تأملات في قداس عيد الميلاد المجيد!
اعتدت أن أشاهد عبر شاشة التلفزيون احتفالات الاخوة الأقباط بأعيادهم، وما تتضمنه من ترانيم، ومواعظ، وصلوات، والوقوف علي الحالة الصحية للبابا شنودة، وقد أصبحت مؤخرا ليست علي ما يرام.
في عيد القيامة، كان البابا يبكي، وقلت وقتها ان لقاءه لقاء مودع، لكنه ظل علي قيد الحياة الي ان حضر قداس أعياد الميلاد، وقد وهن العظم منه، وبدا وجهه شاحبا، وظل طوال الوقت جالسا، ولم يتكلم الا قليلا، بينما قام مساعدوه بالطقوس، في مشهد لا تخطئ العين دلالته.
البابا شنودة هو من الزعامات التاريخية النادرة، التي يوصف الواحد منها بأنه عظيم المجد، عظيم الأخطاء. وهو ديكتاتور لا يغفر الإساءة، حتي لمن تاب وأمن وعمل صالحا، وكل من غضب عليهم من القساوسة القي بهم خارج جدران الكنيسة، ولم يقبل لهم عذرا، وقد يبدو متجاهلا لخصمه، لكن التجاهل هنا يكون مرده، الي ان ساعة الحساب لم تحن!
منذ سنوات التقيته، وراعني انه صاحب شخصية جذابة، وحضور طاغ، وكنت قبل اللقاء مشغولا بكيفية مخاطبته، وكان بصحبتي مصورا، سبق له العمل بجريدة الأهالي ، قال لي انه حضر لقاء رئيس تحريرها - وقتها - الأستاذ عبد العال الباقوري معه، واخبرني انه كان يخاطبه ب يا أبانا . وصاحبنا يفعل هذا لانه مغرم بالعربية الفصحي، حتي لا تظن انه تخرج في جامعة الأزهر، مع انه درس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
عندما دخلت عليه، بدا البابا أكثر بساطة مما تصورت.. انه علي الرغم من عدم اكتفائه بالزعيم الروحي للأقباط، فانه حريص علي ان يكون هو زعيمهم السياسي، ولولا ان الأقدار ساقته للدير، لكنا أمام زعامة سياسية لا تقل عن الزعيم القبطي مكرم عبيد، لكن البابا شنودة - وعلي الرغم من ذلك - هو راهب، شيمته التواضع والزهد، والرهبان هم الذين طلقوا الدنيا طلقة بائنة، ومن هنا فقد استحق الذين حافظوا علي رهبانيتهم من الدنس مدح القرآن الكريم لهم.
بدون تفكير وجدتني أخاطب البابا بأبونا، ويخاطبني هو بحضرتك. والمسلمون في مصر يخاطبون القساوسة بذلك، تماما كما يخاطبهم اتباعهم، لكني اجهل ثقافة التعامل مع رجال الدين من غير المسلمين، لاسباب يطول شرحها، وأول من تعاملت معهم منهم، هم أولئك الذين شقوا عصا الطاعة عليه، فأخرجهم من الكنيسة، وزعيمهم القس إبراهيم عبد السيد، والذي كان في بداية حياته صحفيا، فلم تكن هناك مشكلة بالنسبة لي في التعامل معه.
الذين لا يعرفون البابا شنودة، لا يعرفون عنه انه صاحب نكتة، وانه منذ اللحظة الأولي للقاء به، يبدد جو الرهبة، الذي يفرضها اسمه ومكانته الدينية.. سألني تعرف لماذا وصي النبي علي سابع جار بالذات؟.. ولما أجبته بالنفي قال لأن الجيران الستة الآخرين كانوا نصاري!.
تكلمنا وجهاز الكاسيت يعمل، وتكلمنا وهو متوقف، وبينما كنت ألملم أوراقي قلت له ان معلوماتي عنك انك حاسم مع خصومك، فما هو سر الصبر علي إبراهيم عبد السيد؟.. وأجاب بأربع كلمات ولم يزد: لم تحن ساعته بعد.
