حوار صحفي مع المؤرخ التونسي الاستاذ محمد سعد الشيباني ؟

مهدي مالك Ýí 2016-12-27


 

 

حوار صحفي مع المؤرخ التونسي الاستاذ محمد سعد الشيباني ؟

يشرفني عظيم الشرف ان اجري هذا الحوار الاستثنائي مع احد امازيغ تونس الخضراء بحكم اننا لا نعرف الا الشيء القليل عن امازيغ تونس، حيث ظهرت الحركة الثقافية الامازيغية هناك في هذه السنوات، اي بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي في يناير 2011 حيث  شكل هذا الحدث التاريخي اعلانا عن انطلاق عهد ثورات الربيع الديمقراطي كما نسميه، غير ان الاعلام المشرقي يسميه بعهد ثورات الربيع العربي.

انني ارحب بالمؤرخ التونسي الاستاذ محمد سعد الشيباني في هذا الحوار حول جملة من القضايا باعتباره مؤلف  كتاب" تاريخ إباضية تمازغا" الذي أثار جدلا واسعا وعمق مفاهيم جديدة تتعلق بمنهجية تاريخ تمازغا  عموما.

و باعتباره رجل مفكر يقيم في السويد حيث ان الاسلام اليوم يعاني من المشاكل الكبرى لعل ابرزها هي الوهابية و اخواتها من تيارات الاسلام السياسي و تيارات الارهاب من قبيل داعش و القاعدة الخ بمعنى ان الوهابية هي السبب الوحيد لكل هذه الشرور ..

 

من هو محمد سعد الشيباني ؟

محمد سعد الشيباني من أبناء بلدة سدرا بولاية تيطاوين بجنوب تونس حيث درست في تونس العاصمة ومنستير بداية الاستقلال ثم تخرجت من آداب جامعة بغداد قسم التاريخ اواسط السبعينات ثم درجة الماجستير بجامعة القاهرة في نفس الفترة.

عملت بالإعلام فالتدريس حيث تقاعدت متفرغا للبحث، صدر لي كتاب تاريخ العراق زمن الخلافة العباسية ببغداد 1997، و كتاب تاريخ اباضية تمازغا 2014

لا علاقة لي بأي تيار حزبي سياسوي وارى ان قامة المثقف أطول من اي سقف سياسي او حتى منظماتي، ولكنني انتمي الى تمازغا أمّة مميزة بين الأمم سيكون مستقبلها مرهونا بتحررها من الهوس العُرباني الهمجي المتسلط،يعمل ثقافيا على نشر الوعي الأمازيغي بروح انسانية موضوعية.

السؤال 2 ماذا يعني ان تكون امازيغيا بتونس في العقود الاخيرة ؟   

أن أكون أمازيغيا تلك منّة الجغرافيا علينا نحن الأمازيغ، كل مواطن يقيم في تمازغا هو أمازيغي حتما، ولا يلتفت الى من يحاولون التعلق بأهداب التاريخ لينتسبوا الى أمّة اخرى غازية او عابرة.

ان الهوية تعتبر ظاهرة جغرافية وقد راكم أجدادنا في فضاء تمازغا هذا أرثا انسانيا شائعا يؤهلنا لنادي الأمم المتحضرة الراقية معرفيا وانسانيا فلنا اعلامنا الفعالون في الماضي والحاضر ايضا، المهم الوعي بالذات وهو في طريقه الى كل أمازيغي.

3 ماهية الاسباب التاريخية و السياسية لتأخير تأسيس الحركة الثقافية الامازيغية لديكم الى ما بعد 2011 ؟

الحركة الثقافية الامازيغية لم تتأخر بتونس وانما جاءت في موعدها وعند رن الجرس تماما.

المجتمع التونسي أمازيغي أصيل ودون نقاش في ذلك، انما حدث ان استل منه الشعور بهويته بداية من عهد البايات العثمانيين ذلك العهد الظلامي تسلطا وتخلفا وهمجية قاسية واستمر الأمر زمن الحماية الفرنسية التي وجدت في توحيد لغة الإدارة والتشريع ما يناسب ادارتها النبولونية في حكم البلد.

والتبس أمر" الهوية" بين العروبة و الأسلمة اثناء الحركة الوطنية، وكان الزعيم الحبيب بورقيبة واعيا للمسألة صدر عهد الاستقلال، وحاول التأسيس لذلك الا أن الضغط الناصري حاصره من الشرق والغرب (ثورة ئدزاير) ثم أجهز عليه المرض ليستشري التعربن والتأسلم،ولم يكن لخليفته زين العابدين بن علي امكانية نهج منهجه المعرفي الثقافي فعمد الى مصادمة " الإسلامويين" فكان الذي نحن فيه حاليا من تردي وضياع.

