حكايتي مع مزدري الأديان
يقول الشاعر: كم ذا بمصر من مضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء!
فقد أثار اثنان من علماء الأزهر الدنيا، الأول بفتوي رضاعة الكبير، وجواز ان تقوم المرأة في مكان العمل بإرضاع زملائها، حتي يحل لها أن تبدي زينتها أمامهم، باعتبارها أمهم من الرضاعة، الأمر الذي فجر طاقات رسامي الكاريكاتير في الصحف فاضحكوا الثكالي.
والثاني هو مفتي الديار المصرية الذي قال إن الصحابة كانوا يشربون بول النبي ليتداووا به من الأسقام. وقد استند العالمان الي أحاديث منسوبة للرسول صلي الله عليه &aوسلم، ولم يشفع لهما هذا من ان يتحرك مجمع البحوث الإسلامية فيستنكر ما ذهبا إليه، لأنهما قالا بما لا يقبله عقل، وقد طُلب من الأول أن يعتذر فاعتذر، أما الثاني فقد تم استنكار ما قاله واستهجانه، ولم يكن ميسورا دفعه للاعتذار بحكم موقعه!.
لقد لفت ما قيل انتباه العامة - ناهيك عن الخاصة - الي أن ليس كل ما يلمع ذهبا، وأنه ليس ما ما احتوته كتب التراث، ولو منسوباً للرسول الكريم صحيحا، وأن في هذه الكتب ما يمكن ان يستخدم للإساءة لدين الإسلام، ويمثل مادة لخصومه يمكن لهم ان يستخدموها للإساءة إليه والتشهير به!.
لكن الغريب أنه في ذات الوقت الذي حدث فيه لفت الانتباه لخطورة كثير مما جاء في كتب التراث، حدثت هجمة بوليسية علي عدد من المصريين الغلابة ، وقدموا للمحاكمة بتهمة الانتماء الي تنظيم القرآنيين ، وقد تم تفتيش بيوتهم علي نحو مفزع، وأخذهم من الدار الي النار، مع أنهم لا يملكون سلاحا سوي أنهم أصحاب رأي مخالف، ويدعون للاحتكام للقرآن الكريم، ونفي ما عداه، باعتباره انه كلام الله الذي يعلوا ولا يعلي عليه. وهو رأي قد يختلف معه أهل الذكر - ولسنا منهم - إنما التعامل معه يكون بالحوار، ولا يكون بحشد قوات الأمن والتعامل مع أصحابه علي أنهم إرهابيون وقتلة، يستحقون أن يقدموا لجهات التحقيق، ويخضعون لسين وجيم، ويطرح أمرهم للعامة عبر الصحف، بشكل يوحي أن القوم قد تمكنوا من تطويق وحصار أسامة بن لادن في جبال تورا بورا!.
لقد حققت نيابة أمن الدولة العليا مع المقبوض عليهم، ووجهت لهم تهمة ازدراء الأديان، وشمل الاتهام الدكتور أحمد صبحي منصور، زعيم هذا التنظيم الخطير، وهو المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية الآن، ولا نعرف ما إذا كانت مصر وأمريكا وقعتا علي اتفاقية تسليم المجرمين أم لا، حتي يمكن لنا أن نتنبأ بمصيره بعد أن يقضي القضاء بإدانته علي جرائمه!.
أحمد صبحي منصور ليس فتي طائشا ضرب له سيجارة بانجو ، وتحدث في أمور الدين، حتي يمكن أن يتم توجيه تهمة ازدراء الأديان له، ولكنه عالم أزهري، حصل علي أعلي الشهادات العلمية من جامعة الأزهر، الأمر الذي يؤهله للاجتهاد، وقد يخطيء ويصيب، وعندما يخطيء له أجر، وعندما يصيب له أجران، و في الحالتين فلست أنا أو الجهات التي ألقت القبض عليه، أو رئيس النيابة المحقق مؤهلون لإقامة البينة عليه، فالذي يقيمها علماء مثله، في حوار لا يتحول العالم فيه الي شرطي، ومكانه هو ساحات العلم، وليس في ساحات المحاكم، أو مكاتب وكلاء النائب العام!.
