كثيراً ما نسمع دعاوى متعددة بأن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن التحريم لا يأتي إلا بنص صحيح وصريح لا يحتمل التأويل، ولكن عند التنفيذ فالأمر يختلف، ربما لأن هناك مساحة فراغ فكري يعاني منها العقل العربي منذ زمن بعيد، وأن هذا الفراغ يسمح بدخول توجهات وأهواء شتى يجري وصمها دينياً كي تكون من الشريعة...ولِمَ لا والعقل العربي مُعطل والاجتهاد متوقف عملياً منذ القرن الخامس الهجري، هذا القرن الذي أعده آخر قرون الاجتهاد والتنوير لدى المفكرين والأدباء العرب...بعدها صار القلق والخوف هو عنوان المفكرين والكُتّاب، وفي تقديري أن الذي حدث هو خوف من مصائر بعض المجتهدين في القرون الخمسة الأولى، فالمفكر كان على عداءٍ كامل إما مع السُلطة، أو مع المنتفعين من هذه السُلطة، فصاروا يترددون ويتحسسون مواقعهم وكتاباتهم، فصار الأمل معقوداً على النجاح والأمان المضمون، بينما النهضة لا تضع هذا المعيار ضمن ثوابتها ، فأصبحنا منذ هذا العهد متخلفين وما كُتِبَ في هذه الحُقبة صار دروساً يجري ترديدها وشرحها في المجالس بعدها.
هذه المقدمة ضرورية لاستبيان أصل ثقافة التحريم في وعينا العربي، فقد ثَبَتَ أن التحريم-كسلوك- يفشى وينتشر في المجتمعات المُعطّلة، وبالتالي اشتهر بين الفلاسفة والمثقفين بأن معيار انحطاط الأمم يكون بقياس نسبة المُحرّمات في هذه المجتمعات، فكلما زاد التحريم كلما انحطّ الإنسان وتخلف، ذلك لأن قدرة الإنسان على الإبداع تأتي أولاً من حرية وجود عقله الناقد، وبما أن النقد غير موجود أو غير مسموح به فيتوقف الإبداع ويحل محله التقليد والترديد.
مسألة الموسيقى كانت من المسائل التي أخذت شوطاً كبيراً من الاجتهاد بين مؤيدٍ ومعارض، حتى في تلك القرون الخمسة الأولى كان الخلاف فيها حاضراً وبقوة، وما اشتهر بعد ذلك بالتحريم كان لشيوع رأي المعارضين لأسباب اجتماعية ودينية، ففي تقديري أن شيوع رأي المعارضين للموسيقى لم يأتِ إلا في عصور التخلف والانحطاط بِدءاً من القرن السادس الهجري، كان حينها حِفظ المتون الحديثية شائعاً ويعادل في فضله فضل القرآن، والحفظ كفِعل يعني الترديد، والترديد يعني الكلام دون النظر في المعاني أو الأصول أو المآلات..فكان الشيخ في مجلسه يشرح ما حَفِظَ من المتون على تلاميذه، والشرح يعني أن هناك قبولاً للمشروح وسيأتي شرحه أو تأويل ما استُشكِلَ منه أو اختلف، ذلك لأن الحالة السيكولوجية للمعلم والتلاميذ حينها تعني أن هناك عِلماً وفضلاً يجري الاستفادة منه، فلو رد المُعلّم تلك المتون فلا حاجة للعلم والفضل..بتلك الطريقة جرى نقل آراء هؤلاء المقلدين المرددين إلى عصرنا هذا، والأعجب أنك ترى من يعيش بيننا ويسلك نفس سلوك التقليد والترديد حتى بعد أن امتلك في بيته جهازاً للكمبيوتر يبحث فيه عن المعلومة في ثانية واحدة كان الباحث في تلك القرون الغابرة يبحث عنها في شهرٍ كامل!