في عهد بورقيبه كانت الدار التونسية للنشر والتوزيع التابعة للدولة تنشر التراث الأمازيغي وتروج له وتأصل لمدرسة فكرية تونسية أمازيغية صرفة ومستقلة عن حركات العربنة في الشرق.

السؤال 5 هل تعتبر ان المذهب الإباضي ضمن المذاهب السنية أو الشيعية؟

المذهب الإباضي متفرد من حيث قدمه فهو أول المذاهب الإسلامية تاريخيا، ولعله نشأ قبل ان يكتمل القرآن ذاته، ومن المؤكد قبل ان يدون الحديث والسير والفتوح، فإمامه  الشارعأبوالشّعثاء جابر بن زيد الأزدي توفي93هـ، وحدث عن عائشة أم المؤمنين وابن العباس، وهو أول من بدأ بجمع الحديث، والإباضية فرع من "المحكّمة" الذين ثاروا على الخلافة الإسلامية مبكرا.

والأمر الثاني ان المذهب الإباضي عندنا أمازيغي صرف، نشأ في بيئة أمازيغية متواصلا مع الإرث الثقافي والمعرفي الأمازيغي وخاصة الحركة الدوناتية و الحركة الدوناتية نسبة لزعيمها القس الأمازيغيdonatusدوناتوس؛ دوناس،355ـ429م  الذي تمرد على الكنيسة والسلطان الروماني وانشأ مذهبا يقوم على إقرار المساواة بين الناس، ويعمل على مساعدة الفقراء ولا يعترف بأية سلطة غير سلطة الإله الخالق، وكان يأمر أهله الأمازيغ بطرد كبار الملاك من أراضيهم وأصحاب النفوذ من المسيحيين الكاثوليك من بلادهم؛ تادايوشليفيتسكي؛ تسمية شيوخ جبل نفوسة وقراهم. ص 65، "وكانوا يسمّون أنفسهم "جيش المسيح"، وكان صياحهم الحربي" الحمد لله"Deolaudes، (د عبد السلام بن ميس؛ مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغية، ط الثانية 2010، ص 31)

 

السؤال 6 برايك هل دولة برغواطية هي إباضية المذهب ؟

يتضح تفرد المذهب الإباضي في تمازغا بربطه بدولة او "خلافة" برغواطة، مع انها أسبق من ظهور الإباضية في شرق تمازغا وفي جبال نفوسه ئنفوسن بالذات، ثم ان دولة برغواطة لم تكن لها مرجعية مشرقية بينة كالإباضية التي لها ايمة في البصرة.

ان المذهب البرغواطي هو أمازيغي أصيل ولذلك يلتبس تصوره صفريا او إباضيا، البرغواطيون "محكّمون" أمازيغ.

السؤال 7 هل الأمازيغ بتونس ترجموا القران الكريم الى لغتهم طيلة تاريخهم الاسلامي؟

 تعتبر تونس ضمن النظم السياسية الإسلامية في تمازغا وكانت قاعدة معسكر الغزاة المسلمين ومصرهم (القيروان) ثم مركز الخلافة الفاطمية فالدولة الزّيرية فالموحدية، وعليه فما حصل في أقصى مغرب تمازغا ينسحب على شرقها.

السؤال 8 ما هو نوع الخطاب الديني الرسمي السائد في تونس في عهد زين العابدين بن على و في العهد الراهن ؟

من أخطاء عهد بن علي انشاء وزارة للشؤون الدينية كتغطية على اسلوب قمع التنظيم الإسلاموي المناهض للبورقيبة  كنظام اجتماعي حداثي يهتم بالرّقي الإجتماعي والإقتصادي والمعرفي "اللحاق بركب التقدم" "الصّدق في القول والإخلاص في العمل"... فالدّين مسألة شخصية ليس للدولة مشروعية الإنفاق عليها؛ فكيف للمجتمع ان ينفق على فرد حتى يدخل جنّة او يتردّى في جحيم يوم قيامة لا يطالها عقل ولا حسابات وزارة المالية؟؟؟

والخطأ الأكبر "المعالجة الأمنية"؛ جزّ بأعداد كبيرة ممن لهم مجرد هوى إسلاموي تأثر بدسائس عربان الشرق...مما وفّر لمنظميهم جيوشا من الناقمين، كما أفسد مرفق القضاء الذي أحال عليه ألوفا منهم.

