تجريد مشكلتي سوريا والعراق
مر الآن أكثر من 6 سنوات على اشتعال الحرب في سوريا، و14 عام على سقوط بغداد، ولم ير الناظر في كلتا الدولتين أي تحسن سوى بعض البشائر العسكرية، وفي تقدير بعض مراكز الإحصاء بلغت ضحايا كلا الحربين أكثر من مليوني إنسان..وهو رقم كبير يدل أن المنطقة العربية كانت –أو لا زالت- مهددة بالفناء..
في البداية مع كل مشكلة كبيرة يجب البحث فيها عن الجذور لاستبيان أصل الداء، فكما أن الطبيب لا يعالج مرضاه سطحيا بل يأمر بالتحاليل والأشعة لقياس أو لمعرفة أصل المرض..يتوجب علينا ذلك أن نمارس ما يفعله الطبيب وهو أن نشارك جميعا في البحث عن جذور المشكلة، هذا يقربنا كثيرا في فهم ما يحدث..
أولا: في الستينات والسبعينات ظهر المذهب الوهابي السلفي وأخذ مساحته في الانتشار، ونجح في التأثير على قطاعات كبيرة من الشباب..هنا تحول الأفراد الذين تأثروا (شكليا) ثم بالاعتياد تحولوا (ضمنيا) أما العوام أو الطبقات الشعبية لم تكن تأثرت ضمنيا بعد..هذا سيحدث بعد ذلك كما سنشرح، وبعد التحول الضمني للأفراد المتأثرين بالوهابية اكتسبوا كل صفات الرفض والكراهية والتمرد على الحضارة الإنسانية المعاصرة، فانقلبوا إلى شخوص تكفيريين معادين لكل قيم الجمال، بل منهم من رأى الانتحار وسيلة ناجحة في التخلص من الحياة ونيل الجنة بأقصر وأسهل الطرق.
ظل هذا التحول الضمني لهؤلاء الأفراد بخلاف التحول الشكلي للعوام إلى أن جاء عصر الأقمار الصناعية عام 2000 ،هنا حدث التحول والانسجام بين أفكار الجماعات وبين القطاعات الشعبية، والسبب أن الأقمار الصناعية نقلت برامج التخصص في القنوات الحكومية القديمة من (دين وأخبار ورياضة وطبخ وأفلام..إلخ) إلى قنوات مستقلة، وبالتالي على القائمين على تلك القنوات إشغال أكبر مساحة ممكنة من القناة كي لا يقال أنها ضعيفة ولزوم التنافس بين مالكيها.
كانت مواد البرامج الدينية قديما لا تزيد عن ساعة يوميا، الآن بعد الأقمار الصناعية وشغل 24 ساعة أصبح لزاما على ملاك تلك القنوات إشغال 23 ساعة على الأقل من مواد علمية ومعلومات وعناصر، ولفقر هؤلاء المعرفي لم يجدوا سوى كتب التراث لإشغال هذه المساحة الضخمة، ففتح شيوخهم كتب التراث وقرأوها على الناس...هنا كانت الكارثة والتحول المثير الذي أثر بعد ذلك على القطاعات الشعبية، وجعل العوام يتبنون نسخة التدين الإرهابي للجماعات بطريقة تلقائية، والسبب أن ما فتحه الشيوخ وقرءوه على الناس من كتب التراث ملئ بالكراهية والطائفية والعدوانية والعنصرية..وهذه كلها قيم كانت سائدة في العصور الوسطى، أي باستدعائها الآن من تلك القنوات الدينية كان كارثة في حدث ذاته لأن العصر الذي نعيش فيه لا يؤمن بهذه الأشياء..
سبب مهم في تأثير تلك القنوات السلفية على الناس هو أن نسخة الدين المعروضة في عصر القنوات الحكومية كانت نسخة سمحة لم تستوجب رفضا من الناس أو ثورة عليها، كان الدين الذي يقدمه برنامج.." نور على نور".. دين جيد، وبرامج المسابقات في إطار مرح، حتى برنامج الشعراوي مع كل سلبياته لكن قدم نسخة دينية مقبولة فيها لمحة من التسامح والقبول وحفظ حقوق الناس..كل هذا تم إسقاطه على القنوات السلفية الوهابية التي ظهرت بعد عام 2000 واكتسب الوهابيون كل قيم الدين المنتشرة في عصر البرامج المحدودة.
