الدين بين الطبيعة والتحدي
في لقائي مع برنامج الشريعة والنعمة على قناة الآرامية منذ أيام دار النقاش حول موضوع الحرية الدينية في الإسلام، ولأن مسائل الحرية من أعمق القضايا وأكثر تفريعا وارتباطا بأمور أخرى كالحقيقة والتاريخ والاجتماع فضلت مناقشة الحرية في البرنامج بطريقة جديدة غير نصية كما هو معتاد.
فالسائد عند مناقشة مسائل الحرية الدينية في الإسلام أن يتم ذكر آيات قرآنية تحض على التسامح والرحمة من جانب المنظور الإسلامي، وأما الجوانب الأخرى سواء دينية غير إسلامية أو إلحادية يجري الاستشهاد بآيات الحرب والقتال، ولأن هذه المعضلة القرآنية نوقشت قديما في حوارات طرابيشي مع الجابري وكتابات مصطفى الشكعة وغيرهم أصبح إعادة مناقشتها تكرارا مملا لأسماع المفكرين.
فالقرآن المكي مشهور بآيات التسامح، أما المدني بآيات القتال..ولولا المنظور الحنبلي والحديثي القديم باعتبار أن آيات القرآن جميعها قديمة قِدَم الله نفسه لتم حلّ هذه المعضلة في رأيي بكلام المعتزلة الدقيق الذي يرى أن القرآن به محكم ومتشابه، فأما الآيات المحكمة هي التي تتناول أصل الدين والتوحيد والأخلاق بدلالة واحدة، وأما المتشابه فيتناول أحداثا وتشريعات مظروفة زمكانيا، ومن هذا المنظور تم اعتبار تاريخانية هذه الآيات بما اصطلح عليه قديما بخلق القرآن، ولأنها مسألة لازالت شائكة في الفكر الإسلامي فأغلب المثقفين عاكفين عن تناولها مخافة النقد والتكفير والهجوم..رغم إيمان الفقه الإسلامي عموما بتقييد آيات أو تخصيصها وهو سلوك مرادف لقول المعتزلة بالأساس..
المهم : دخلت البرنامج وفي اعتقادي أنني سأناقش مسألة فكرية مع مجموعة مفكرين، ولكني وجدت نظاما آخر وأجواءا تبشيرية وتعصبا ومقاطعة وشخصنة وتشتيتا وانحيازا من مقدم البرنامج، شرحت ما لدي قدر الاستطاعة ومن بين ما ذكرته هو التفريق بين (طبيعة الأديان) و (وتحدياتهم) حسنا..فهذا مرتبط ارتباطا وثيقا بما سقته في المقدمة ولكن بنظرية معرفية اختصارها كالآتي:
(أن كل دين يمر بثلاثة مراحل، الأولى: مرحلة النشأة وفيها تعقد الثوابت والأصول العامة للدين، أما الثانية: فهي مرحلة الصراع..وفيها يجري الصراع على أحقية كل طرف بالحقيقة في زمن النشأة الأولى، وأما الثالثة: فهي مرحلة التقليد..وفيها يجري تقليد المتصارعين على النشأة باعتبارين، أنه لا يمكن وصول المقلدين لمعارف وحقائق زمن النشأة في المرحلة الأولى نظرا لخطية التاريخ الموجبة لانتقال النقطة (ج) إلى النقطة (أ ) إلا المرور بالنقطة (ب) ولأن المتصارعين في المرحلة الثانية يحتكرون كل القيم النفسية والمعرفية عن زمن النشأة، ولا طاقة لغيرهم بمعرفة حقائق نشأة الدين سواهم.
ومن شدة منطقية هذه الرؤية ظهر ما عرف لاحقا بمصطلح "السلف الصالح" باعتبار المتصارعين هم الأقدر على فهم ورؤية نشأة الدين، لكن ظهور المصطلح لم يعترف بصراع هذه الفترة في حين عمل الفقهاء المذاهب على طمس الحقائق التي حدثت فيها، بسلوك معاكس تم فيه تقديس كل أطراف الصراع حسب اتجاه ورؤية كل مذهب لسلفه المتصارع.
ولتلافي أخطاء الفقهاء وفهم الثلاثة مراحل بدقة أكثر تم اعتبار أن ما حدث في المرحلة الأولى – زمن النشأة - جزء منه طبيعة جوهرية للدين، والجزء الآخر تحديا يمثل فرعا متغيرا دنيويا لا يُقاس عليه، وعندي أن جوهر الإسلام كان في المرحلة المكية كحركة إصلاحية لمجتمع فاسد من جوانب عدة، ويدعم ذلك أن القرآن المكي اهتم في 90% منه على بناء النفس والعقل والمجتمع والدعوة للتسامح والرحمة، أما البقية فهي قصص تدعم نفس التوجه من ناحية أدبية واجتماعية، بينما المرحلة المدنية تعرضت (لأول تحدي) لدولة الرسول..وهو التحدي المقصود بالظرف المتغير الذي اعتبره الإرهابيون أصلا دينيا..بينما اعتبروا جوهر الدين فرعا يصحح لهم هذا الأصل.