وضل بن علي ونظامه يلهث وراء تأكيد إسلاميته واقصاء المتأسلمين الظلاميين  من الإسلام، تلك هي السياسة الخرقاء وذلك هو الانحراف الأكبر عن المنهج البورقيبي.

السؤال 9 لماذا قمع نظام بن علي الاسلاميين برايك؟

سوء تقدير وسياسة خرقاء كما تقدم، وهذا حال كل الحكام الإجرائيين ممن لا يمتلكون معرفة لبلورة رؤية استراتيجية. 

السؤال 10 لماذا اخترت الاستقرار بالسويد بالذات؟  

علاقتي ببلد السويد تعود الى بداية السبعينات، بلد يطيب فيه العيش، ولذلك أتنفس هنا بعمق، فحمدا لأمة رائعة كالسويديين، وحمدا لأحبتي أولادي الذين يحيطونني برعاية فائقة.

 

السؤال 11 هل زرت المغرب؟ وربطت علاقات طيبة بالحركة الامازيغية فيه؟

أغلب العوائل التونسية تعيد أول جدودها الى السوس والساقية الحمراء وقدر درس ذلك المستشرق الفرنسي (العروبي) جاك بيرك، وبالنسبة لي ان الوجدان الأمازيغي ينزع مغربا حيث ثقل الأطلس "ئدرن" وئدر فيها الى جانب الثقل الحياة، وعليه تجدنا جمعا جميعا منجذبين للمغرب الأقصى وأوراس، ومن الطرائف في هذا المجال معرفتي بشابة مغربية من بلد برغواطه تزوجت تونسيا، فذكرت ان نساء اسرته لا يقدرن على إحداث اشكاليات لها  والجهر  بالمسّ بها وأطفالها خوف من " سحرها" فعند عوامنا كل مغربي هو" سحّار" وذلك يؤشر الى وشائج نفسية عريقة تتصل بالجغرافيا.

عام1990 توجهت بسيارتي الى مطار تونس قرطاج حيث تركتها في موقف السيارات وطرت للمغرب وليس في يدي غير" قفة قضية الدار" ذلك اني احسست بنقص كبير لعدم زيارتي لمغرب وقد سحت في كل العالم شرقا وغربا، قمت بزقزاق في كل المروك بالقطار والباص وقابلت أناسا مازال تأثيرهم قائما في نفسي، منهم شيخ نجار سلاوي وجدته في محل من مدينة الرباط يقرأ مخطوطا في ظل شجرة فتأملته الى أن رحب بي وجالسته ساعة علمني فيها ما لم أعلم، ودخلت مراكش ليلة حارة صحبة فنانة ذكية جميلة خلوقة واستاذة جامعية جلبنا القطار من كازا ولم يذهبا الى ان اطمأنتا عليّ في فندقي ، ولا زلت أتلمظ أنس صحبتهما تلك الليلة. عشقي للمروك أصله وعي بالبعد الأمازيغي للإنساني فيّ.

أستدعيت قبل عامين للمهرجان السينمائي الثقافي بعاصمة السوس اكادير، وكان لي الشرف ان القيت ورقة في جامعة ابن زهر واستمتعت بحوار لذيذ مع طلبتها وأذكر ان طالبة اثارت معي قضايا طرحها العظيم نيتشه الذي أهتم  بفلسفته كثيرا، وأرى ان أروبا حاليا هي عصارة فكر نيتشه الذي بعث يمشي على قدميه في كل اروباالنيرة.

استفدت كثيرا في بحوثي من عمالقة امازيغي من المروك وسعدت بلقاء البعض وأخص الأستاذ محمد شفيق وعموم القائمين في المعهد الملكي للدراسات ألأمازيغية.

12؛ الى متى سيبقى الامازيغ عبيدا لتيارات العروبة و الاسلام السياسي ؟

العبيد هم المتعربنون من الأمازيغ وغالبا هم من تجار الدين او ضحاياهم، فقد التبس عندنا تعبير "عربي" بتعبير "مسلم"، وعليه سوف يضل عبيد وموالي قريش يفتكون بالشعوب الأمازيغية ويزيدونها رهقا الى ان يسلخ أحرار الأمازيغ العروبة عن الإسلام ويتبولون على الجلد النتن، كن ما شئت عقديا، انما انت أمازيغي مثلث(أكال أوال افكان) تحمل وجدانا أمازيغيا يميزك عن شعوب العالم وعنوانا لك بينهم  .

