عندما يكون الدين سيفاً على الإرهاب

سامح عسكر Ýí 2014-10-08


بعد طرح الحوار الإعلامي مع ابن تيمية استشكل بعض الزملاء على أن الحوار كان يجب على النصوص التي استند عليها ابن تيمية في تبرير جرائمه، وعلمت أن مقصدهم في أن بقاء تلك النصوص واعتراف المسلمين بها سيكون مصدراً مغذياً للتطرف في كل مكان وزمان، وقبل الرد توجهت بعقلي إلى افتراض وجهة هذا السؤال نحو الأديان عامة، ذلك أنه ما من دينٍ يخلو من تلك النصوص التي توحي بالقتل والظلم والانتهاك حسب رأيهم، وقلت أنه لو كانوا يفكرون بتلك الطريقة فهي دعوة صريحة للعدمية، والسبب أن الأديان شأنها كشأن أي فكرة عميقة في النفس البشرية.



الفلاسفة أنفسهم وجميع حكماء القرون لديهم من تلك الأفكار العميقة التي تصلح لتكوين أديان على تنوعها، فلو قيل أن الإسلام وحده به نصوص تنفرد بالدعوة للقتال والعنصرية، قلت أن جميع الأديان لديهم من تلك النصوص، ولكن العيب ليس في تلك النصوص بقدر ما هو في رغبة التطور والتجديد عند المتدينين، بمعنى أن البوذي لو لم يُراجع دينه –وهو فاقد النص الإجرامي حسب رأيهم-سيقتل قتلاً دينياً، وسيخلط بين هويته الدينية ومحتوى أي خطاب إذا شعر للخطر، وما يحدث في بورما وتورط البوذي في الصراع الطائفي لدليل.

الأديان كأي فكرة تخلق هوية وتصنع مريدين، والقول أن الإنسان موضوعي غير هووي هو من خرافات الإنسان، البشر جميعهم يفكرون بهويتهم، الأمريكي من يدعي التنوير هو مجرم إذا تعرضت مصالحه ومصالح جماعته للخطر، وكذلك الأوروبي والاسترالي والروسي والصيني، وهذا يعني أن إبراز الأديان عامة والإسلام خاصة في قفص الاتهام هو تصرف غير مقبول من وجهين:

الأول: أن المسلمين ليسوا في مواجهة مع الآخر بالمطلق كي نضعهم ونضع معتقداتهم في قفص المحاكمة، بل المسلمون في مواجهة مع أنفسهم، وأكثر من تضرر من الإرهاب هم المسلمون.

الثاني: توجد نماذج جيدة في الأوساط الدينية والشعبية بين المسلمين تدعو للسلام وللحوار وللثقافة، وهذا يعني أن الحملة على الإسلام جاءت من متعصبين يرون الأوضاع بعينٍ واحدة وبصورة غير موضوعية .

إن أكثر ما عال عليه الإرهابيون في نشر دعوتهم هو تصور العوام لدينهم، وإعلاء الجانب الهووي فيهم، وتسخين النزعة العدوانية بدعوى الدفاع، وهذه حالة مرافقة لأي متدين كما قلنا إذا شعر بالخطر، والسؤال المهم الآن إذا كان الإرهابيون قد نجحوا في الانتشار بدعوى الدفاع عن الدين، فهذا النجاح لم يأتِ من فراغ، بل هو في تقديري ثمرة من ثمرات التحالف الغربي ضد شعوب المسلمين كما حدث في العراق وأفغانستان، فإذا قيل أن التحالف كان للحرب على الإرهاب قلنا انظروا للدولتين الآن بعد أكثر من 10 سنوات ..هل انتهى الإرهاب؟..هل توجد خطة لمواجهته ؟..طيب هل توجد إرادة لتجفيف منابعه ؟!