لقد قرأت في إحدي الصحف التي قامت بتغطية وقائع التحقيق مع المقبوض عليهم، كيف ان المحقق سعي لإمساك تهمة واضحة مقنعة، فقد سأل المتهمين عما اذا كانوا يصلون السنن أم لا، مع أنني أعرف كثيرين لا يصلون الفروض، ولم يحدث أن تعرضوا لتجريدة أمنية، ولم يتم الزج بهم في السجون، لأنه وحسب معلوماتي المتواضعة، لا توجد في قانون العقوبات المصري عقوبة علي ترك الصلاة، لكن المحقق سعي لأن يمسك المتهمين بتهمة إنكار السنة، فماداموا لا يصلون السنن، فهم منكرون لها، الأمر الذي يصلح معه تكييف القضية علي أنها ازدراء أديان، إذا لا توجد عقوبة علي تهمة إنكار السنة، وإذا كانت هذه التهمة هي بيت القصيد، فالرجل تم اعتقاله في سنة 1987 وكانت التهمة هي إنكاره للسنة، وسط زفة إعلامية مفهومة في وقتها، اذ حدث هذا عربون محبة للمملكة العربية السعودية، التي كانت علاقتها بمصر قد عادت بعد سنوات من القطيعة!.
ومن الغريب أن أحمد صبحي منصور قد أضير مرة بسبب هجومه علي الوهابية وأخري بسبب هجومه علي خصومهم الصوفية، فقد كانت رسالته للدكتوراه عن أثر التصوف في العصر المملوكي، وهو ما اعترضت عليه الجامعة، وظل مصرا علي موقفه ومتمسكا برسالته لمدة ثلاث سنوات، وكان بإمكانه ان يحصل علي الدرجة العلمية سريعا إن قام بالنقل من الرسائل السابقة مثل غيره، لكنه اختار طريق الجدية، وبعد هذا اتفق مع ادارة الجامعة علي حل وسط وهو استبعاد ثلثي الرسالة وتم منحه الدكتوراه علي الثلث الباقي!.
وكانت هذه هي بداية رحلته مع المتاعب، فعندما آن الأوان للحصول علي الأستاذية تقدم بمجموعة من الدراسات التي تخالف الفكر السلفي المتوارث، وهنا حدثت ضجة ضده في الجامعة، وتقدم باستقالته وأقام دعوي قضائية ليلزم الجامعة الأزهرية بقبولها لكنهم رفضوا، حتي يتمكنوا من فصله، وكان لهم ما أرادوا!.
صبحي منصور ينكر عذاب القبر، ويقول إنه لا ناسخ ولا منسوخ في القرآن، ويختلف مع القائلين بأن المسلم العاصي الذي مات بلا توبة سيخرج من النار ويدخل الجنة، ويري انه سيخلد فيها، وينكر شفاعة الرسول صلي الله عليه وسلم، وينكر أسطورة الثعبان الأقرع!.
وهي أمور كما هو واضح عويصة، ولا يفهم فيها مثلي، أو مثل رئيس النيابة المحقق، او المسؤول عن التجريدة الأمنية التي هبت وذهبت الي المتهمين وأخذتهم من بيوتهم الي السجون، وحسب معلوماتي المتواضعة ان هذه القضايا اختلف حولها الفقهاء في طول التاريخ الإسلامي وعرضه، ولا تعني ان صاحب هذا الرأي أو ذاك مسلم وموحد بالله وأنا المختلف معه يجوز ان يدخل السجن بتهمة ازدراء الأديان. وحسب معلوماتي ايضا ان الشيخ محمد الغزالي كان من الذين يقولون انه لا ناسخ ومنسوخ في القرآن، وان كان رأي صبحي منصور في أمر النار مزعجا، فلا أظن أن إنكار الثعبان الأقرع يمكن يؤهل المنكر لأن يخضع للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا.. بمناسبة الثعبان الأقرع، هل رأي أحدهم ثعبانا بقُصة مثلا، أو أن شعره علي الخدود يهفهف!.
