يقال أننا نعيش الآن "عصر المعرفة"، وأن من يمتلك المعرفة، يمتلك المقدرة على السيادة على العالم. هذه المقولة في شقها الزمني زائفة تماماً. فليس الآن أو في هذا العصر فقط، تأخذ المعرفة هذه القيمة أو الأولوية المطلقة. فمسيرة الإنسان على سطح هذا الكوكب، كانت دوماً محكومة بتقدم وتطور قدرته على المعرفة. بدأت المعرفة تجريبية، إذ تشكلت من واقع خبرات الإنسان الأول العملية، لتتطور مع الوقت، لتصل إلى ما نعرفه الآن بمسمى "المعرفة العلمية".
هكذا تكون الإشكالية الأولى بالمعالجة بالنسبة لأي فرد أو أمة، هي كيفية الحصول على المعرفة، وكيفية ضمان تجدد هذه المعرفة، في عالم لا يوجد به ثابت غير "قانون التغير المستمر". نظام التعليم الراقي، يحفر قنوات للتساؤل في ذهن التلميذ، فيما النظام المتخلف، يردم هذه القنوات بركام من الإجابات البائدة والخرافية. تحتاج الشعوب القابعة في قاع الحضارة الإنسانية، لأن تفقد أغلب مخزونها المعرفي، لتبدأ التساؤل والبحث، قربياً من نقطة الصفر. فرحلة المعرفة لا تبدأ بتلقي الإجابات، لكن بانبعاث فيض من الأسئلة، من عقول يؤرقها الغموض والشكوك في كل ما حولها. تحتاج لتبديد ميراث اليقين المطمئن، ولكثير أو حتى قليل من القلق الإيجابي، الذي يدفعها للبحث عن معرفة جديدة ومتجددة. معرفة لا تعرف اليقين المطلق، ولكن تتأسس على الشك المستمر.
الفكرة الصحيحة، تصف علاقة واقعية بين أكثر من عنصر مادي، والفكرة غير الصحيحة، هي التي تفشل في اكتشاف مثل هذه العلاقات. لا توجد أفكار ذات قيمة أو مصداقية حقيقية خارج نطاق العالم المادي. وأسبقية الفكرة وهم مصدره الجهل والعجز الإنساني عن اكتشاف جوهر المادة. الفكرة إذن هي وليدة وبنت المادة، وليس العكس. الفكرة عبارة عن تجل لصفات وإمكانيات المادة الظاهرة والكامنة. وبالتالي لا يصح أن نتصور أن هناك فكرة، يمكن أن تكون عِلَّة لوجود المادة أو لقوانينها وعلاقاتها. كما أن مقولة "العلة والمعلول" أو السببية، هي علاقة رصدها الإنسان بين مكونات العالم المادية، وبدون المادة لا علاقات، وبالتالي فالبحث عن السبب الأول لتواجد المادة، أمر خارج عن نطاق المنطق المادي، ويحتاج من يريد الخوض فيه، إلى ما يسميه البعض "قفزة إيمانية".
المنظومات الفكرية الميتافيزيقية المعروفة، لا تنتمي في الحقيقة إلى عالم ما وراء الطبيعة أو مفارق للطبيعة، كما قد توحي التسمية التي اشتهرت بها، والتي ترجع في أساسها إلى عناوين مؤلفات لأفلاطون. فهي تتكون من مجموعات من العلاقات الطبيعية، المقتطعة من عناصرها الأصلية، لتنسب إلى عناصر متوهمة، محاكية للعناصر الطبيعية، لكن بمزيج وتركيبة مغايرة لا منطقية، تخلق عوالماً خيالية مبهرة وإعجازية، تستكمل الثغرات في الفهم الفيزيقي للعالم، ويعوض بها معتنقها، ما يعانيه من حصار وإحباط في العالم الفيزيقي.
نحن لا ندرك بحواسنا، أو بما نستطيع توظيفه من أجهزة، الأشياء في ذاتها. نحن فقط ندرك تأثيراتها علي حواسنا، ومن ثمن نؤثر نحن عليها. لهذا لا وجود لأي شيء بالنسبة لنا، إلا إذا كان ثمة تأثير له. والافتراض النظري بوجود أشياء تقصر حواسنا عن إدراكها، هو احتمال وارد ومنطقي، لكننا ما دمنا لا نعيش عالم الأشياء في ذاتها، وإنما عالم من التأثيرات المتبادلة، فإن الأشياء منعدمة التأثير تظل بالنسبة لنا منعدمة الوجود. هكذا تكون ماهية وجود الأشياء، ليست في الحقيقة ماهية وجودها في ذاتها، وإنما ماهية التأثير المتبادل بين بعضها البعض، وبيننا وبينها. الوعي بالتأثير إذن هو معيار الوجود الذي نحياه، وبدون هذا الوعي يتساوى أو يتطابق انعدام التأثير مع اللاوجود أو العدم. مثلاً كلمة "سماء" من الدوال التي تشير لمفاهيم روحية وأدبية وفلسفية، دون وجود مدلول مادي لها.
دخول الوعي والحواس الإنسانية، كمكتشف أو محدد لوجود الأشياء، يجعل وجودها هذا مختلفاً من راصد لآخر، بناء على الخصوصيات الحسية للراصد، التي تختلف طبيعتها وحساسيتها جزئياً مع اختلاف الأشخاص. وقد ظل هكذا إدراك الوجود متنوعاً بالفعل، حتى توصل الإنسان لما نسميه "المناهج العلمية" في البحث، والتي سن الإنسان بموجبها مجموعة من القواعد والشروط المادية الصارمة، التي نتعامل بها مع الأشياء تحديداً لهويتها أو تأثيراتها، مع تقليل تأثير عامل الاختلافات الحسية الإنسانية إلى أقصى حد ممكن، ما لم يصل بها بالفعل إلى الصفر. هكذا بدون هذه المناهج العلمية، أو خارج نطاق اهتماماتها، تتعدد العوالم التي نعيشها بتعدد البشر وتنوع أحاسيسهم. لعل أبسط مثال يوضح هذا، تعدد إدراك الإنسان لحيوانات مثل الكلب والخنزير، بتعدد الثقافات والمحمولات التاريخية والدينية والاجتماعية، التي تستثيرها تلك الكائنات المادية الموضوعية.
هكذا تكون المعرفة الموضوعية للعالم، هي الأساس الصخري لأي بناء حضاري. فيما الركام الدوجماطيقي الموروث، والتصورات الهلامية غير الموضوعية، لا تؤدي بمعتنقها سوى للبقاء منطرحاً على وجهه، كمن يعيش في عالم من الكوابيس والهلاوس البصرية.