مسألة الموسيقى لم يأتِ فيها نصّاً صريحاً وصحيحاً يُحرّم سماعها، بل اختلطت النصوص ببعضها فصار المؤيدين يُحلّونها من نصوصهم وكذلك فعل المُحرّمين، ولكلِ أدلته التي يميل إليها ويُصدّقها..وفي هذا المقام لن نتعرض لأقوال هؤلاء ولا إلى أقوال هؤلاء منعاً للتكلف وقتلاً للترديد والتقليد، ففي تقديري أن الحصول على آراء كل فريق أصبح في متناول الجميع، فمن يبحث عن التحريم سيبحث عن أقوال المحرمين ويتعصب لها، وكذلك سيفعل من يرى أن الموسيقى حلالاً فيبحث عن أقوال المُجيزين ويتعصب أيضاً لها..وكِلا السلوكين باطلين..فمسألة الموسيقى ليس لها وجهاً شرعياً قاطعاً، وغاية ما كان لأمر الموسيقى أنه لا يوجد نص صحيح وقاطع يُحرّم سماعها، وبالتالي فالموسيقى –لذاتها- ليست حراماً في دليلها الشرعي، وبما أن الشريعة تُؤخذ أيضاً من الدليل العقلي فيجري بحثها عقلياً..وبما أننا سنتحدث بالعقل وعن العقل فضروري أن نتحدث عن الإنسان.
تبدأ القضية من مرحلة الولادة فيسمع الطفل غِناء أمه أو موسيقى هادية وراقية فتهدأ نفسه وينام..ويكبر سنة بعد أخرى فيسمع أغنية أو موسيقى راقصة فيتمايل عليها ويرقص، كانت الفِطرة هنا مؤثرة على الطفل بأن سَمع سماعاً طيباً-على نفسه- فكان السماع مؤثراً والرقص أثر..في تلك المرحلة العُمرية لا يعرف الطفل حلالاً أو حراما، بل كل ما يفعله أنه يتفاعل مع الظواهر فحسب، ثم يقوم بوضع الفرضيات بطريقة أوتوماتيكية، بأنه سَمِعَ ما يُحب فيرقص كي يشعر بالسعادة ويضحك، وكأن الغريزة هي المحرك، فإذا قيل بأن الطفل لا عقل له فكيف يضع الفرضيات ويتنبأ؟.. قلنا أن الحيوان لا عقل له ويضع الفرضيات بأنه إذا مرّ من هذا الطريق حين وجود عربة فسيُقتَل، فيُقرر أن يُسرِع من نفسه وإلا هَلَك، فكان تنبؤ الحيوان تنبؤاً غريزياً كالطفل، فإذا قيل أن هذا ليس دليلاً على جواز الموسيقى قلنا بأن الله لا يجوز عليه أن يحرم ما استحسنته الفِطرة، وإلا كان خلقنا معيباً وهذا مُحال، فإذا قيل بأن الفطرة لا تعرف القتل فيجوز أن يقتل الطفل إنساناً أو حيوانا.. قُلنا بأن الطفل يقتل ولكنه يجهل ماهية القتل ونتائجه بل ودوافعه فكأنه يلعب فقَتَل، أما حين يسمع الموسيقى فيعرف أن هذا سماعاً طيباً على نفسه فيتفاعل..خلاصته أن هناك فارق فالقتل في غايته فِعلُ من الداخل، أما الموسيقى فهي مؤثر من الخارج فلا يجوز القياس.
كذلك في أصوات الطيور الناغِمة واللّاحنة كالبلابل والكروانات..فهي أصواتُ طبيعية أي أنها موجودة في الطبيعة، فإذا قيل أن هذه أصوات طبيعية خلقها الله أما الموسيقى فهي من آلات صنعها الإنسان..قلنا بأن الله لا يجوز عليه أن يخلق سماعاً في الطبيعة يكونُ حراما..فلماذا إذاً لا تكون أصوات الحَمِير حراماً وهي أقبح من أصوات البلابل؟..بل كان صوت الحَمير مُنكراً لقُبحه ومع ذلك نسمعه ولم يُحرّم، والاستقباح دليلُ على وجود الاستحسان كضرورة وجود الضدين، وعليه فالصوت الجميل حَسنُ في ذاته قياساً على مُنكَرية صوت الحمير..هي مقابلة عقلية لطيفة تُشير إلى أن الطبيعة من حولنا تَعجُ بالموسيقى ..فلو كانت حراماً لكان كل شئ في عالمنا حراما..بل وجودها دليلُ على حُسنِها وأن الله أمرنا باستحسان الأصوات كما أمرنا باستحسان الأفعال والأطعمة وكذلك المشمومات والمرئيات..