13السؤال 14 قرات في صفحتك الفايسبوكية كلاما يوحي انك ضد ما تفعله السعودية في اليمن من جرائم الحرب في حق المدنيين ، فما موقفك من هذه الحرب باعتبارك مؤرخ ؟

المملكة(المهلكة) الوهابية السعودية مارست الإجرام مذ نشأت، ووجودها جريمة في حد ذاته، فاجتماع الثروة الهائلة مع التخلف والإنحطاطالجهلوتي لا يمكن الا ان يشيع الجريمة والفحشاء، وذلك ما تفعله في اليمن والعراق والشام ومصر ...ويكاد كل عمل ارهابي في العالم يعود للوهابيين تخطيطا وتمويلا واستبلاها وتنفيذا .

واظن ان اليمن ستكون مقبرة السعوديين فالتاريخ يبن ان كل غزاة اليمن خائبون ، وهي الملاحظة التي أبداها الزعيم الحبيب بورقيبه عام1965 لعبدالناصر الذي اهتم بها وتحسر على فعلته في اليمن ودفع ثمن ذلك هزيمة 1967 الكارثية.

لكن الكارثة الأدهى لنا نحن الشعوب أن قطعان المؤمنين السذج هم من يمول المهلكة السعودية بأموال الحج والعمرة وهي الأموال التي ينفقها أمراؤهم في الفسق والإرهاب وبها تشترى الأسلحة التي تقتل المؤمنين وعموم الناس في أوطانهم؛ تحيل المؤمن الذي يكدح سنين عمره ليوفر مبلغ حجّ او عمرة ليلقى عليه قنابل ويزرع في طريقه الغاما او يزنى باهله ويعبث بشرفه من ذلك الكدح؟؟؟ انها كارثة الكوارث حقا.

 14السؤال 15 ما هو مستقبل التنور الاسلامي في ظل سيادة الخطاب السلفي في اغلب دول المسلمين برايك؟

داعش أتت على الإسلام بالوجه الذي عرف ولم يعد هناك مجال "للتنور"، حتى حركة القرآنيين على حداثتها مثل المرحوم أحمد محمد طه بالسودان او د محمد شحرور اخيرا لم تعد تنفع، وسبيل الإسلام سبيل المسيحية واليهودية التي تجاوزت الإكراه الدين وحررت اتباعا من الإلتزامات المفروضة عليهم دينيا، "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" التي تجاهلها فقهاء المسلمين طيلة هذه القرون

وأرسلوا أبالسة شياطينهم تجار الدين ليلوثوا عيش قطعان المؤمنين.

 

 15السؤال 16 ماهية رسالتك لأمازيغ المغرب ؟

نحن جميعا تلاميذ لعمالقة الفكر والسياسة من أهلنا في بلاد أمورن اكوشالمروك، وعليه لا أتجرا على ارسال اي رسالة غير الود والتقدير والإكبار واننا في تونس نواكب الحركة ونهتدي بهديها.

(الكلمة الاخيرة ) بإمكانك ان تقتبس فقرة من مقدمة كتابي لتختتم بها

محمد سعد الشيباني ، السويد 27 ديجمبر 2016 ، 14 ديجمبر2966

sedrawi@gmail.com

 

 

                                                                                       ـ تاريخ إباضية تمازغا

 

                              مقدمة

يُنسج تاريخ النّاس عبر سيرورة الزّمان وصيرورة المكان من سَدى الوقائع ولُحمة الأحداث، التي يُبلى جديدها ويتآكل بالتّقادم، حتّى إذا افتكرها الإنسان إستنزلها مادّة  للخرافة والأسطورة والقصّة إمتاعا وعبرة، و متى طالها نظر المؤرخ وتحقيقه جعلها "مادّة  للتاريخ" بمطابقة كلّ لُحمة لسداها؛ أي مطابقة كلّ حدث لوقوعه، فالمؤرخ ليس إلا رفـّاءا لنسيج التّاريخ، تتوقف مهارته على مدى مواءمة رفوه للنسيج  الأصلي لُحمة وسَدى خاما ووشْيا.

تعود بدايات "حرفة التّاريخ" إلى الخرافة والأسطورة، التي تناولت المادّة  التّاريخية و وشّتها بلُحمة من الخيال؛ أحداث من الرّموز والألغاز والميثولوجيا تعلّل واقعا ما وتذكّر به، وذلك هو المشترك بين علم التّاريخ والخرافة والأسطورة والقصّة، "فالأسطورة هي معالجة شعرية خيالية لمادّة  التّاريخ، تصوِّر واقع المجتمعات على ضوء ماضيها، أما الخرافة ففلسفية تأمّلية تتعلق بالكون والخليقة والقيم والطقوس والعبادات والنّظم"، وما القصّة إلاّ رواية وقائع لأحداث جدّت أو تُوهّمت، فهي مزيج من الأسطورة والخرافة والتّاريخ، تتنزّل على أمكنة ثابتة في  أزمان متحرّكة، شأن المكوك الحامل للُحمة بين صفّي السّدى القائم.(أمازيغيا؛السّدى؛الجدّاد، اللُّحمة الطُّعمة؛أولمان )

