حقيقة الجن في الإسلام
الجن في الثقافة العربية والشرق أوسطية ليس كائنا روحيا، بل له خواص فيزيائية مادية يأكل ويشرب ويمارس علاقاته الطبيعية دون أن نراه، لذلك فالبحوث العلمية لا تؤمن بهذا التعريف للجن، فالمفاهيم العلمية إما مادية وإما روحية، الأولى يجب أن نراها ولو بمكبرات الصور، أما الثانية ففي داخل النفس البشرية كتصورات القيم والمنطق والفلسفة والأخلاق.
لذلك لا تجد عالما يؤمن بالجن، ولو آمن فبفصل تام بين حقائق العلم وحقائق الدين، ولتبرير هذا الفصل يربط بين حقائق الدين والغيب، وفي اتجاهات حديثة لفقهاء المسلمين ربطوا بين حقائق الدين والعلم فيما يسمى "الإعجاز العلمي" إنما الجن لا يندرج ضمن هذا المفهوم لاختلاف طبيعته التكوينية عن مفاهيم البشر ، فمكونه المادي يسمح له حتى بممارسة الجنس وسلوك الحياة البشرية الطبيعية كالنوم والسفر والتدين والتنزه..إلخ
يهمني الآن طبيعة تصور العرب للجن، لأنه انعكس على نصوص الدين وانتشر بفضل قداسة اللغة والتراث، لذا أعتقد أن تصور المسلمين للجن مختلف عن تصور الشعوب الأخرى جذريا لكون تصورهم عربي أساسا، وهم يطلقون وصف الجن على الشياطين بوصف الشيطان من الجن الشرير، للصورة التكوينية السابقة التي اعتقدوا فيها أن الجن يتدين أيضا كما البشر، وبالتالي هو مخلوق مُكلّف بالعمل الصالح في الدنيا، وسيلاقي ثوابه وعقابه في الآخرة.
إنما طبيعة خلق الجن شكلت معضلة فلسفية وعقائدية عند شيوخ المسلمين، فالسائد أن الجن مخلوق من نار –بمن فيهم الشياطين طبعا – وبما أنه مخلوق مُكلّف سيدخل الأشرار جهنم يوم القيامة، وبما أن جهنم نار ومادة خلق الجن نار..إذن فهو ليس بعذاب..!..أصبح الفقهاء في حيرة منهم من اجتهد لحل هذه المعضلة بقوله أن نار الآخرة ليست هي نار الخلق، ومنهم من قال أن عذاب الآخرة للجن ليس بالضرورة أن يكون نار..وعمدته في ذلك أن الله ذكر لنا عذاب الآخر أكثر من كلمة النار، فخصص النيران للبشر وعمم العذاب للجن، ومنهم من توسل أخيرا بالمجهول وأرجأ هذه القضية لعلم الله والغيب، فقط عليه أن يؤمن بوجود الجن وأنه مُكلّف لكن لا شأن لنا بمصيره عند الله لعدم وجود نص.
أما موضوع تلبس الجن والمشهور عامياً.."بركوب الجن للبشر"..خرافة قديمة لم يسلم منها أي شعب، حتى أوروبا كانت غارقة في العفاريت والجن قبل عصور التنوير والنهضة من 300 سنة ، بعدها عرفوا يقيناً أن ذلك مجرد وهم وخرافة تزول مع المعرفة ، وأن أعراض هذا "اللبس" هو في الحقيقة أعراض لأمراض نفسية يعرفها طلبة العلم، وعلاجها موجود عند أطباء النفس، وبدلاً من أن ينشغلوا بسؤال كيف يخرج الجن من الجسد، انشغلوا بالطب النفسي وانتشرت عيادات الأطباء حتى أصبح الذهاب للدجال أو الكاهن لعلاج المريض أمر مستقبح شعبيا، ونجحوا في حصار الخرافة بعد معاناة من الكهنة والجهلة، صحيح ما زالت هذه الخرافة موجود في بعض مجتمعات الغرب لكن شوكتها ضعيفة وتيار العلم يحاصرها بقوة.
