أتصور أن الإدارة الأمريكية، ومعها الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي، كرأس حربة الآن للاتحاد الأوروبي، هؤلاء يسعون الآن لتحريك شرقنا الأوسط، وإخراجه من تخندقه الأزلي، ليعيش العصر وفكره وحضارته، ولسان حالهم يقول "ما باليد حيلة"، فبعد تعثر أو بالأحرى فشل مشروع خلق شرق أوسط جديد أو كبير، على أسس جديدة، وبنظم ديموقراطية حديثة، تصلح للتعامل مع عالم الألفية الثالثة، لم تجد هذه الدول بد من اللجوء إلى ذات النظم الموجودة، والتي نعتبرها ويعتبرها الغرب أس الداء والبلاء، وأن وجودها ذاته، برموزها ونهج حكمها، هو المحرض الأول لشعوبها على اليأس، ومن ثم اللجوء إلى الإرهاب.
هكذا بدأ الغرب يسعى للتواصل مع أشد رموز تلك النظم تطرفاً ومعاداة لكل القيم والتوجهات الغربية، فيما بدا وكأنه اختراق دبلوماسي جديد لحوائط الصد التقليدية للمشروع التحديثي الغربي، بداية من الاتصالات العلنية وغير العلنية مع نظام الملالي ونجاد في طهران، إلى نظام الأسد في سورياً، ونظام الأخ العقيد في ليبيا، التي تشهد الآن ما يقال أنه زيارة تاريخية لمسئول أمريكي رفيع، لم تشهد ليبيا مثيلها منذ نصف قرن، وقد أفتتنا الآنسة كوندوليزا رايس من طرابلس الغرب، بأن الولايات المتحد لا تعرف العداوات الدائمة!!
إذا كان من التهور أن نصف الآنسة وزيرة الخارجية الأمريكية بالجهل، فربما يجوز لنا أن نتصور أنها تخاطبنا "على قدر عقولنا"، أو بمعنى أوضح تحاول الضحك علينا، بأن تخاطبنا وفق منهج تفكيرنا نحن، وليس وفق الرؤى الأمريكية أو الغربية للأمور، فعن أي عداوة غير دائمة تتحدث الآنسة كوندي، هل تقصد أنها كانت على عداوة شخصية مع سيادة الأخ العقيد، وقد تم الصلح والحمد لله، في "قعدة عرب وخواجات"، على نمط قعدات العرب، التي تضم ملوك ورؤساء الدول العربية المتخاصمين، ليخرجوا منها سمن على عسل أبيض، أو حتى عسل أسود ومنيل، ليقبلون لحى بعضهم بعضاً أمام الكاميرات، ثم لا يلبثون إلا قليلاً، حتى يعودوا لتبادل الشتائم واللعنات، والاغتيالات والمؤامرات؟
أم أنها كانت على عداوة مع الشعب الليبي، وقد آن الآن استبدال تلك العداوة بالصداقة؟
إن صح التصور الأخير، يكون هذا في حد ذاته كارثة سياسية أمريكية، أن تتهم وزيرة خارجية إدارتها وبلادها بمعادة شعب من الشعوب، فعلى الأقل المعلن تبريراً للسياسة الأمريكية، التي اتسمت منذ ولاية بوش الأولى بالبطش بمنطقة الشرق، أن هذه السياسة التي تستخدم العقوبات الاقتصادية تارة، وقاذفات القنابل وصواريخ كروز تارة أخرى، تستهدف تغيير النظم القائمة، برموز الديكتاتورية والفساد المتربعين على عروشها منذ عقود، أو المورثين إياها لأشبالهم، لاستبدالها بنظم حديثة وديموقراطية، تراعي أول ما تراعي حقوق اللإنسان، ليكون توصيف الموقف الغربي أبعد عما يكون من مسألة العداء التي تتحدث عنها الآنسة كوندي، والتي قررت الرجوع عنها في اللحظات الأخيرة من عمر إدارتها.