تركّز اهتمام الرواة والمدونين، في الأغلب  الأعمّ، على حركة الزّمان؛ المكوك الحامل للُّحمة بين السّدى جيئة وذهابا، وأهمل المكان وهو السّدى الحامل للُّحمة، تلك هي اللّفتة التي قادنا البحث إليها بتشجيع معرفي من مبدعين كبيرين هما الدكتور محمد شحرور، من خلال مؤلفه الرائع والخطير "الكتاب والقران"، والدكتور كمال الصليبي من خلال كتابيه؛ التّوراة جاءت من جزيرة العرب، وخفايا التّوراة وأسرار الشّعب الإسرائيلي.

ابتدع  محمد شحرور منهجا جدّيا في قِراءة  نصوص الذّكر الحكيم، طبقناه على مادتنا التّاريخية، فظهر منها العجب العجاب في تأويل الأسماء واتّضاح الأحداث والوقائع بما يجعلها أقرب ما تكون إلى الحقائق المدهشة، وعلى نفس المنهج أبدع كمال الصليبي قِراءة  جديدة لنصوص التّوراة مطابقا ذلك بقِراءة  لأسماء أمكنة قادته للتأكد من أن التّوراة جاءت من جزيرة العرب، وأن الدّين اليهودي ظهر في مناطق عسير، وبذلك أنزل نصّا منبته الجغرافي، بعد ان ظلّ قرونا معلقا في وهم مواضع، بين النّيل والفرات، لا تتطابق معه، وتلك نتائج خطيرة تجبرنا على تعديل النّسق التّاريخي الذي اعتدنا، وتعيد أعناقنا إلى وضعها الطبيعي بعد ان لويت لقرون خلت، كما تمنحنا منهجا فعّالا في اعادة قِراءة  "المادّة  التّاريخية" التي نالها الحتّ والاهتراء.

"دراسة أسماء الأماكن تخدم بطريقتها الخاصّة الغرض نفسه الذي يخدمه علم الأثار الميداني، مع فارق واحد هامّ، هو ان الاكتشافات الأثرية هي اكتشافات خرساء، ما لم تتضمن كتابات منقوشة، في حين ان أسماء الأماكن ناطقة، لا تخبرنا بما هي فحسب، بل تخبرنا أيضا بكيفية نطقها ألفعلي، وبمعناها وباللّغة او نوع اللغة التي انبثقت عنها"، ذلك لان "أسماء الأماكن تجمّد تحرّكات التّاريخ"، (كمال الصليبي؛ التّوراة جاءت من جزيرة العرب ص60، 45)

حاولنا قِراءة  النصوص التّاريخية المتعلقة بتاريخ تمازغا الإسلامي على النّحو الذي سبقت الإشارة إليه، واهتدينا إلى ان اللغة الأمازيغية هي المفتاح الوحيد المناسب لحلّ مغاليق أسماء المواضع والمدن والأعلام، وتبين لنا انه لا يحق لأي باحث موضوعي في تاريخ تمازغا ان يتجاوز الأمازيغية؛ أوال أمازيغن؛ اللغة النّبيلة، المتمكنة من وجدان "أفكان"؛ الإنسان الأمازيغي، الذي يحسّ بقدسية حميمية نحوها كتلك التي تربطه بأمّ ووطن؛ تامورت، فالأمازيغية لغة وجدانية مقدّسة لا تطالها لغات "المخزن" ألفينيقي او الروماني والعربي، لذلك استمرت وصمدت كلّ هذه القرون من التسلط عليها، وانتقلت الأسماء من جيل إلى آخر وحافظت على بنيتها الأساسية حتّى بعد ان تعرّب أكثر أهلها، وحاول بعضهم قِراءة  المسميات بلسان عربي، مبتكرين تقاربا صوتيا قعّدوا له بقصص توهموها، كتلك التي يبتكرها المؤدّبون والدّعاة توضيحا لقاعدة لغوية او ترقيقا لقلوب العامّة، بما يشبه أسباب النزول عند المفسّرين، وهذا ما حدث لكلّ لغات الشعوب التي أصبحت ضمن "دار الإسلام"وخاصّة الشعوب الآرامية، حيث قُرئ تراثها السُّرياني بلسان عربي وعلى نحو ما أراد المعرّبون المسلمون  في القرون الهجرية الأولى.