أما نحن فما زلنا نعاني، وقصة موت الصحابي سعد بن عبادة شاهد ودليل على أن .."سلف"..هذه الأمة كان غارقاً في الوهم للرُكَب ، ولمن لا يعلم من هو الصحابي سعد بن عبادة هو كبير الخزرج في المدينة، أي كان أحد زعماء الأنصار، وبعد موت النبي تنافس على الخلافة مع أبي بكر وعمر، وبعد انتخاب عمر بن الخطاب حدث خلاف بينه وبين بعض الصحابة سافر بعدها إلى الشام –عند معاوية- وبعد فترة وُجد مقتولاً في غرفته، هذه جريمة لابد لها من فاعل،والرجل كان زعيماً سياسياً، يعني مُرجح أن الذي حدث هو اغتيال مع سبق الإصرار والترصد.
لكن لم يجدوا صعوبة في إحالة القضية إلى مجهول لتُحفظ في أدراج التاريخ، واخترعوا أن الجن هو الذي قتل سعداً، ثم أنشد البيت المشهور.."قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة..ورميناه بسهمٍ فلم يُخطئ فؤاده"..ثم اتفق أغلب فقهاء ومؤرخي السنة على أن الجن هو الذي قتل ابن عبادة ، من طبقات ابن سعد إلى ابن عبدالبر إلى الذهبي إلى ابن الأثير إلى ابن عساكر إلى الحاكِم وغيرهم..لكن ولأن القصة ستفتح القيل والقال ....مؤخراً طعن البعض في صحة القصة بأكملها كالألباني وبعض فقهاء السلفية، لأن التهمة ستذهب مباشرة إما إلى عمر وإما إلى معاوية على أنها اغتيال سياسي، ولم يُجيبوا في النهاية كيف مات سعداً، ولكن اكتفوا بالطعن في القصة، وقالوا أن رواية قتل الجن لسعد بن عبادة مشهورة عند المؤرخين ولكن ليس لها سنداً صحيحا.
هذا يعني أن الشيوخ وعلماء السلف والسنة ظلوا يعتقدون أن العفاريت هي التي قتلت الصحابي مئات الأعوام إلى أن جاء الألباني باشا وأنكرها، والسبب أنهم يؤمنون بالأشباح وقدرتها على إيذاء بني البشر، وينسبون هذا الهراء إلى الله، ولتفسير ذلك لم يصلوا لهذه النتيجة عشوائياً، بل وصلوا إليها بنظام، يعني بتفاسير منحرفة للقرآن فسّرت.."المس الشيطاني"..على أنه لبس وتلبس وركوب، وبالتالي فاللعفاريت قدرة على أذى الإنسان، رغم أن المس في القرآن له معنىً آخر وهو الوسوسة ، ومعها أن الشيطان مهما بلغت قوته غير قادر على أذى الإنسان إلا بإرادته هو، يعني عملياً الإنسان هو الذي يؤذي نفسه ولا سلطة للأشباح عليه -إن وجدت..
عمدة القائلين بأن المس الشيطاني هو اللبس والركوب قوله تعالى.." الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس "..[البقرة : 275] وبما أن أكل الربا عمل مادي فالعلة –تخبط الشيطان له- عمل مادي أيضا..وهذا غير صحيح، السياق مجاز عن قدرة آكلي الربا على فعل الشر، الشيطان هنا يعني الشر وليس كائنا أو عفريتا فعل ذلك وإلا انتفي التكليف، ومثل هذا المجاز منتشر في لغة العرب كقول أحدهم "ركبه عفريت" أي تحول سلوكه بشكل غير طبيعي، أو قولهم "ركب رأسه الشيطان" أي أصر على رأيه الفاسد دون ضمير، أو فعل الشر في لحظة انفعال.
وكذلك المس لا يفسر بشكل مادي دائما، فهو مصطلح لغوي مشترك لعدة معانٍ في اللغة، فهو يعني أحيانا اللمس، ويعني القُرب/ الاقتراب/ الشعور كقول أحدهم "مس كلامه إحساسي" حتى لو قصد به معنى ماديا فليس بالضرورة أن يكون لمس، فلان مس فلان في مكانه، أي اقترب منه أو أذاه أو تعرض له بأي شكل، وفي قول النبي أيوب معنىً آخر " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر "..[الأنبياء : 83] أي أصابني الضر، ونفس المعنى للنبي إبراهيم.."قال أبشرتموني على أن مسني الكبر". [الحجر : 54]..وأخيرا في قول أيوب.." واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب".. [صـ : 41] فلا يمكن تفسير المس هنا ركوب وتلبس لأن النبي يوحى إليه، بينما اللبس يسقط معنى الوحي إلى المرض والهوى.