يبدو أنه لم يكن يليق باللغة الدبلوماسية، التي تلتزم الآنسة بالحديث بها، أن تعبر صراحة عما يحاولون في الشرق حالياً، والذي نراه ينضوي تحت شعار "ما باليد حيلة".
فإذا كان الغرب لا يمتلك رفاهية أن يترك الشرق وحاله، ويترك أبناؤه يأكلون ويقتلون بعضهم بعضاً، كما يفعلون في غزة ولبنان والجزائر والسودان والصومال، إن لم يكن ترفقاً بالإنسانية الغائبة عن هذه المنطقة، فحرصاً على ألا يتكرر ما حدث في 11 سبتمبر 2001، وما حدث بعد ذلك في مدريد ولندن، من أن يصل إليهم ما نطبخ ونطهو في ديارنا، في عقر دارهم، فليس أمامهم إلا أن يحاولوا زحزحة رموز الدكتاتورية والإرهاب عن مواقعها، بإيهامها أنها من الممكن أن تسير في طريق الإصلاح، دون أن تخسر مواقعها، وتظل جاثمة على قلوب وأنفاس شعوبها.
توجه جميل ولا ريب، خاصة إن بدا هو الخيار الوحيد المتاح، على الأقل في المدى المنظور، لكن السؤال الخطير والملح، هو هل تصلح تلك القيادات فعلاً للسير في طريق إصلاح حقيقي، وليس مجرد المناورة لكسب بعض الوقت، ليعودوا بعدها إلى ما درجوا عليه وأدمنوه؟!
هل يصلح القذافي الجاثم على صدور الشعب الليبي منذ أربعين عاماً، تقلب خلالها على كل الأوجه والتوجهات، بما فيها رعاية الإرهاب في كل مكان على سطح الكرة الأرضية، إلا ما يمكن أن يكون طريقاً نحو التخفيف من وطأة معاناة الشعب الليبي، المفترض أنه على قمة الشعوب من حيث ثروته البترولية، مقارنة بعدد السكان، هل يصلح الآن لسلوك طريق مستقيم نحو الحكم الرشيد والمتزن؟
وهل الحكم الرشيد المزعوم، سيتيح له تجليس ابنه مكانه، بعد عمر مديد إن شاء الله، هذا إن أبقاه هو على كرسيه؟
بل هل يمكن الاعتماد على عقلية القذافي المترجرجة في كل الاتجاهات، لضمان عملية تطور حقيقي لليبيا؟
هل يصلح الأسد ابن الأسد، للسير في طريق السلام مع جيرانه، والكف عن القتل والمؤامرات على لبنان وفلسطين والعراق، ويكف يده عن الشعب السوري، الذي يعيش في معتقل بحجم بلاده، متخلياً عن كل ميراث والده رحمه الله، والذي أوصلته سياسته إلى حكم سورية وهو في الرابعة والثلاثين من عمره؟
أمن الممكن إقناع الأسد بأنه يمكن أن يترك أناشيد الحرب الميكروفونية، ويتخلى عن مؤامرات الاغتيال داخل سورية ولبنان، ثم يتركه الشعب السوري متربعاً على كرسيه؟
يتحمس الحزب الديموقراطي الأمريكي أيضاً في برنامجه الانتخابي، لما يسميه التفاهم مع إيران، التفاهم جميل ولا شك، لكن هل يصلح قادة إيران ونظام إيران ذاته للتفاهم، وعلى أي شيء يتفاهمون، وهم يقسمون العالم إلى مؤمنين وكفار، ويريدون تصدير إيمانهم للعالم عبر الإرهاب والقتل، ويريدون إبادة دولة عضو في الأمم المتحدة، وإزالتها من الخريطة؟!
لا نقصد توجيه اللوم للسياسات الغربية الحالية، فهي على الأقل تجعلنا نمضي بعض الوقت في ظلال الآمال الوارفة، علاوة على أنها توجه منطقي، من باب "ما باليد حيلة"، لذا فلا يسعنا بعد أن نبدي تشككنا في جدوى كل ما يحدث، أن نتمنى التوفيق، لكل من يحاول "أن يصنع من الفسيخ شربات".
اجمالي القراءات
10284