"يا صفا، قُصْ"؛ أمر كرره الباني الأول لمدينة صفاقس لخادمه وهويقصّ جلد ثور سيورا دقيقة ليخُطّ بها مدينته؛ صفاقس، في حين ان سيفاكس؛ هوالمحمي أو المحروس أمازيغيا، فضلا عن الملك الأمازيغي الشهير.

وعلى هذا النّحو فسّر اسم جدّ "غمراسن" وأخيه "ترهون"؛ الأول "غمْ راسو"ونام، إثر نقاش حادّ بين اخوته، استمر فيه الثاني، وكان الثغا، فاعتزلوه، ففارقهم مرددا؛ خوتي "ترْهوني" أي كرهوني، واستقربترهونه الحالية، وهكذا عوجت المخارج الصوتية  لجدّ ترهونه ليستقيم اسمه الحقيقي بينما وقع التغاضي عن نون غمراسن واستمرّ اسما أمازيغيا صرفا، والواقع ان ئغمراسنو"أترهان" أخوان من هواره، وكانا متجاورين فعلا، فالقصّة بنيت على أسس صحيحة لكنها أضافت على نسيجها وشيا ليس منه موافقة للتعريب، وتفسّر أكثر أسماء الأماكن والقبائل بقصص شعبية على هذا النّحو القائم على الإستلاف اللغوي (borrowing) ضمن التأثيل الواهم المستمر للغة الشّعبية.

نال الأسماء الأمازيغية أشكال شتّى من التّشويه بإخضاعها للغة المخزن فنولوجيا، ثم تأويلها إلى  أصل في تلك اللغة؛ فاسم إقليم "ئترابلس" كما يلفظه أهله إلى يوم النّاس هذا، لفظه الرومان "تربوليس"، أُوِّل بمعني المدن الثلاث، ليستوي يقينا إلى الآن، في حين انّه تعبير بالغ القدم، له جملة من التّلول الشّاهدة أقربها "ترْبلا terbla" في جزيرة جربه، والتي تعني المجاز، قبل ان تؤسس روما ذاتها، ولا علاقة لمدن ثلاث بهذا الاسم.

وحصل نفس الشيء لاسم "القيروان"؛ أكراون؛ المجمع او التجمع في اللسان الأمازيغي، لفظه العرب قيروانgarwan، وأوِّل لـ "كروان"caravaneألفارسية بمعنى الخيمة الكبيرة قياسا على الفسطاط، والحال انه اسم أمازيغي كثير التداول، يقابل معنى "الكوفة" العربي.

وحدث لبعض الأسماء ان ترجمت للعربية حرفيا، فضاعت معالمها، وأثّر ذلك على قِراءة  الأحداث وفهمها؛ موقعة أكديرن agdiren443هـ بين أعراب بني هلال والدّولة الزِّيريه بالقيروان، ضبط "جديرن" ثم صحّف "حيدران" بما يوافق صيغة فيعلان العربية، فاختفى موضع المعركة تماما، ولم يوفق أي من الباحثين في تحديده، وبعودتنا إلى اللفظ الأمازيغي المتداول كثيرا؛

 أجديرن؛ بمعنى المخزنين أو "القصرين"، يتجلى لنا الموضع بوضوح تام وموافقة للنصوص التي وصفته؛ عند مدينة القصرين، حاليا، وليس في أي موضع اخر، ولو علم ذلك شيخنا المرحوم حسن حسني عبد الوهاب لرقص جذلا، فقد كان، رحمة الله عليه، يعمل على تأصيل قِراءة  محلية للنصوص التّاريخية، ولعله يزداد ابتهاجا لما يعلم ان اسم الأميرة الفنيقية"علّيسه" قد يعود الى أول أمازيغي؛ من ئلّ؛ الإبنة، ئلّيس؛ ابنته[1].

تكرر ذكر موضع "أمسنان" في المصادر الإباضية، منذ القرن الرابع للهجرة، وبالتدقيق فيه لغويا تبين انه مازال معروفا لكن تحت ترجمة حرفية إلى العربية؛ "الفرش"، قرب تيطاوين، وبه تم اكتشاف سلسلة من المواضع المذكورة في السّير الإباضية بأسمائها وآثارها المادية، وتبين انّ شيوخ العزّابه الأُول نشطوا في هذا المجال، وفيه كتبوا مؤلفاتهم، وعلى ضوء ذلك تعاد قِراءة  نصوصها من جديد، كما يعاد تاريخ الإباضية في تمازغا كلّه، وكانت هذه الاكتشافات ستسعد المرحوم تاديوش ليفيتسكي، الذي أفنى عمره في دراسة إباضية تمازغا، وأشار إلى أحد المواضع التي اكتشفنا بتخمين منه.