مع تحول الناس ضمنيا وتبنيهم نسخة الجماعات الإرهابية أصبح الشرق الأوسط على وشك الاشتعال الديني في أي وقت، بدأت إفرازات ذلك في الفتنة الطائفية العراقية عام 2006، ثم في حرب اليمن 2009 وأخيرا في عصر الثورات والحروب الأهلية الماحقة الآن، كل ذلك تسببت فيه القنوات السلفية المفتوحة والمنتشرة بكثرة، هم الذين أشاعوا البغض والكراهية بين المسلمين والعرب بفتحهم كتب التراث على الناس، ولم يراعوا تجديد ما سبق، ثم وبتقصير من الحكومات وسلبية كل المذاهب المخالفة سيطرت الوهابية على عقول الناس حتى استفحل المرض وأدى إلى ما نحن عليه الآن..
هذه ببساطة أصل المشكلة، ولزاما على من يريد الحل أن يواجه هذا التراث المنشور أولا، ويعالج كل أمراضه الطائفية والعنصرية، أعلم أن الموضوع صعب جدا ، فقد يصل المرض أحيانا لحد .."الغرغرينة"..ويستوجب بتر العضو ليعيش باقي الجسد، لكن ما زال الأمل موجود بمراجعة شاملة للتراث وإحياء النقد الديني واستبعاد كل كتب التراث من دائرة التقديس، أي لا بخاري مقدس بعد الآن ولا ابن كثير ولا ابن تيمية..ولا الشافعي وابن حنبل..الجميع قابل للنقد والمراجعة، هؤلاء ناس ماتوا منذ مئات السنين ..خيرهم وشرهم لأنفسهم..لا يضركم من ضل إذا اهتديتم..لكن أن نجعلهم يحكمونا من قبورهم لهي النكبة.
ثانيا: عندما تحدث أزمة طبيعي يتدخل ذوي النفوذ إما لحماية مصالحهم أو للتوفيق وزيادة سعة نفوذهم، يحدث هذا بين فلاحي مصر فيما يعرف.."بالجلسات العرفية"..وفي الغالب الأعم يكون هذا التدخل إيجابي وينجحوا في الحل، أما في سوريا والعراق فالوضع اختلف، لما تأزمت الأوضاع تدخلت نقاط القوى لحماية مصالحهم ولم يبحثوا عن حلول فعقّدوا الأزمة وطالت أكثر من اللازم، هؤلاء الأقوياء هما.."إيران والسعودية"..كان تدخلهم سلبيا ولم يراعوا خصوصية المنطقة أو تاريخ وطبيعة الصراع، بل لم يناقشوا تحدياته..
إيران لها ثلاثة مصالح مع العراق ومصلحة واحدة مع سوريا، فمع العراق هي دولة جارة ، وذات أغلبية شيعية، ولأنها في محور المضاد للسعودية، أما سوريا بالنسبة لإيران فهي مصلحة واحدة فقط وهو .."محور الممانعة لإسرائيل"..أي أن العراق بالنسبة لإيران أهم من سوريا على أمنها القومي، وأما سوريا بالنسبة لإيران أهم من العراق لخطها الأيدلوجي، وهي معادلة كثير لا ينتبه لها البعض ويظن أن سوريا تمثل شئ للداخل الإيراني..هذا غير صحيح..يوجد تعاون من أيام حافظ الأسد، لكن ولأن سوريا دولة علمانية لم يحدث هذا التطبيع بحيث نرى أن كلا الشعبين واحد..