من جهة ثالثة أن الموسيقى هي أثر من مؤثر على شئ، كذلك كلام الإنسان وغنائه، فالموسيقى أثرُ لحنيّ نتيجة لمؤثر العصا على الوتر، كذلك فكلام الإنسان- أو غنائه- أثرُ لحنيّ نتيجة لمؤثر عزم الإنسان وهوائه وتنفسه على أحباله الصوتية..فإذا كانت الموسيقى حراماً فكلام الإنسان حرام نظراً لوحدة المصدر!....هنا كانت العصا مؤثراً وهنا كان العزم أو التنفس...النتيجة هو خروج صوت يجري تنغيمه وتلحينه حسب الهوى والرغبة، يُثبت ذلك إمكانية تقليد الإنسان لصوت الآلة الموسيقية، فكثيراً ما نرى من مطربي ومطربات الأوبرا وهم يشجون بأصواتهم القوية مُحدثين فيها أصواتاً تُشبه صوت الآلة، فقُدرة الإنسان على التقليد لم تقف على الآلة بل تعدتها للحيوان والطير، وكلاهما نجد لديهم من يُقلد صوت الآلة، فالعصفور بزقزقته يُقلد عِدّة طبقات ومقامات موسيقية معزوفة..فكيف يكون سماع صوت العصفور حلالاً وما قلده من موسيقى يكون حراماً..هنا يكمن التخصيص في تشدد وتنطع ديني في تقديري أن مصدره إما كراهية للحياة أو عُقَد نفسية أو جهل ناتج عن تقليد.
أعجب ممن يرفض سماع الموسيقى مُعللاً قوله بأن سماع ضرب الدف هو الجائز لديه!..والسبب أن ضرب الدف إيقاعُ في ذاته ، والموسيقى إما وتريات وإما إيقاعات بل الإيقاعات كانت عند كثيرٍ من الموسيقيين أهم في صناعة الموسيقى من الوتريات نفسها، وكلامه دليلُ على جهله بالموسيقى، بل هو يعلم أن الضرب على الدف ليس على مقامٍ واحد بل على مقاماتٍ متعددة تُنتج ألحاناً وسماعاً طيباً..فلماذا يقبل سماع ضرب الدف ويرفض سماع صوت الآلة؟..حينها أقف على رفضاً للسماعِ الطيب بشكلٍ عام، بل أجزم بأن الذي يرفض سماع الموسيقى إما يتناقض فيسمع مرة ويرفض أخرى، وإما مُعقد لا يشعر بالجَمال في الكون.
أخيراً وبأن لكل شئ سبب فلتحريم الموسيقى لدينا سبب..وهو في تقديري أن الموسيقى من الطيبات التي تشتهي لها الأنفس وتطن لها الأرواح وتتفاعل معها القلوب، وبهذه الطبيعة الموسيقية يَكُن وجودها في مجالس الشهوة والانحراف أكثر من وجودها في مجالس الاستمتاع والذِكر..فتلقفها العقل البشري كوسيلة للانحراف تتعارض مع وسائل التدين المختلفة، حتى اشتهر بين محرميها بأن الموسيقى والقرآن لا يجتمعان في قلبٍ واحد، وهو قياسُ فاسد يقيسون فيه بين مختلفٍ كالموسيقى ونقيضٍ كالقرآن..فالقرآن نَقيضهُ لا قرآن، فلو قلنا على القرآن مُختلَفاً لجاز لنا القول بأن هناك من الوحي الإلهي الصحيح ولكنه ليس قرآناً، أو أن يكون هناك قرآنين مختلفين...أما الموسيقى فيجوز عليها ذلك، فمنها الأصوات الحسنة والقبيحة والمقبولة والجيدة، وبالآلة يمكن أن تعزف ألحاناً لا تستحسنها الروح ويرفضها الذوق..وعليه فاجتماع الموسيقى والقرآن في القلب جائز بل وفي الواقع وفي سيرة كثيرٍ من الأئمة الصالحين نجدهم يسمعون الموسيقى وهم من عُرفوا بصلاحهم وحُسن تدينهم، فلا حاجة لنا بعد ذلك لمن يُعسّر على نفسه والناس..ومن يُعسّر فيُعسّر على نفسه، ومن رأى حقيقة الدين يعرف معنى الجَمال ويتذوق حلاوة السَمَع.
اجمالي القراءات
8582