قادنا البحث الميداني، في هذا الحيز المحدود من جبل دمّر الذي هو قسم من جبال ئترابلس إلى نتائج مدهشة شجعتنا على وضعه ضمن حيز تاريخي شامل يتصل بمجمل تاريخ تمازغا؛ قبائل وأمما واحداثا كانت محملا لوقائع تغطي كامل المجال الأفروآسيوي والأفروأروبي،وقد اقتصرنا منه، في هذا المؤلف، على الجانب الأفروعربي في القرون الهجرية الأولى؛

يشتمل " إباضية تمازغا "على مقدمة في تاريخ الإباضية ببلاد المغرب في القرون الهجرية الأولى"على خمسة أبواب تتخللها فصول تغطي موضوعاتها العلاقة بين الأمازيغ في موطنهم تمازغا وغزاتهم من العرب المسلمين، الذين جاؤوا بدين موحّد وعقائد مفرقة، أخذ بها الأمازيغ كغيرهم من شعوب ديار الإسلام.

يتعلق الباب الأول بالأمازيغ في موطنهم العريق تمازغا مع تحديد مجال البحث، الذي اخترنا ان ينطلق من رقعة جغرافية واسعة؛ العالم القديم، ليتدرج نحو بلاد تمازغا وإقليم ئترابلس منها فجبل دمر من جبال ئترابلس لنصل إلى جزء صغير من دمر؛ جبال تمدلست؛ الحيز الذي ينحصر في رقعة صغيرة جنوب مدينة تيطاوين حاليا، والذي ظهر فيه نظام العزّابه الإباضي العجيب، خلال القرن الرابع للهجرة، ورتب هذا الباب برؤية حضارية أمازيغية أصيلة ترتكز على ثلاثية أ أأ؛ أفكان، أوال، أكال؛ الإنسان، اللغة، الأرض، وهي الثلاثية التي يجسدها الأمازيغي عند التّلويح بما يطابق التّحية الكشفية، واستدعى ذلك التعريف بالشعوب الأمازيغية ولغتها وموطنها قبل الإسلام.

اختص الباب الثاني بمؤسسة "الفتح الإسلامي"، منذ عهد النبوة إلى الفتوحات الكبرى فغزو افريقية وتمصير القيروان وفتح الأندلس ، وتلك بدايات اللقاء بين الأمازيغ وغزاة العرب المسلمين؛ صدام دموي استمر قرابة قرن من الزّمان لتخفّ حدته بتولي أمراء الأمازيغ القيادة السِّياسية والعقدية في بلادهم، فظهرت إمارات ودول بالغة التأثير في الحضارة العربية الإسلامية.

يربط الباب الثالث؛ "المُحكّمة  في تمازغا" بين البابين الأول والثاني ليبتدئ متن الكتاب بمآثر رجل أمازيغي من أعلام لواته عشق آيات الذّكر الحكيم، فحفظها من سابلة "الجادّة الكبرى" بسرت، وحملها إلى جبل نفوسه، ومنه انتشر الإسلام بين الأمازيغ عل نحو ما ارادوا؛ مذهب المُحكّمة المناوئ لسلطان الخلافة، والذي شرحت فصول الباب أصوله وتفرعاته وظهور "الإمامة" بئترابلس ثم تيهرت، أنّى توطنت "إمامة عِمران" وراثية، مهادنة للسلطان العباسي بالقيروان، في "قعود" عن مبادئ أساسية للمحكّمة.

يتعلق الباب الرابع بـ "استمرار الدعوة الإباضية بالمغرب"، رغم سقوط الإمامة الرُّستميه وقرنها الأغالبة  بالقيروان296هـ، لما برزت الدعوة الاسماعيلية في شكلّ خلافة جديدة بالمغرب؛ الخلافة ألفاطمية296ـ362هـ، التي حاربت الإباضية بأسلوب الدسّ و"التأريش" بينهم، فظهر افتراق إباضي حادّ؛ وهْبيه/نُكّار، حيث استوت الوهْبيه قالبا ثابت الحدود إلى يوم النّاس هذا، في حين اندثر النُكّار واختفى مذهبهم.