وبالنسبة للسعودية فهي ترى كلتا الدولتين – سوريا والعراق – تهديد عملي لها، فالعراق لعوامل الجيرة والمذهب، وسوريا لعوامل السيطرة والنزاع في الشرق الأوسط والشام، فقدان الدور السعودي في سوريا يفقد بالتبعية على لبنان..وربما على فلسطين وحركات المقاومة ضد إسرائيل
ويمكن القول أن الدور السعودي في العراق وسوريا هو مكمل للدور الإسرائيلي أو لحسابات خاصة بالإدارة الأمريكية، فالسعودية عمليا لا تواجه تهديد من سوريا ما الذي دعاها لتشكيل جبهة هناك؟..وهل مصالحها في لبنان مرتبطة أيضا بصراعها في سوريا أم العكس؟..
ثالثا: العراق وسوريا دول قوية لها موارد وشعوب مثقفة ، فالعراق يملك مخزون نفطي عالمي إضافة للصناعة والزراعة، بينما سوريا لديها بنية صناعية جيدة من أيام حافظ الأسد، وكذلك لديها مساحة مزروعة كافية لسد حاجة الغذاء، ومعها يمكن القول أن كلتا الدولتين لديهم اكتفاء ذاتي في أشياء كثيرة أهما الغذاء، ويضاف للعراق موردها النفطي تصبح مؤهلة أكثر للتطور..
أما بالنسبة للتدخلات الخارجية فالعراق لديه تاريخ مع الاستقلال منذ ثورة تمور / يوليو 1958 وقائدها عبدالكريم قاسم، فعل أشياء جيدة وأخرى سيئة، جاء بعده عبدالسلام عارف وأصلح ما أفسده قاسم وتواصل مع دول الجوار ومع الأكراد والكويت، لكن بمرجعية وطنية قومية هي الغالبة في ذلك الزمن، ويمكن القول أن الحس القومي العراقي أقوى من المذهبي ربما، وهناك حالة التيار الصدري ماثلة فهذا التيار هو قومي بالأساس وليس ديني..وإن بدا له بعدا مذهبيا في زمن الاحتلال الأمريكي، لكن مع الوقت بدت لنا صفته القومية برفعة نداء العروبة والتصدي لأطماع دول الجوار في العراق خصوصا الفرس..ومظاهرات هذا التيار ضد إيران شاهد على حائط صد وطني قومي..
وفي هذا السياق أرى أن التيار الصدري ليس حكرا على مقتدى الصدر وحده، بل يضم معه حزب الدعوة ومؤسسه محمد باقر الصدر المتوفي عام 1980 بعملية إعدام سريعة نفذت للمتعاطفين مع الثورة الإسلامية الإيرانية ، لكن حزب الدعوة تبقى له ميول إخوانية في فهم الدين وتفسير الكون والأشياء، فهو يرفع نفس نداءات الوحدة الإخوانية الإيرانية دون التأثر بحس مذهبي أو قومي، وهو الغالب في تيار الثورة الإيرانية إذ تختفي معه حواجز العرق والمذهب والقوميات، وهي لمحة بارزة في فلسفة باقر الصدر التي سطرها في كتاب فلسفتنا الذي يمكن القول أنه استنساخ أو إعادة صياغة لفكر الإسلاميين ضد أقطاب الحرب الباردة.
أخيرا: فالعراق مطالب بحكومة مدنية علمانية تقضي على النفوذ الديني للمرجعيات في بنية الدولة، بحيث تؤسس لحكومة ديمقراطية منتخبة تولي بحقوق الإنسان جل اهتمامها، أما دور المرجعيات فلا يتعدى حاجز الدعوة والفقه والسلوك والمعاملات، أما في سوريا فهي مطالبة بحكومة ديمقراطية منتخبة تحفظ وحدة البلاد ومؤسساتها خصوصا العسكرية، فالسؤال الأهم ليس رحيل الأسد من عدمه بل رحيل كل النفوذ الأجنبي من دول وجماعات ومخابرات..هذا يقلل من حدة التوتر ويرفع سقف التسامح، أما الاعتماد على القوة وحدها فبعد 6 سنوات من الحرب لم يكن هذا الخيار مجديا ووقعت سوريا في الكارثة ولن تقوم منها سوى بإيمان تام بالتسامح وبالعقل النقدي..ورفض كل فكرة تخفي ورائها تمييزا على أي مستوى.
اجمالي القراءات
6972