علي ذكر الشيخ الغزالي يرحمه الله فقد قرأت له في أحد كتبه - علي ما أتذكر - يشيد بالرجل وبفكره، وعندما يتم اتهامه الآن بازدراء الأديان، فهل لمثلي أن يغلب رأي الغزالي، أم رأي جهات التحقيقات والاتهام!.
لقد كان الدكتور صبحي منصور من المحسوبين علي التيار السلفي، إذ كان عضوا في جماعة دعوة الحق الإسلامية التي أسسها الدكتور سيد رزق الطويل، وقد احتفل السلفيون بكتابه عن احمد البدوي - الحقيقة والخرافة، الذي يؤكد فيه أنه ليس صوفيا، وليس أحد أولياء الله الصالحين، كما هو شائع حتي يومنا هذا، ولكنه جاء الي مصر لينشر المذهب الشيعي في عصر المماليك، ولكن لأنهم كانوا يراقبونه، فقد تستر بالتصوف ليداري تشيعه. لقد هلل السلفيون والوهابيون له، لكن سرعان ما انقبلوا عليه، وتم فصله من جماعة دعوة الحق بأوامر سعودية!.
التقيت بالرجل لأول مرة في مكتب الدكتور فرج فوده، الذي اغتاله الإرهاب والتطرف الديني، وقد عرفني عليه بذكر اسمه: أهلا وسهلا.. اهلا وسهلا، ولما شعر الدكتور فوده ان الاسم لم يلفت انتباهي لشيء قال لي الدكتور صبحي هو المتهم بإنكار السنة. وكان هذا بعد سنتين - تقريبا - من قضيته الشهيرة، وقد علمت بعد هذا ان الدكتور فرج فوده كتب مقالا رائعا منحازا فيه للدكتور صبحي منصور الذي خذله الناس جميعا، وهاجم وزارة الداخلية التي تتصرف في قضايا فقهية وفكرية كما تتصرف مع اللصوص، مع ان هذا أمر فوق طاقة الذين قاموا بإلقاء القبض علي أحمد منصور العقلية، وبعد الإفراج عنه زار منصور فوده ليشكره لتصير بينهما صداقة استمرت حتي اغتياله يرحمه الله.
أول ما استلفت انتباهي أن الرجل يلبس ملابس متواضعة للغاية، في حين انني كنت قد قرأت لواحد من شيوخ الأزهر في حوار تمطع علي صفحة كاملة، بإحدي الصحف الإسلامية قوله ان جهة أجنبية أرسلت لمنصور مليون جنيه عقب الإفراج عنه، مكافأة له علي حربه علي الإسلام، ومن هول ما رأيته فقد رددت ما قاله علي أسماعه، فعلق مبتسما: مليون دولار أم جنيه.. تفرق!.
من يومها وأنا أكبر أحمد صبحي منصور، فبغض النظر عن فكره فيكفي أنه صاحب رأي يدفع ثمن إيمانه برأيه، ويذوق الآمرين من جراء تمسكه به، ومن حصار وصل الي درجة التجويع، فيكفيه إيمانه بما يقول وضرورة ان يقول ما يقول. بعدها عرضت عليه الكتابة في جريدة الأحرار أسبوعيا، وكنت قد استكتبت الدكتور فرج فوده قبله فيها، في وقت أغلقت الصحف القومية أبوابها في وجهه، وقبل ان تنشر له بانتظام مجلة أكتوبر.. الآن أهل الحكم يتحدثون باسم الدولة المدنية!.