يتلمس الباب الخامس والأخير؛ "تحديد مواطن العزّابه في حيز ئترابلس" حدود "المذهب الوهْبي" كما سطّره الشّيوخ  الأول وقعّدوه في "نظام العزّابه" المتميز بتركيبة سياسية اجتماعية اقتصادية معرفية مندمجة، والذي استمر قائما في نفوسه وجزيرة جربه ووادي ئمْزاب، وطبع مجتمعاتها بطابع مميز في كلّ بلاد تمازغا، وحدث تطابق تام بين الإباضية مذهبا والأمازيغية كيانا، وأضحت عبارة إباضي تفيد أمازيغي.

طرحت الأبواب الخمسة جملة من الإشكاليات في العلاقة بين أمتين مختلفتين؛ الأمازيغ في موطنهم العريق تمازغا والعرب المسلمين غزاتها؛

ـ كان اللقاء الأول بين العرب المسلمين وأمازيغ لواته في بلاد النّيل وبرقة أشبه ما يكون بذلك الذي حصل بين مضر و الأزد في عمان، بحيث إنضمّ مقاتلة لواته إلى الغزاة كجزء منهم، لكن ظهور السلالة القرشية المتعصبة لمضريتها أثار الأمازيغ فقاوموها بنديّة تامة.

ـ نازع "أمغار" الأمازيغ غزاة العرب الفيء والمغانم الرومانية إلى ان أشركوهم فيها كمقاتلة منهم، فكان بين الطرفين صراع زعامات ومغانم لا صراع فتوحات، كما يتوهم.

ـ ليس هنالك اصطفاف حادّ أمازيغ/عرب، إنّما توافق مصالح؛ ناصرت وشاركت القبائل المستقرة غزاة العرب، بينما حاربهم أهل الظّعن منهم.

ـ اعتنق أمازيغ الأمصار ديانة السلطان(سنّة)، بينما استهوت أهل الظّعن عقيدة المُحكّمة؛"الخوارج"، ووافقت نمط عيشهم، فظلّوا إباضية وصُفرية.

ـ لما إستقرّ بعض أهل الظّعن بمدن الماء ضمن عمران متمدن، أصبحوا مطمعا لبقيتهم، فنازعوهم ما في أيديهم، وتسلطوا على خطوط تجارتهم عبر الصّحراء.

ـ تجمّد تاريخ تمارغا بداية من القرن5هـ؛ حواضر لسلاطين أمازيغ على المذهب السنّي، وإباضية وهْبيه بمدن الماء، ينازعهم سلاطين الحواضر وأهل الظّعن من البوادي؛ خوارج من رمم الصُّفرية وبقايا نُكّار الإباضية.

أخذ مني هذا العمل وقتا طويلا وجهدا مضنيا يتعلق بارتياد مواضع كثيرة والانكباب على "قِراءة " نصوص متنوعة متشعبة .

أعانني على البحث وارتياد الأماكن عدد كبير من النّساء والرّجال وبالأخص أهالي تيطاوين الكرام؛ وفّر لي بعضهم فرصة قِراءة  وتصوير "الحجايج"، مع استضافتي وإكرامي ببيوتهم، فإليهم كلّ الشكر والعرفان، إلى ان أثبت أسماءهم، ان طال بي العمر، في عملي القادم المتعلق بتاريخ ناحية تيطاوين.

 

                                                                    محمد سعد الشيبان



[1]
ـ عالم الوراثة "سبنسر ويلز" صاحب مشروع (الخريطة الجينية العالمية) ومدير الابحاث الوراثية و الاركيولوجية على ناشيونال جيوغرافيك  بين ان اللبنانيين لا ينحدرون من اسلاف فنيقيه، و يقصي أي دور للفنيقين في تأسيس قرطاج أو الهجرة الجماعية أليها، ويحصر تأثيرهم في الجانب الثقافي فقط!، وذالك بعدما قامت بعثته بإجراء فحوص و اختبارات الحمض النووي في كل من لبنان و الشرق و الاوسط و تونس و شمال أفريقيا و توصل بالنتائج القطعية التي دفعته الى مصارحة الجميع بالحقيقة.

والملفت للانتباه أنه هناك مؤرخ ليبي يدعى شوقي ابراهيم اشتغل هذه الفكرة منذ مدة ونشره في مجلة أمريكية وقد أكد الباحث والمؤرخ على أن الحضارة القرطاجية في تونس هي من صنع محلي وليست فينيقي .

يمكنكم الاطلاع على أفكاره عبر هذا الرابط : https://youtu.be/ZJQe9Yaxjo0

اجمالي القراءات 8692

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2014-12-04
مقالات منشورة : 261
اجمالي القراءات : 1,245,384
تعليقات له : 27
تعليقات عليه : 29
بلد الميلاد : Morocco
بلد الاقامة : Morocco