للظلامية القادمين من غابر العصور إلى القرن الحادي والعشرين. . لهذا أيضاً لا يضيرنا بل ونطالب العسكر أن يقوموا عبر تفعيل القانون بإعادة الذئاب والثعابين إلى جحورها، وبالتأكيد سوف يختلف الأمر عن ردع أسلاف هؤلاء من قبل ضباط يوليو عام 1954، في أن العسكر لن يستطيعوا أن يتعاملوا معنا كما تعاملوا طوال الستة عقود الماضية، فسوف تكون رأس الذئب الطائر (مبارك) أمام عيونهم دوماً، ليتبقى السؤال الحرج، إن كان العسكر يمكن أن يخلصوا فقط لمصر وشعبها، ويقوموا بما عليهم القيام به من أجل إنقاذه، أم سيستمرون في سياساتهم الحالية حتى "خراب مصر المحروسة"!!
حالة الفساد الشامل للجميع في مصر تجعل احتمال وجود رجال يهبون لإنقاذها كما حدث في الجزائر ضئيلاً. . فما نراه حتى الآن أن كل يحاول إنقاذ وتأمين نفسه بأي طريقة ولتذهب مصر إلى الجحيم. . الجميع حتى الآن يتلاعبون. يتراجعون. يجبنون، فيما أعداء الحياة الذين يجتهدون في تكفين "بهية المصرية"، استعداداً لتشييعها لقبر التخلف المظلم.
ويبدو الأمر كما لو أنه كما كان هكذا يكون، فكما كانت القافلة تسير والمعارضة تعوي أيام مبارك، ها نحن دعاة المدنية والحداثة الآن نعوي والقافلة تسير بقيادة الظلامية ولكن إلى الخلف. . واقع موازين القوى في الشارع المصري الآن لا يسمح لقوى الحداثة والعلمانية أن توقف هذا الزحف نحو الخراب، فالقوة الوحيدة التي تستطيع الآن مواجهة جحافل الظلاميين هي قوة العسكر، وهذا بالتأكيد رهيب وبغيض، أن نفكر في العودة إلى أحضان العسكر الذين انقضى عهدهم من العالم أجمع، والذين أوصلونا بحماقاتهم طوال ستة عقود إلى ما وصلنا إليه الآن.
لقد حسمت الأمور الآن في مصر، وانقضت الجولة الأولى من الثورة، ولن تبدأ الثانية إلا بعد تخليق حقائق جديدة على أرض الواقع، وهذه تحتاج إلى عدة سنوات قد تصل إلى عدة عقود. . هي فترة يمكن أن نقضيها في كنف حكم أفغاني طالباني، كما يمكن أن نقضيها في حكم يلعب فيه العسكر دوراً محورياً ولو من وراء الكواليس.
إذا لم تكن حقائق الواقع تسمح للقوى المدنية والعلمانية بالفعل الإيجابي، فإننا نكون عندها في زمن الاختيار، مجرد الاختيار بين البدائل المطروحة، وأقصى ما نستطيع في هذه الحالة هو الميل لهذا الخيار أو ذاك في محاولة لترجيحه. . هذا مرير وصعب على النفس بالتأكيد، وتزداد صعوبته أن يأتي بعد فورة الآمال العريضة في الحرية والحداثة والكرامة الإنسانية!!
يبدو الأمر أشبه بالرواية الشعبية التي تحكي أن العفريت خرج من القمقم لمرزوق ليقول له "إختر لك موتة"، وأمامنا الموت في زنازين العسكر، أو الموت رجماً بأحجار الظلامية المقدسة. . لو كان الأمر أمر موت بهذه الطريقة أو تلك لتساوى الخياران أو تقاربا، لكن ما قد يعيننا على حسم الأمر هو شأن الحياة وليس طريقة الموت، فإذا كان الموت واحداً أياً كانت طريقته، فالحياة في ظل العسكريين تختلف جوهرياً عنها في ظل تلك الكائنات المنقرضة التي أعدنا إنتاجها لتهدم حضارة العصر فوق رؤوسنا، خاصة وأن العسكر ولا شك قد وعوا درس ثورة يناير، كما لابد وأنهم يعون متغيرات العصر.
يبدو أن الدستور الذي يضمره الظلاميون سيكون هو الوثيقة التي تعلن النهاية الحزينة لمسيرة تحديث مصر التي بدأها محمد علي مع بداية القرن التاسع عشر، وبداية عهد جديد نتجه فيه عكسياً حتى نصل للقرن السابع. . هل من قبيل المصادفة أن يأخذ محمد علي الألباني الأصل وأسرته مصر في طريق الحداثة، وأن مسيرة الانهيار والتراجع الحضاري لم تبدأ إلا عندما تولى مقاليد الحكم المصريين الأصلاء بداية من خمسينات القرن الماضي؟!!
لابد من وقف مسلسل الاندفاع نحو الهاوية، بأن نلجأ للبيان الدستوري والقانون اللذين يحرمان الأحزاب الدينية، فيتم حل هذه الأحزاب، وحل "مجلس شعب قندهار"، لكي نبدأ في إعادة ترتيب البيت المصري الذي شملته الفوضى والتسيب. . يحتاج الأمر لقبضة حديدية تردع من ينطبق عليهم القول الشعبي "يخاف وما يختشيش"، ونحتاج لإعادة اعتقال الإرهابيين الذين تصوروا أن مصر صارت ملكاً وليس مجرد ملجأ آمن للإرهاب العالمي، فمن جاءوا لتخريب الحضارة والمدنية ويرون أن رسالتهم مقدسة، لن تردعهم توافقات وحوارات، وما دامت موازين القوى الشعبية تعجز عن ردعهم، فليس إلا القوات المسلحة تستطيع حماية البلاد ممن تسلل إلى شرايينها من أعداء الحياة.
نحتاج أيضاً لأن نعود جميعاً لأعمالنا، وللكف عن المطالبات بزيادات في الأجور غير مصحوبة بزيادات في الإنتاج، وبعد أن يعود النظام والاستقرار، نبدأ في مسيرة مراجعة لما فات وما تحقق، علنا ندخل سريعاً مرحلة مراجعة لأفكارنا وخياراتنا، فربما نكتشف عندها أن "العلم يرفع بيتاً لا عماد له" وأن "الجهل يهدم بيتاً توقف أهله عن إنتاج الحضارة لقرون طالت أكثر مما ينبغي"!!
اجمالي القراءات
8030
معك حق استاذ / كمال جبريال في أنها ورطة وهى أن تقع مصر مهد الحضارة بين براثن أعداء الحضارة والإنسانية.
ولكن ما هو المخرج من هذه الورطة التي سوف تقضي على الاخضر واليابس وسوف ترجعنا جميعا لعصر التخلف والجاهلية ؟.
إن لم نتكاتف ونقاوم هذه الكارثة بكل ما نملك من قوة وعلم وإيمان بالله تعالى سوف تكون الطامة الكبرى .
فهل سوف نتحرك لعمل فعلي أم سوف نبكي على أطلال وطن ونترك الظلاميين مستمرين في محاولاتهم التخريبية لافساد الوطن ونكتفي نحن بالبكاء؟!