وقد شعرت بمرارة عندما طلب مني الدكتور فوده ان أخاطب رئيس التحرير في مكافأة شهرية للدكتور صبحي منصور، وهي وإن كانت قليلة من وجهة نظره إلا أنها شيء أفضل من لا شيء.. قال لي فرج فوده ان صبحي منصور ليس له مورد ثابت للرزق بعد فصله من جامعة الأزهر، وهو العالم النزيه الذي وصل الي أعلي الدرجات العلمية وضحي بكل شيء في سبيل رأي يعتقد بأنه الحق. لقد صارت بيني وبينه صداقة اعتز بها، وحدث أن دعاني للإفطار في شهر رمضان بمنزله الذي يسكن فيه منذ ان كان طالبا، وكان معنا عالم آخر هو الدكتور محمد سعيد مشتهري ابن إمام أهل السنة الشيخ عبد اللطيف مشتهري، الذي كان مع صبحي منصور علي الخط، لكنه كان يتقدم خطوة ويتأخر أخري احتراما لموقع والده الديني.. تناولنا إفطارنا، فقد كانا صائمين أيضا، وصلينا المغرب جماعة وامنا الدكتور مشتهري، الذي كان ضمن ثلة من أساتذة الجامعات المعارضين الذين فصلهم الرئيس السادات في أواخر أيامه، وعندما تقرر عودتهم، رفض العودة واشتغل بالعمل الحر، وكان ذلك قبل توجهه الفكري الجديد.
وما أقوله إن صاحبنا يجتهد في إطار الإسلام، وهو مؤهل للاجتهاد، وقد يخطيء، لكن نيابة أمن الدولة ليست هي الجهة التي يناط بها مناقشة هذا الاجتهاد، والمجتهد له أجران ان أصاب واجر المجتهد ان اخطأ، واهل الحكم في مصر صدعوا رؤوسنا بالدولة المدنية، واذا بهم يستدعونا أسوأ ما في الدولة الدينية التي كانت تتهم من يخالف السائد من الأفكار بالهرطقة!.
لست مهتما بأفكار احمد صبحي منصور، لأنني لست فقيها مثله، ولكن ما يهمني هو تضحياته من أجل أفكاره، وكان يمكن أن يكون في حال غير الحال إن هو وظف طاقته الفكرية لخدمة الفكر السائد، وإذا كنت لست معنيا بطبيعة الثعبان وهل هو أقرع أم لا، وهل له وجود، أم أنه لا وجود له، فما يعنيني أنني قرأت دراستين للرجل الأولي عن حد الردة، والثانية عن حرية الرأي في الإسلام، وهما من أمتع ما قرأت وفي الأولي ذهب الي انه لا وجود لهذا الحد، وفي الثانية خلص الي أن حرية الرأي والاعتقاد بدون سقف.
ويا أيها الملأ الذين في المباحث إذا كان أحمد صبحي منصور قد ازدري الأديان، فما هو رأيكم في صاحب فتوي إرضاع الكبير، التي جعلتنا مسخرة أمام الخلائق.. إلهي تموتوا موتة شنيعة!.
اجمالي القراءات
18013
تحية لك على هذا المقال الصادق ، لو كنت من أهل القرآن لقلنا أنه من الطبيعي أن تدافع عنهم ولكن أنت تشهد من واقع معايشتك للأحداث التي جرت ، وجميل أن تسرد لنا بنفسك بداية تعرفك على الكتور أحمد صبحي لأن البعض يظن أن ما لاقه الرجل في حياته من صعوبات وقلة ذات اليد واضطهاد وتكفير من وحي الخيال وغير صحيح ، ولكن الحمد لله الذي أجرى على لسانك هذه الشهادة التي يعرفها كثيرين ولكنهم يستكثرون على الرجل قولها لحاجة في نفوسهم،بارك الله فيك وفي قلمك ، والله من وراء القصد.