روح الثورة المصرية (3
تناولنا في الجزئين الأول والثاني تحت ذات العنوان قطاعات من المصريين المتحمسين والآملين في ثورة نصر على نسبتها للشباب، للتفرقة بين نواة الثورة النقية، التي نظنها تطلب الحرية والحداثة والتطور الحضاري، وبين ما لابد وأن يكسو هذه النواة من جماهير تدعمها، وتمنحها قوة الزخم والضغط التي تحققت لها، فلا يكون مصيرها ذات مصير حركات رفض سابقة مثل حركة "كفاية"، التي ظلت في حدود وبحجم دور النخبة، فكانت رغم إخلاص القائمين عليها كما لو معارضة ديكورية، تمنح نظام مبارك فرصة للتجمل بالسماح لمن يتظاهر منادياً بسقوطه وسقوط مشروعه للتوريث في شوارع القاهرة. . نقول هذا ليس من قبيل التقليل من قيمة هذه الحركات الاحتجاجية، التي كانت ولاشك هي الإرهاصات الابتدائية، التي أعقبتها هبَّة الشباب الكبرى صبيحة الخامس والعشرين من يناير، لكن يهمنا ألا نبدو مستهينين بدور الجماهير في الثورة، بقدر حرصنا على الفصل بين رؤاها وآمالها، وبين آمال تلك النخبة من الشباب الجميل عالي التأهيل العلمي، التي كانت بمثابة القلب الذي يضخ الدماء، رغم أنه لم يكن هو أغلب جسد الثورة الذي نجح في مناطحة نظام جثم على قلوب المصريين لستة عقود.
سنستمر الآن في جولتنا للتعرف على أفكار وميول الناس وآمالهم، منتهجين ذات النهج التقريبي المعيب بالقطع، الذي يجمع أفراداً وأطيافاً متعددة في حزمة واحدة، وقد يصدر عليهم حكماً شبه موحد، لكن ليس أمامنا سوى هذا، مادمنا لا نستطيع أن نوفر جهداً ومساحة لدراسة أكثر من ثمانين مليون حالة هي تعداد الشعب المصري، فلاشك أن لكل فرد طبيعته ومزاجه وأفكاره وميوله الخاصة، بما لا ينفي بالطبع قدراً من المنطقية في عملية التجميع التي اقترفناها. . فلندخل إلى الغرفة الرابعة والأخيرة من البيت المصري.
هنا جماهير حاشدة محتشدة، لا تعرف أبعد من شئوون حياتها اليومية غير التقوى الدينية، هي تسمع ربما عن السياسة والسياسيين، وقد تسمع أيضاً عن الثقافة والأدب ونجومها، لكن بينها وبين هذه المجالات مسافة هي غير قادر ولا راغبة في عبورها. . جماهير تعاني الحياة ولا تعيشها، وإن بدرجات متفاوتة، وهي تستشعر العجز عن تغيير تنشده، وإن كانت ملامح ذلك التغيير غامضة أو حتى مجهولة تماماً. . هي متيقنة فقط أن هناك من يسرق قوتها أو ثروة البلاد، ومتيقنة أيضاً من أهمية البركة الإلهية لكي يستطيع الإنسان الحصول على أهم ما يطمح إليه عامة المصريين وهو "الستر". . في هذا الجو من المعاناة الشعبية وانسداد أبواب الأمل إلا في ظهور أمناء لا يسرقون أموال الناس، وفي اتباع منهج حياة يؤدي إلى أن تحل البركات الإلهية على البلاد والعباد، علاوة بالطبع على بروز أهمية الالتزام بالأخلاق المصرية التقليدية المحافظة، التي يستشعر الجميع بالفعل ما يتهددها بفعل ثورة اتصالات عالمية، أطلعت الشباب المصري على حيوات البشر في سائر أنحاء العالم الحر، وما ترتب على ذلك من تهديد جاد لأساسات الثقافة الأبوية المغلقة، أصبح الطريق الممهد أمام عموم الناس باختلاف مستوياتهم الاقتصادية والتعليمية (ولا نقول العلمية) هو التسليم مغمضي العيون لأولئك النجوم الذين يخاطبونهم باسم الإله. . ولم لا وقد توافرت فيهم العناصر الثلاثة المأمولة: توسم الأمانة - جلب البركات الألهية - الحفاظ على مكارم الأخلاق؟!!
كانت نتائج الانتخابات البرلمانية هي لحظة الحقيقة تصرخ بها هذه المرة الأرقام، وليس فقط ملاحظات وتحليلات قد تكون مضللة أو قاصرة أو مجتزأة لهذا المراقب أو ذاك، فقد كان الشعب المصري بكامله تقريباً قد أغلق جميع نوافذه، ليرى العالم وذاته من نافذة واحدة هي نافذة الدين، وربما ساعد على هذا نشاط تنظيمات ممولة من الخارج والداخل، وربما صادف هذا أيضاً هوى لدى من كانوا يقبضون بأصابع حديدية على مقدرات البلاد، لكن هذه كلها لا تعدو أن تكون عناصر ثانوية أو مساعدة، تعمل على حقيقة أكبر وأكثر تعقيداً، هي طبيعة العقلية والسيكولوجية المصرية، وبالتالي نرى أنه من العبث ما ينسبه نشطاء الليبراليين والعلمانيين لأنفسهم من تقصير في إيصال رسالتهم الحداثية للشارع، فتربة مصر ومناخها بديا خلال الفترة الماضية على الأقل غير قابلين لاستزراع غير الرؤى الدينية، وقد شاء المصري اختزال كل مكونات الضمير في المعايير الدينية وحدها دون سواها، تلك التي توسعت لتحل محل علوم كالطب والاقتصاد، بحيث صارت محاولات العقلانيين فصل الدين عن السياسة أو عن الدولة عملاً من قبيل التهريج أو المزاح، فأي فصل ينتظر وقد صارت أدق تفاصيل الحياة الخاصة للإنسان المصري محكومة برؤية دينية، ومرتهنة بفتاوى المشايخ لدى المسلمين، وبتعليمات المرشدين الروحيين وآباء الاعتراف لدي المسيحيين الأرثوذكس؟!!