إن العدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان هو المتسبب الأول في شيوع الإرهاب في المنطقة، تلك هي الحقيقة الموجعة التي يفر منها هؤلاء، لأن الاعتراف بها يعني-حسب تصورهم- عدم إدانة الإرهابيين وداعميهم، وهذا تصور قاصر نتيجة لدوافعهم المريضة من وراء الحرب، فهم حاربوا هناك بمنطق أكون أو لا أكون، منطق الصدام بين الحضارات، منطق التميز الغربي والتخلف العربي، منطق الوصاية والعبودية، وشاء الله أن يفضحهم على فلتات لسانهم باعتراف جورج بوش بأن دافعه من وراء الحرب كان دينياً صليبياً...!

إذن فالأزمة ليست في الإسلام ولا في المسلمين، بل في طُرق التفكير العنصرية التي خالجت ضمائر هؤلاء، وهي نفس طرق التفكير التي ووجهوا بها عندما دخلوا، وبعد دخولهم لم يفطنوا إلى سبل فعالة لمواجهة الإرهاب، بل اعتقدوا أن القوة وحدها كافية للقضاء عليه، بينما الواقع يشهد أنه وبعد أن كانت داعش مجرد.."دولة ألكترونية إعلامية"..في زمن الاحتلال، صارت دولة حقيقية على الأرض بعد زواله، وهذا يعني أن داعش استفادت من الشعور المعادي للاحتلال، وطبقاً لخلفيتها الدينية الطائفية مزجت بين هذا الشعور والشعور الطائفي بين السنة والشيعة، فاندلعت أقوى وأشنع فتنة طائفية في تاريخ العراق، وسقوط أكثر من مليوني ضحية في ظرف عشرة أعوام، وهذا رقم كبير يدل على فداحة الجريمة الأمريكية في غزو العراق، وسذاجتها في حل معضلات ذلك الغزو.

ما أود أن أقوله أنه يوجد في الأوساط الدينية والشعبية بين المسلمين اتجاهات تنويرية إحيائية تواصلية ، وكطبيعة أي اتجاه فكري أو سياسي له أهداف ووسائل، فوسائل هذا التيار أنه يريد الفصل أولاً بين تصور عوام المسلمين لدينهم وبين الجانب الهووي والغرائزي فيهم، لأن الإرهابيون عملوا على استغلال ذلك الربط لديهم، بينما التنويريون والإحيائيون فطنوا للداء وعملوا على الفصل ولو كان مؤقتا، وذلك كطريقة علاج موضعية تمهد للعملية الكبرى التي يعمل في نطاقها المثقفين عامة، وهي تجديد الدين الإسلامي وعلاج تصور العوام لدينهم.

هذا التيار يجب دعمه ودعم كوادره ودعاته بكل قوة، فهو الأمل الوحيد للقضاء على الإرهاب وجذوره بين المسلمين، ولا يسألني أحد عن طبيعة وما يدعو إليه ذلك التيار، لأن من يقرأ مقالاتي ودراساتي سيرى إلى ماذا أدعو، ولكن هو باختصار إصلاح التربة الدينية التي يبذر فيها الإرهابيون بذور الجريمة، وذلك عبر النظر في التراث الديني وتنقيته بما يضمن وجود فاهمة جديدة لكتاب الله وللدين الإسلامي برمته، والتراث يعني التاريخ والحديث والتفسير ونزع القداسة عن أقوال هؤلاء في العقل الباطن للمسلمين، وهذا يعني أن الفاهمة الجديدة ستعتني أولاً بطريقة تصور جديدة للقرآن تُراعي أركان الدين وعدم حصرها في الأمور التعبدية كما هو شائع.

الغريب أنني كنت عندما كنت إخوانيا وأٌقرأ لحسن البنا ..قرأت له عدم اكتفائه بأن أركان الإسلام خمسة ، إذا قال في أطروحة بعنوان.."هذا سبيلي"..قال: ..(أن الاستقامة والفضيلة والعلم من أركان الإسلام)...وهذا يعني أن الرجل يلقن لتلاميذه قيمة العلم والدعوة للفضيلة وضرورة الاستقامة، ولا يختلف أحد على أن تلك هي أركان أي حضارة وليست فقط الإسلام، ولكن الفاهمة التي جعلت حسن البنا بعد ذلك يقدس التراث ويعمل على نشره بما فيه أركان الإسلام التعبدية حتى انقلب على نفسه...تلك الفاهمة هي الهدف بالتطوير والتبديل والتعديل.