فكل جهاد لديهم لكي يحققوا الرحمة والتسامح، وكل غزو لديهم ليحققوا عالمية الإسلام، بينما العقل والمنطق يقول العكس..أنه ولكي تحقق عالمية الإسلام ينبغي عليك بناء قدوة إنسانية لا بالحرب الداعية للبغض والكراهية، ولكي تحقق التسامح المرجو فليس بالجهاد الذي يبخس حقوق الآخرين ويسلبهم أعز ما يملكون من نفس ومال وعقيدة، والغريب أن القرآن يؤكد هذا التصحيح لوجهة نظر الإرهابيين والأصوليين عامة، أنه ما كان ينبغي لكم أن تؤسسوا الدين كجهاد..إنما كحركة عقلية وإصلاحية لمجتمع قاصر في ذاته ومقصر في سلوكه.) انتهى
هذه النظرية المعرفية في رأيي تحل أغلب معضلات التاريخ الإسلامي والمسيحي أيضا...وأي دين أو فكر، كذلك تثبت وجهات نظر كثيرين حتى لذوي الآراء المتباينة حول فهم الدين الأول..أو فترة السلف الممتدة لثلاثة قرون بعد موت الرسول، ومؤداها أن بخس الحقوق الدينية والاجتماعية لم يظهر في مرحلة النشأة من وجهين:
الأول: باعتبار دولة الرسول أصلا دينيا كما أسلفنا..وهي نفس وجهة النظر القائلة بأن الإسلام دين حرب وغزو وقتال..
الثاني: بحرص المتصارعين والمقلدين على تحول الخطاب الأممي في القرآن لخطاب سلطوي، وهو خلط ناقشته قديما في كتابي "تحرير الفكر".
فما كان يجب تحويل خطاب الأمة لخطاب خلفاء ووزراء بعد موت الرسول، لأن السياسة بنيت على المصالح..وليست العقائد، وبالتالي كل تحويل سياسي لعقيدة سينتج عنه فرق دينية تكثر بتنوع هذه المصالح..وهذا ما حدث في صدر الإسلام إذ تحول المسلمون لعشرات الفرق بحسب تعدد وجهات نظرهم لتفسير المصلحة، وفي تقديري أن هذا الجانب الفلسفي كان مهما لأهل تلك الفترة..لكن ولأن العرب لم يعملوا في الفلسفة لأسباب بيئية وقبلية ناقشتها في كتابي الأخير "الفلسفة هي الحل" لم يفطنوا لموطن الداء فحوّلوا الإسلام لدين غزو وحرب وكراهية..في حين طمسوا تماما أصله الأول وجوهره الإصلاحي الذي لولاه ما صدّقوا الرسول.
هذا هو الفارق بين الطبيعة والتحدي..فطبيعة وجوهر الإسلام هو إصلاحه لمجتمع قريش وخلقه صراعا بينه – كبديل – وبين السائد القرشي، فلو كان السائد يقتل ويظلم فمن الطبيعي أن ينكر البديل ذلك ليقنع القرشيين أو المُهمّشين ومن يعانون من طبقية هذا المجتمع، كذا ولافتقاره القوة اللازمة لإجبار مجتمع قريش على الإسلام..فالسائد في أي زمن له القوة السياسية والاقتصادية والمعنوية، ولو لم يرافقه بديلا روحيا ومعنويا كذراع دعائي لن يتمكن من امتلاك أنواع أخرى من القوة كالمال والنفوذ القبلي.
لذا فالقول أن الإسلام في جوهره دين حرب ليس كلاما عقليا..هكذا رأيت المناقشة التي وددت إيصالها للأخوة في القناة..علما بأن لي محاضرة على يوتيوب بعنوان "حكم قتل المرتد" ناقشت فيها الحرية الدينية في الإسلام من التراث ومن القرآن بتوسع دون هذا المنطق العقلي أو استخدام تلك النظرية، فالحديث العقلي والفلسفي شئ والنقدي التراثي شئ مختلف، في حين يمكن المزج بينهم في حوار فكري جيد بين مستويات عقلية متقاربة تفهم بعضها
كنت أتمنى في الأخير، أن تتاح لي الفرصة لشرح هذا، ولكن تعصب المذيع والضيوف حال دون ذلك..ولا أريد التركيزعلى هذا فكل – أو أغلب – المسائل التي اشتبهت عليهم كانت ردودها جاهزة ، منها تحديا تاريخيا بحقيقة قتل الرسول لأي مرتد..وهو ما لم يحدث بشهادة المحدثين والمؤرخين الإسلاميين أنفسهم الذين نقلوا ارتداد (ثلاثة صحابة) هم عبدالله بن أبي السرح وعبدالله ابن خطل والحارث ابن سويد، وأنه لم يسبق للرسول أن يعاقبهم..في حين تمسك الأخوة بحديث عكرمة البربري مولى ابن عباس الشهير بحديث "من بدل دينه فاقتلوه" وهو حديث ضعيف السند بجرح عكرمة ولأنه آحاد أيضا لا يُعمل به في العقائد.
لكن اتجاه قتل المرتد عموما لم يحدث إلا في زمني الصراع والتقليد كما سلف، وزمن التقليد بالذات باعتبار تأثر المتصارعين (ببعض) ثوابت زمن النشأة الأولى ومن بينها الحرية الدينية، وأن إقرار عدم الحرية كان يلزمه جهدا كبيرا من الخليفة يُطوّع فيه الفقهاء والقصاصين بتحويل آيات القتال لأصل ديني..أحسب أنه جاء مرافقا للفتوحات الأموية في بلاد خراسان والقوقاز وشمال أفريقيا ، ومحاولاتهم المتعددة لغزو القسطنطينية..كل هذا يلزمه جهازا دعائيا على غرار وزارة إعلام الخليفة تقنع الشباب والرجال بالتطوع، وتقنع نسائهم بالتضحية، وتقنع الأغنياء بالتبرع والفقراء بالصبر..
اجمالي القراءات
4232