يظلم هذه الجماهير من يتوقع منها ما لا تستطيعه أو تطيقه، وهو إدراك أن المتحدثين باسم الإله هؤلاء - بافتراض صحة امتلاكهم للعناصر الثلاثة المطلوبة - لا يمتلكون مؤهلات إدارة دولة حديثة تعداد سكانها ثمانون مليوناً، أو إدراك أن شكل الدولة في رؤاهم يمثل التخلف ذاته، وأنهم لو تمكنوا بالفعل من تطبيق تلك الرؤى سيكون هذا بمثابة كارثة تحل على البلاد والعباد، لهذا لا موجب للدهشة من اتجاه التصويت بالانتخابات للجماهير في المحافظات التي تعتمد تماماً على السياحة، مثل الأقصر والغردقة ومرسى مطروح، حيث كان التفوق فريداً لأصحاب الرؤى المعادية للسياحة باعتبارها فسق ودعارة وعبادة أصنام. . فقط رجال الأعمال في مجال السياحة هم من استشعروا الخطر الداهم، وشكلوا جماعة ضغط لحماية مصالحهم وأرزاقهم، أما جماهير العامة التي تدافعت للتصويت فلم يخطر ببالها بالطبع أنها تختار من يغلقون مصادر رزقهم، وقد يبدو هذا غريباً وشاذاً، وقد يبدو تحليلنا هذا محاولة فاشلة لتبرئة من ينطبق عليهم المثل العربي "جنت على نفسها براقش"، لكن هذه هي الحقيقة الماثلة أمام عيوننا، وهذه هي الحالة الثقافية والسيكولوجية للشعب المصري، التي نستطيع وصفها بالبياض أو البراءة التامة من كل فكر فيما عدا الفكر الديني، الذي يتميز في بلادي بالتسليم التام، أو كما يقال منح "شيك على بياض" لرجال الله، ليكون الطريق الواضح أمام شعب ثار على "فرعون وصحبه"، هو أن يتجه مباشرة وبلا تردد إلى "رجال الله"!!
تدلنا نتائج الانتخابات البرلمانية أن هذه الغرفة الرابعة من البيت المصري المصري هي الغرفة الأوسع والأكبر حشداً، إذ تنطبق مواصفات أهلها أيضاً على ساكني الثلاث غرف السابق استعراضها، أي بما يقارب 75% من الشعب المصري، بل ولولا أن الأقباط قد صوتوا خارج هذا الاتجاه، لكون "رجال الله" المعنيين هنا هم الإسلاميين، لكانت نتيجة التصويت "لرجال الله" تقترب من 90%، ليتبقى فقط نسبة 10% لليبراليين والشباب الثائر ولهؤلاء الذين يدركون دون فكر أو أيديولوجية محددة أن العصر ليس عصر التقوى فقط، وإنما هو بالدرجة الأولى عصر العلم!!
نستطيع أن نقول بعد هذه الجولة السريعة لاستطلاع فكر وميول الشعب المصري، أو ما يمكن اعتباره روح الثورة، أن الجسد المصري أبعد من أن يكون مؤهلاً لحالة "ثورة" بكل ما يحمله ذلك الاصطلاح من محمولات، وأن القلب فقط أي مجموعة الشباب الطليعي الثائر هو من حرض الشعب على حركة غائمة المقاصد. . حركة تعرف جيداً المحطة الراكدة التي تغادرها، ولا تعرف ملامح الطريق الذي ستسلكه أو المحطة التي ترغب في الوصول إليها، بل وربما لا يعدو ما حدث من انتفاضة جماهيرية أن يكون تقلصات وارتعاشات جسد مضروب بالأمراض وترضضه الحمى، قبل يبدأ مشوار التماثل للشفاء والنقاهة، أو قبل أن تخمد أنفاسه تماماً
اجمالي القراءات
8040
الاستاذ كمال غبريال.. دمت بكل خير.. ويبدو ان الاصابة بمرض المثقف الوطني المفكر .. ينقي الروح ويسمو بالوجدان ليَعْبُر الواقع ويستشف المجهول..
ذلك المجهول الذي ينتظر سكان الغرفة الرابعة..من سكان مصر وهم الأغلبية الصامتة التي تشكل 75 % من المصريين مسلمين ومسيحيين..
فهؤلاء السكان قد اعطوا شيكا على بياض لرجال الدين المسلم والمسيحي .. ليقودوا مصر باسم حراس الدين والاخلاق..
هذه الأغلبية الصامتة هى ما يمكن ان توصف بالمثل العربي القديم.. (جنت على نفسها براقش)
شكرا لك وإلى لقاء.