لا فائدة ولا منفعة من بقاء ذلك التراث، بل وفي تقديري أن الفاهمة الجديدة هي السيف الحاد ضد أي تطرف واستغلال ديني، الفاهمة الجديدة ستقضي على صورة.."السلف الصالح السعيد"..التي كان يروج لها حسن البنا ودعاة الوهابية وداعش، ليست بإثبات النقيض أن ذلك السلف حزين وأنه لم يكن صالحاً، بل وبكل موضوعية ستقرر أن ذلك السلف مثل أي سلف به الصالح والطالح، الصادق والكاذب، المؤمن والمنافق، الذكي والغبي، المبدع والمقلد...إلخ...ولا يستهين أحد بصورة ذلك السلف السعيد، لأن الدين الإرهابي قائم أساساً على توجه بعض مروجي تلك الصورة، فيُوهمون السفهاء والأغبياء أن سعادتهم ستكون باتباعهم وتقليدهم ذلك السلف.

ولو علمنا أن تلك الخلفية السلفية ظهرت في زمان الدولتين الأموية والعباسية.. لعرفنا لماذا سعت كافة جماعات العنف الديني إلى استعادة ذلك الزمن بكل مفرداته وتراكيبه، فهذا الزمن هو زمن الحروب والفتن الطائفية وغزو الشعوب وتكفيرهم واستحلال أموالهم ونسائهم وقتل الفلاسفة وقمع الإبداع وحرية الرأي....إلخ

طبعاً أمريكا لا تفهم هذه المعضلة، بل وحسب تعبير.."جورج جالاوي"..أن أعضاء الكونجرس الأمريكي لا يفهمون طبيعة الصراع بين السنة والشيعة، ومعرفتهم بطبيعة الدين الإسلامي لا تعدو كونه دين عربي صحراوي لا غير، وكل عملهم ينصب تحديداً في دعم المتطرفين من الجانبين لاستهلاكهم في معادلات الصراع في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل.

إن الفاهمة الجديدة للدين الإسلامي ليست خياراً يُرجى دعمه، بل هي ضرورة واجبة على كافة الشعوب لضمان قتل الإرهاب في مهده وتسليمه إلى أقرب مقبرة تعني بالتحف والآثار، وهي الفاهمة التي تعتني بالأخلاق في المقام الأول وإبرازها كواجب ديني وحضاري، وهي الفاهمة التي رأت الآخر إنساناً له حق الرأي والتعبير والتملّك، وهي الفاهمة التي رأت نصوص القرآن الحربية حسب زمانها وظروفها التاريخية والمكانية، وهي الفاهمة التي رأت النصوص المحكمة والدعوى للحريات والتواصل هي أسس وأركان للإسلام لا يجوز بحال تعديها أو الاستغناء عنها تحت أي ظرف، وهي الفاهمة التي رأت الدين كيان غير الدولة، فالدولة التي تمد المسجد والكنيسة والمعبد بالكهرباء لا يجوز وصفها بإسلام أو مسيحية، وأن أي سلطة هي مجرد تجربة حكم وليست واجباً دينياً لأحد.

يجب دعم هذه الفاهمة وتنشيط العمل التنويري الداعي إليها وإبرازه إعلامياً وفضائيا وحصار كل دعاة التخلف والانحطاط، إننا لو حصرنا عدد البرامج على تلك الشاكلة سنجدها قليلة جداً بالنسبة لدورها الهام والتاريخي، ففي مصر لا يوجد سوى برنامج واحد يعتني بتلك الفاهمة من ضمن مئات البرامج ، وهو برنامج الإعلامي والباحث.."إسلام بحيري"..على قناة القاهرة والناس، وفي رمضان الماضي قدم إبراهيم عيسى برنامجه.."مدرسة المشاغبين"..وللصدف أنه لطبيعة تلك الفاهمة قدم عيسى نقداً لأحد رموز وأصنام الفاهمة الحالية وهو البخاري وتكلم عن عذاب القبر، فثارت نوازع المتخلفين وأتباع الشجاع الأقرع، وظنوا أن ثعبانهم في خطر.