أتذكر هنا كلمة للشيخ محمد الغزالي قال." هل العفاريت متخصصة في ركوب المسلمين وحدهم؟ لماذا لم يشك ألمان أو يابانيون من احتلال الجن لأجسادهم؟ "..ورغم أن الغزالي من أصوليي المسلمين ويتبع عمليا تيار السلفية والإخوان المسلمين لكن فرط إيمان الناس بالخرافة استفزه شخصيا حتى أجبره عن الخروج على طوره المعتاد..
ثم كيف للشيطان أن يؤذي الإنسان والقرآن نفى ذلك بقول إبليس.."ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي"..[إبراهيم : 22] هنا الشيطان لا يؤذي ولكن يوسوس كما أشرنا وثبت في آيات أخرى، ومعنى الوسوسة قد يُختلَف عليه بين الاتصال المادي المباشر أو كناية عن فعل الشر، فالشيطان في الرمزية الإسلامية ليس كائنا يبادر بالشر دائما بل هو "معنى الشر نفسه" قال تعالى.." لا تتبعوا خطوات الشيطان"..[البقرة : 168] أي لا تفعلوا الشر، والتتبع يعني أن المبادرة للإنسان، وكذلك في قوله تعالى.." إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا"..[آل عمران : 155] أي كانوا جبناء هربوا من المعركة، والجُبن صفة أصيلة في البشر ليست شريرة دائما، بل تحفظ حياة الناس وقت الضرورة، إنما في الآية أصبحت شر كونها حضرت في سياق معركة مصيرية.
ويؤكد ذلك قوله تعالى.." الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا"..[النساء : 76] والمعنى أن أولياء الشيطان هم الطاغوت، ناس تعيش على ظهر الدنيا ليسوا بالضرورة جنود لإبليس..فالرمزية هنا أن الشياطين هم الأشرار، ولأن فعل الشر للإنس والجن معا فهناك شياطين للإنس والجن، قال تعالى.." وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" [الأنعام : 112] والوحي يعني ثبوت الاتصال إما بطريقة مباشرة مادية وإما بطريقة معنوية غير مباشرة.
حقيقة أن الاتصال هنا بين الإنس والجن شكّل معضلة فلسفية وعقائدية في الفكر الإسلامي، لأن السائد خلاف في نشأة الخلق ومادة الطبيعة، هذا من تراب ومن طين، وهذا من نار، وبالتالي أصبح الاتصال المادي بينهم مستحيل، لكن البعض فسروه بطريقة معنوية روحية كما حدث قديما بتصور الجن في العصور الوسطى أنهم كائنات تعيش في العالم السفلي، أو في البحار والأماكن المهجورة، ورأيي أن هذه الأماكن تعني أن البشر توسلوا بالمجهول لتفسير ظواهر وعقائد دينية ثابتة، أي أحالوا معاني النصوص لأشياء غيبية تقنعهم في حال لو لم يروا ذلك على الطبيعة، وفسروا الظواهر بنفس الطريقة
دليل ذلك أنهم قالوا في نفس الوقت بحضور الجن والعفاريت في المساء دون النهار، هنا أيضا توسلوا بالمجهول كون المساء أقل أوقات اليوم معرفة أو قدرة على المعرفة، إذ تتعطل غالب حواس الإنسان بالنوم والظلام والعُزلة فتقل المعارف عما هو في النهار، وهذا يعني أن المساء لو أصبح فيه الإنسان أكثر قدرة على المعرفة سيختفي فيه الاعتقاد بحلول الجن فيه دونا عن النهار، نفس الشئ في الأماكن المهجورة والبحار، لو علم الإنسان ما في هذه الأماكن يختفي فورا الاعتقاد بالجن، وهذا ملاحظ في ظاهرة التمدد العمراني..أنه وكلما تمدد العمران لمناطق حكيت فيها أساطير عن الجن تختفي فورا تلك الحكايات..