كان القس المذكور بعد ان تم عزله من العمل بكنيسة المعادي، لاسباب لم يقلها لي البابا، ولم يقلها هو نفسه، قد اشتد في معارضته، حتي وضع كتيبا عن أموال الكنيسة، والكتاب يقرأ من عنوانه. ومع هذا فقد ظل محتفظا برتبته الكهنوتية ولم يجر تجريده منها او من ملابسه، في واقعة أخري تم تجريد الكاهن، وعندما استمر في ارتداء ملابسه، واطلاق لحيته، حُمل علي خلع الملابس وحلق اللحية بالقوة.
وقد اعتبرت ان ما ذكره البابا خاصا لي، وليس للنشر، فلم اذكره للقس عبد السيد، علي الرغم من الصداقة التي بيننا، والتي كانت تجعله حريصا علي السؤال عن أحوالي الخاصة، ولدرجة ان مشروع زواجي وكان يمر بحالة تعثر، فاخبرني انه يصل لي، فصحت في وجهه: كف أرجوك، فأنا اسأل لماذا هذا التعثر، ولا ادري انك تصلي من اجلي. فضحك، وناد زوجته ليروي لها ما قلته لتضحك هي الأخري.
وقد جاءت ساعة الحساب قاسية، اكثر ما تكون القسوة، بعد ذلك بعدة سنوات، فقد كانت يوم الوفاة، حيث ظل جثمان أبونا إبراهيم عبدالسيد، حائرا، فقد أغلقت في وجهه أبواب كل الكنائس، في مشهد مؤثر، فالبابا المسافر للخارج وقتها، اصدر تعليماته بعدم استقباله في أي كنيسة تتبعه في عموم القطر، وعدم الصلاة عليه، وفشلت محاولات الدكتور سعد الدين إبراهيم في الاتصال به هاتفيا، ليشمل الفقيد بعطفه، ويرحم أبناءه، وهم لا ذنب لهم، عندما يعاقبون بذنب لم يرتكبوه، فالميت ليس ملكاً لنفسه، ولكنه ملك لاهله في هذه اللحظات. لكن البابا رفض العفو، لتفتح له إحدي الكنائس الإنجيلية للصلاة عليه.. ياله من ديكتاتور!.
لكن البعض ربما يرجع ديكتاتوريته الي أنها حافظت علي الكنيسة من ان تنال من وحدتها رياح هذا الزمان، وهو أمر وان كان لن ينال من زعامته الروحية، فانه سوف ينال من زعامته السياسية، وهو يقدم نفسه علي انه رئيس دولة الأقباط، والذين ارتاحوا هم لذلك، وساعده أهل الحكم في هذا التقديم، باعتبار ان التعامل مع شخص واحد افضل واسلم، من التعامل مع الآلاف، ربما بعضهم لا يمثلون ولو أنفسهم!.
قل ما شئت في ديكتاتورية البابا، لكن نحن مع شخصية من الصعب تعويضها، وعلي حد تعبير مستشاره الإعلامي السابق صديقنا طلعت جاد الله لي: لن تعرفوا قيمة البابا شنودة الآن!
فالبابا صاحب موقف وطني في قضية التطبيع، وهو يرفض السماح لاتباعه بالحج للأراضي المحتلة، وقال لن ادخل القدس إلا ويدي في يد شيخ الأزهر. قال هذا عندما كان شيخ الأزهر يعرف قدر موقعه، حتي وان كان يجلس علي كرسيه بقرار رئاسي، اما الحال الآن، فأنا لا استبعد ان نستيقظ من نومنا ذات يوم لنجد شيخ الأزهر هناك، لكنه لن يكون مع البابا، لأن البابا هو الأقرب لوجدان الشعب المصري هنا، أما شيخنا فهو الأقرب الي أهل الحكم، ويمكن ان يحدثك ثلاثة أيام بلياليهم عن ضرورة طاعة ولي الأمر، حتي ولو لم يتبين اذا ما كان أمره قد جاءه عشية او نهارا، وهو نائم أم وهو قائم.
والوجدان المصري، مثله مثل الوجدان العربي، في التعامل مع قضية الصراع العربي الإسرائيلي، الذي يعبر عنه اعظم ما يكون التعبير البابا شنودة الثالث بابا الكرازة المرقسية بالإسكندرية، ولهذا كان طبيعيا، ان تطلق عليه إحدي الصحف اللبنانية لقب: بابا العرب.
ويا أبونا كل سنه وأنت بخير.
اجمالي القراءات
19457