وهذا دليل أن الأمور في الفاهمة الحالية تجمع ما بين الإرهاب والأسطورة، وأي باحث مستجد في أمور الفكر يعي تماماً الرابط ما بين الجريمة والأسطورة، وأن الأمور لا تخص شجاع أقرع بقدر ما هي تخص عقل نقدي يدرك معنى الخرافة أصلاً، فمن يؤمن بعذاب القبر هو نفسه من يعتقد بالمسيخ الدجال والمهدي المنتظر والخلافة الإسلامية، وقد رأينا تجلياً للمهدي المنتظر عند جهيمان العتيبي عند اقتحامه للحرم المكي وتسببه في مقتل المئات من جنود المملكة وأنصاره على وهم يسمى.."المهدي المنتظر وخليفة المسلمين"...وعندما نقرأ مفردات وتراكيب جهيمان أثناء دعوته سنرى أنه يفكر مثلما يفكر أي سلفي بالفاهمة الحالية.."سلف صالح، خير القرون،صحابة عدول،خلافة إسلامية،روافض مشركين، نصارى صليبيين"..فالرجل لم يعدو كونه مجرد سلفي خرج بأفكاره من نطاق الدعوة إلى نطاق العمل.

وهذا ما لا نريد انتظاره، نريد مواجهة هذه الأفكار في مهدها، نريد فاهمة جديدة ودعمها في مواجهة هؤلاء، نريد إنفاقاً على تجفيف مصادر الإرهاب مثلما ننفق على إعلام منكوب وأزهر مغيب وحكومات ساذجة وشعوب تنتظر دورها على السكين، الموضوع أكبر من أمريكا والغرب برمته، ومن لم يرى في دخول الأوربيين أفواجاً في داعش أنه دليل على انحطاط وأزمة أوربية فليعيد النظر، فالمجتمع الذي أخرج جان جاك روسو وميشيل فوكو هو من أخرج أبو سليمان وأبو هاجر الفرنسيين، والمجتمع الذي أخرج ديفيد هيوم وبرتراند راسل وباروخ سبينوزا أخرج لنا أكثر من 3000 داعشي بريطاني اعترف بهم رئيس الحكومة ديفيد كاميرون.

نحن أمام أزمة فكرية وليست سياسية، وطبيعة الأزمات الفكرية أن حلها لن يكون سوى بالفكر، وأن العنترية وغرور القوة لا يُجدي في مثل هذه الظروف، كذلك فالهجوم على الأديان هو مصدر مغذي لتلك الأنواع من الأزمات، ويعمق الانحراف، وأرى أنه من الحكمة التوسط والاعتدال، فمن أنفق الملايين في الهجوم على الإسلام ورسوله وهو يظن أنه يحارب الإرهاب فلينفق آلافاً في دعم أي تنويري أو إحيائي مسلم له دور يكاد يفوق دور الجيوش ومهمة من أخطر وأنبل المهمات، إن دعمنا للتنوير والإحياء والتجديد في مجتمعات المسلمين لا يختلف بحال عن دعم مجتمعات ليبيريا وسيراليون في مكافحة وباء الإيبولا، فالمرض لديهم كالمرض لدينا، عندهم يموت مئات في وقت يموت لدينا الآلاف، لديهم إمكانية وتوحد في المواجهة والحصار، ونحن لدينا لا زلنا نختلف حول سبل المواجهة، فالسرطان لدينا ولديهم واحد، فكما دعمتم القضاء على أيبولا دعمونا في القضاء على الإرهاب، وسترون أنه كما رأيتم أن الدين هو مصدر الإرهاب، سترون أن الدين هو نفس السيف الذي سنقضي به على الإرهاب. 

اجمالي القراءات 6180

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,597,355
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 411
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt