لم أعتد التعقيب على التعليقات التي ترد على مقالاتي بموقعنا "إيلاف"، سواء بتعليق أو بتناول منفرد كما في هذه المقاربة. هذا رغم أهمية العديد مما أراه من تعليقات، واستفادتي الكبيرة منها، سواء في فهم أكثر عمقاً لرؤى الناس والقراء، أو فيما أتناوله فيما بعد من مقاربات. ذلك أنني أكتفي بعرض وجهة نظري بما يأتي في سطور المقال، ويدلي السادة القراء بآرائهم في التعليقات. وأعتبر أي تعقيب مني بعد ذلك، هو محاولة لمصادرة رأي المعلق، وإلحاحاً مستهجناً لفرض وجهة نظري، وهذا ما أربأ به عن نفسي، وعن السادة القراء.
ما اختلف هذه المرة، فيما يتعلق بمقالي "هي ثقافة الذبح"، بالإضافة إلى أهمية الموضوع وحساسيته، هو العدد الكبير من المشاركات للمقال على الفيسبوك، والعدد الكبير نسبياً من التعليقات، والتي استهدفت هذه المرة صلب الموضوع، رغم أنها أيضاً وكما يحدث كثيراً، جاءت على شكل مقارعة أو تصادم بين فريقين، فريق مسلم وفريق مسيحي.
يتمحور المقال حول فكرة واحدة. هي أن ما نشهد الآن من طغيان فكر همجي بدائي، بدأ بالفعل تدميره للبشر والحضارة في منطقة الشرق الأوسط، تحت مسمى "الدولة الإسلامية"، لا يرجع بالدرجة الأولى إلى سيادة ثقافة وأيديولوجيا معينة، هي التي يرفع راياتها هؤلاء القتلة الذباحين "الدواعش"، وإنما ترى المقاربة الأمر كفشل لإنسان الشرق الأوسط في التحضر، بما يشمل عموم الناس، سواء من انخرطوا في الإرهاب، أم المساندين له تمويلاً وتأييداً وتعاطفاً. كما يشمل أيضاً المعارضين والجزعين خوفاً ورفضاً لهذا التيار، إذ لم يستطيعوا هم أيضاً برؤاهم وثقافتهم، الانخراط في مسيرة التحضر والعولمة، وإن تباينت مواقفهم قرباً وبعداً عن معايير العصر وقيمه ومفاهيمه.
الملاحظ في بعض التعليقات الهامة على المقال، والتي هي "نسخ ولصق" لدراسات تقوم بها جهات معينة معروفة التوجه والهدف للكتاب المقدس لدى المسيحيين، أنها استهدفت كشف أو فضح ما جاء به من وصايا قديمة، تحرض على العنف، بطريقة أكثر بشاعة مما تفعله داعش الآن في سوريا والعراق. ربما تبدو هذه التعليقات ظاهرياً، وكأنها ضد المقال وكاتبه، في حين أن الحقيقة هي العكس تماماً، فلقد تفضل هؤلاء المعلقين بإضافة برهان على صحة فكرة المقال المحورية، وهي أن اللوم لا يقع بالدرجة الأولى على أي جزء من التراث الثقافي والديني لشعوب الشرق الأوسط، وإن كان هذا اللوم لابد وأن يلتفت إليه دراسة وبحثاً وتنقية في الدرجة الثانية أو التالية. فهناك التراث، وهناك تغير الزمان وظروف المكان، وهناك البشر الذين من المفترض فيهم القابلية والقدرة على التطور، فالتغير هو الثابت الوحيد في الكون الذي نحتل فيه حيزاً بالغ الضآلة.
انطلاقاً من إشكالية قدرة إنسان المنطقة على التطور، نأتي إلى إشكالية فهم الناس نخبة وعامة للتراث، ومدى قدرتهم على تجاوز الوصايا والأحداث القديمة رهينة زمانها ومكانها، والتمسك بعموم الأهداف العليا السامية، التي قد نجدها بين صفحات هذا التراث، لنلحق بها مفاهيم وقيم ومثل زماننا الراهن، وهو الأمر الذي إن فشلنا فيه، لا يحق لنا بعد ذلك أن نركز اللوم على التراث.
تاريخ البشرية بوجه عام هو تاريخ الجرائم العظيمة، والإنجازات والابتكارات العظيمة. هو كذلك تاريخ التخلص والتطهر التدريجي من الثقافات التي دفعت وتدفع لارتكاب ما نعده الآن جرائم، وبناء منظومة فكرية جديدة، تتيح تعظيم الإنجازات التي يستطيع أن يحققها الإنسان في ظلها. هذا ما استطاعته شعوب كثيرة، في شمال الكرة الأرضية وغربها وشرقها الأقصى. ووحدها شعوب الشرق الأوسط مازالت غارقة في أوحال الماضي، بل وتوغل يوماً فيوما في السقوط من عربة الزمن ومسيرة الحضارة.
أحب أخيراً أن أذكر التعليق الذي كتبته على المقال، ليكون شاهداً على موقفي الشخصي، مما جرى من سجال بين السادة المعلقين:
"يهوه الإله الذئب
كان يهوه إله العبرانيين إلهاً ذئباً، لا يرتوي إلا بسفك الدماء، سواء دماء البشر أو حتى دماء الحيوان. ورغم أن احترام يهوه وتقديسه مازال مستمراً لدى اليهود والمسيحيين، إلا أننا لا نكاد نرى الآن مسيحي أو يهودي يؤمن باستمرار صلاحية وصاياه الدموية حتى الآن، بل ينظر المؤمنون إليها كتاريخ همجي غير قابل للتكرار."
تحياتي واحترامي لجميع القراء الذين أدلوا بدلوهم في الموضوع، ولمن شاركوه على الفيسبوك وتويتر، ولسائر القراء الأعزاء.
المصدر ايلاف