نفس الشئ عن الصحاري، فالإنسان لا يسكن الصحراء بل في الأودية والسهول وعلى ضفاف الأنهار،وبالتالي لا جن في تلك الأماكن لعيش الإنسان فيها واستقرار مجتمعه منذ ملايين السنين، بينما الصحراء بعيدة وحياتها غير معلومة للبشر بشكل كبير فيتوسل الناس بالمجهول ويعتقدوا أن الجن يسكن فيها، ولو انتشر العمران في الصحراء تختفي أساطير الجن فورا، إذن توجد علاقة بين الجهل والاعتقاد بالجن مردها إلى نظرية محكمة وهي "كُلما علم الإنسان كلما قل إيمانه بالجن، وكلما جهل الإنسان أو فقد القدرة على المعرفة كثر إيمانه بالجن".. بل يزيد معدل الإيمان ذلك لمستويات قياسية يعتقدون فيها أن الجن ليس مجرد كائن بل إله، وهذا كان شائع في جزيرة العرب قبل وبعد الإسلام وهو "عبادة الجن" وفي كتاب الحيوان للجاحظ عرض فصولا في الجن عاب فيها المبالغة في تصور الناس لهم وأخبارهم ، ثم نسب هذه المبالغات للأعراب سكان الصحراء وتناول أخبارهم بالنقد، نفس الشئ فعله المسعودي في مروج الذهب.
قصص الجن كثيرة ليست حصرية فقط للعرب كما أسلفنا، فهي ملازمة للشعوب المثالية التي فسرت حياتها وأديانها بالعرفان، كشعوب آسيا وأفريقيا مثلا..وحكايات ألف ليلة وليلة أصلها هندي ترجمها الأوربيون في القرون الوسطى للاتينية، ثم ترجمت في القرن 19 للعربية، كذلك قصص علاء الدين والمصباح أصلها هندي بتأثيرات تركية وصينية، فالشعوب التركية ليست أوربية بالأساس بل أسيوية عقدت هجرات منذ 1000 عام لآسيا الصغرى واستوطنت جبال الأناضول فيما تعرف بجمهورية تركيا حاليا، وغالب عقائد الأتراك عن الجن مستقاه من ثقافتهم أيام ما كانوا أسيويين مجاورين لشعوب الهند والصين.
كذلك فالفرس تأثروا بهذه القصص عن الجن، ولارتباط هذا الاتجاه بأعمال السحر وجد اليقين بالجن قبولا عاما في مجتمعات الفرس الزرادشتية قبل الإسلام، إذ كانت طائفة المجوس وقتها تمثل كهنة الزرادشتيين يمارسون أفعال السحر، ومن هذه الأفعال أطلق عليهم جنود الإسكندر الأكبر لقب "المجوس" magos أي السحرة باللغة اليونانية القديمة، وبقيت آثار هذه التسمية في اللاتينية وترجم السحر بلفظ magic ولأن السحر يعني قدرات خارقة للطبيعة ارتبط وجود الجن بهذه القدرات..وأصبح الاعتقاد بالجن مرتبط بمعجزات وكرامات كثيرة تحدث لدرجة أن يرث المسلمون الاعتقاد الزرادشتي ويثبتون في عقائدهم اتصالا بين أوليائهم وشيوخهم وبين زعماء الجن مثلما أنزل الله تلك القدرات والفضائل للنبي سليمان.
أما عن معنى الجن في القرآن فأختم به وأقول أنه مسألة جدلية يحتمل فيها عدة معاني، الأقرب لي فيها ما وصل إليه صاحب كتاب.."الجن واختلاف الأرباب" للصديق والإمام بالأوقاف الشيخ عمرو الشاعر، وأُثبت فيه اختلاف معاني "الجن عن الجان" و "الإنس عن الإنسان" ووصل أن الجان في القرآن وصف يشمل كل المخلوقات الغيبية كالملائكة والشياطين ، أما الجن فهو وصف لأعيان الناس وحكامهم ، بالتالي هم بشر زعماء والإنس هم الضعفاء والمحكومين، بالتالي فسورة الجن تحكي لقاء النبي بطائفة من الناس لها نفوذ وتأثير..وهذا سبب لإفراد سورة كاملة بمساحة معتبرة للقائهم والأحاديث التي دارت بينهم.
كتاب "الجن واختلاف الأرباب" يقع في 200 صفحة من القطع الكبير مسندا بأدلة علمية ولغوية وقرآنية، غاص فيها الكاتب بين الحضارات واللغات والأديان وتفاسير الفقهاء المسلمين، وهو تحفة علمية ميزت صاحبها المُدرٍك لعدة لغات بوصفه صاحب مركز "أركادا" في المنصورة لتدريس اللغات خصوصا الألمانية ، وحقيقة عندما قرأت هذه النتيجة في كتب أخرى لمثقفين وطوائف لم أجد ما يقنعني لديهم مثلما وصل الأخ.
فتفسير الجن بالقوة والذكاء له مرادفه في اللغات الأخرى، مثلا في اللاتينية Genius تعني العبقري أو النابغة أو الموهوب، وهذه صفات أكابر الناس والمشاهير وصفوة المجتمع، وهذا قول بعض المعتزلة وفلاسفة المسلمين وأهل الرأي قديما كما حكى الفخر الرازي في تفسيره الكبير والقزويني في كتابه "عجائب المخلوقات"
هذا التفسير لصاحب الكتاب يحل معضلات كثيرة في الفكر الإسلامي، منها مثلا تحديد طبيعة خلق إبليس وهويته، فهو مَلَك جان مخلوق من نار..وفي نفس الوقت جِنّ من زعماء الملائكة، وهذه القضية الجدلية أخذت وقتا وجهدا كبيرا من فقهاء المسلمين لحل التعارض الجوهري بين الآيتين.." وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس "..[البقرة : 34] وقوله.." وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه"..[الكهف : 50] فإبليس حسب النص القرآني هو مَلَاك وفي نفس الوقت من الجن، بينما التراث الإسلامي ذكر أن مادة خلق الجن هي نفسها مادة خلق الجان وهي (النار) بينما مادة خلق الملائكة هي (النور) وعليها أوجدوا إشكالا كبيرا في هوية إبليس ومصيره في علم الكلام والفلسفة الإسلامية.
ويزيد من قوة هذا التفسير أن مادة خلق الملائكة لم تُذكَر في القرآن، وفي نفس الوقت تعيينها بالنور يتصادم مع قوله تعالى.."الله نور السماوات والأرض"..[النور : 35] فحمل الملائكة على النور يعني وحدة الطبيعة بينهم وبين الله ، بالتالي فتحوا الباب لتأليههم بقدسية النور، وربما في مخيلة المسلمين تختلط معاني التقديس والقدرات الخارقة للملائكة مع قدرة الله، وهذا وضح في التراث الإسلامي بإعطاء سلطات خارقة للملاك جبريل بقصة عرضه الشهير قتل أهالي مكة جميعهم بقوله "لأطبقن عليهم الأخشبين" وهما جبَلين محيطان بوادي مكة حسب القصة، أو في تصور جبريل نفسه بالشكل المادي "الجناح –الطول –العرض"..وهكذا، نفس الشئ انطبق على المَلاك إسرافيل ومبالغتهم في حجمه وشكل نفخته في البوق يوم القيامة.
أسجل هنا فارقا علميا أن قوله تعالى.."الله نور السماوات والأرض" ربما يشي بإثبات علمي لإينشتاين في النظرية النسبية، وهذا ليس تأييدا لقصة الإعجاز العلمي..هذا اتجاه أرفضه، لكن الشئ بالشئ يُذكر فإينشتاين ذكر أن الزمان يُحدد بسرعة الضوء، وبالتالي الزمان هو الضوء أساسا، والضوء هو النور، فمعنى عدم وجود نور يعني لا يوجد زمان.. ولا مكان بدون زمان ، فالله نور السماوات والأرض في القرآن أي أن أصل الزمان والمكان هو الله..لكن بما أنني لست مؤيدا لقصة الإعجاز العلمي أو الانشغال بإثبات العلاقة بين العلم والدين أضع تصوري هذا ضمن الظنون والاحتمالات، فالدين عندي ليس علم بل سلوك وهداية وطريق للإصلاح والبناء..فهو يدعو للعلم إذن ولا يرفض أي من نتائجه.
وهذا يعني في الأخير أن الجن ليس مخلوقا شبحيا كما في التفسير الدارج، وقصص سليمان معه في القرآن تعني أنه وصل من الزعامة والقوة لدرجة تسخير الجن أي قدرته على الحُكم وتوجيه زعماء وأعيان الناس، وأظن أن تحويل المعنى إلى أشباح مستقى من تفاسير العهد القديم التي حكت قصة سليمان مع كائنات شبحية لها قدرات خارقة، فسليمان نفسه لم يدعي ذلك، وتسخير الكون مسجل لأبيه داوود من قبل بقوله تعالى.."وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير"..[الأنبياء : 79] فما شكل هذا التسخير؟..وكيف تُسخّر الجبال لخدمة بشر؟..وكيف سُخّرت الطيور لداوود؟..هذه الأسئلة تطرح معضلة أخرى فلسفية إسلامية إذا لم يُحمَل المعنى أن حكمة داوود وعلومه وصل بها لمرتبة تناغم فيها مع الكون، فسخرت الأشياء معه ليس لأنه نبي يوحى إليه وبمعجزات ولكن لأنه عَلِم من المعارف والصدق والأخلاق ما يؤهله لذلك.
كذلك حلّ صاحب الكتاب معضلة أخرى، وهي أن لو إبليس ملاك فكيف عصى الله؟..وهذه النقطة إشكالية عقائدية إسلامية باعتبار أن الملائكة لا يعصون الله أبدا، وهنا عرض الكاتب 10 آيات قرآنية وتفاسيرها المنطقية المعتبرة القائلة بتكليف الله للملائكة، وأنهم خلق كسائر خلقه يفعلون الخير..ووارد أن يفعلوا الشر، ولأن فعل الشر يلزمه إرادة مستقلة فقد سجل الله تلك الإرادة المستقلة بقوله.." وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى"..[النجم : 26] كذلك ففعل الشر يلزمه احتمال العقاب، فلماذا خاف الملائكة من عقاب الله وهم دائما يفعلون الخير؟..قال تعالى.." ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته "..[الرعد : 13] فلو كانوا مجبولين على الطاعة ما فرق بينهم وبين الرعد في محل الإرادة، لكون الرعد ظاهرة كونية لا إرادة مستقلة لها..إنما هي عوامل مجتمعة لتشكل الرعد.
أما قوله تعالى.." يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون"..[التحريم : 6] فهو عمدة القائلين بأن الملائكة مجبولين على الطاعة وأوجدوا إشكالية خلق وهوية إبليس السابقة ، وأترك الكاتب يرد على ذلك بقوله:
" والتكليف عبارة عن أمر بالفعل وأمر بالكف عن الفعل (افعل، ولا تفعل) والله تعالى لا يخاطب بالتكليف إلا مـن يعقل معنى التكليف, فالجمادات والحيوانات التي لا تعقل غير مكلفة, وبالتالي لا عقاب عليها ولا حساب, وفي هذه الآية بيّن الله تعالى أن الملائكة مكلفون, لتوجيه خطاب التكليف إليهم بقوله تعالى: "ما أمرهم" وقوله: "مـا يؤمرون" ولو كانوا مسيّرين لما كان لهم فضل, ويكون مدلول الآية مطابق لمن يقول: "إن هذه الآلة رائعة جدا, تنفذ كل ما آمرها به, ولا تعصيني أبدا"!
فليس هناك أي فضل للآلة, فالمرء هو الذي وضع لها البرنامج الذي تتحرك به, فلا يكون المدح لها, بل لمصممها وصانعها، والجملة المذكورة في الآية ليست عامة بحال, فهي في صنف مخصوص من الملائكة, "ملائكة النار" وفي حالة مخصوصة "ما أمرهم", بفعل مخصوص "العصيان" والذي لا يعني كل مخالفة وترك، ويدلل على ذلك قوله تعالى: "ويفعلون ما يؤمرون" ولو كانت المعصية بالمعنى المألوف لما كان لهذه الجملة فائدة ولأصبحت تكرارا"..(الجن واختلاف الأرباب صـ 47)
أما من توسع من فقهاء المسلمين بخرافات الجن وتأثر بها رأيي أن أكثرهم في ذلك ابن تيمية ، لدرجة تشعر بها أن الرجل منعزل تماما عن الواقع بالعيش في دهاليز العالَم السفلي، وقد تأثر ابن تيمية في ذلك بالصوفية التي ورّثت هذا المعتقد لخلفائهم في العصر المملوكي الذي أعتبره أهم عصر انحط فيه المسلمين فكريا بانتشار الخرافات والأوهام بين الناس..وكانت بداية حقبة ما عرف عند بعض المفكرين بالحاجز بين عصري الحضارة والتخلف، ومنهم من يُعيد هذا الحاجز مع أبي حامد الغزالي.
ومجمل القول أنه ما دام الجن مخلوق غيبي كما يعتقد أغلب المسلمين فلماذا لا يكتفون بالإيمان به دون ذكر تفاصيله، شكله..حياته..قدراته..وهكذا، إنما ظني أن ذلك مستحيل لارتباط وجود الجن في مخيلة المسلمين بقدرات خارقة أخرى لها علاقة بالسحر..المذكور هو الآخر بمعاني مختلفة عن الشائع ، وبالتالي مطلوب قبل مناقشة طبيعة الجن والإيمان به مناقشة قدراته أولا وحل ألغاز السحر في الأديان ، وهل له القدرة على التأثير والحكم..أم هو كائن مُكلّف محدود القدرة؟
اجمالي القراءات
6554