التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية:
الغيبة والنميمة..والمقاريض

آحمد صبحي منصور Ýí 2015-05-29


كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

 الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية

" الغيبة والنميمة"

  من المنهى عنه إسلاميا الغيبة والنميمة ضمن رذائل أخرى حددها رب العزة جل وعلا فى القرآن الكريم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)   الحجرات )،  هذا فى الاسلام . أما التصوف فله شأن آخر .

بين التصوف والغيبة والنميمة:

1ـ  الصوفية لم يكن في حياتهم ما يشغلها بخطير الأمور ، وإنما عاشوا في فراغ عالة على الناس،  وفي تنافس مستمر فيما بينهم على المريدين والنذور ، مما جعل عملهم وتسليتهم الأساسية في الغيبة والنميمة.

2 ــ  ومنذ بدأ التصوف بدأت معه دولة الغيبة والنميمة ، حتى لقد نصح بعض الأشياخ بأن ينشغل الصوفية عن الغيبة بمطرب أو منشد مُغنّى أو ( قوّال ) . يقول أبوالقاسم النصراباذى: (  أنا أقول إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوَال يقول، خيرا لهم من أن  يغتابوا . )"[1].

وانتشر التصوف فتعاظمت دولة الغيبة والنميمة حتى يقول الدلجى إن من آفات الفلاكة ـ أى الفقر والتصوف ـ "( الغيبة والطعن فى أعراض الناس والغض منهم) "[2]. ويقول السيوطى عنهم: ( ومنهم من تراه يتتبع عيوب الخلق فيذكرها ) "[3].

فى المؤسسات الصوفية :

1 ــ وكانت مؤسساتهم مراكز أساسية لهذا النشاط حتى يقول الشعرانى : (  وقبيح على شيخ الزاوية مثلا أن يجلس فى مجالس الغيبة والنميمة أو يُقرّ أحدا على ذلك ، فإنه يصير فاسقا، وهذا أمر قد استهان به الناس ، مع أنه أقبح من بيع الحشيش، ومع ذلك فلا يكاد أحد أن يستقبحه كل القبح"[4].  أى فقط بعض القبح ، أى صار عادة شائعة لاتستوجب إنكارا.

 بل كانوا يمارسون الغيبة والنميمة أثناء قراءة القرآن، فى تلك المؤسسات ،  يقول السبكى عن القُرّاء : (  القراء قد يتحدثون مع بعضهم البعض أثناء قراءة الجزء من الربعة، فلا هم يقرأون القرآن ولاهم يسكتون من اللغو فى الكلام، فإن انضم إلى ذلك أن قراءة الجزء شرط الواقف وأن حديثهم فى النميمة فقد جمعوا حراما ) "[5]. ذلك أن من أقام للصوفية الخوانق والربط والزاوية كان يشترط فى حجج الوقف أن يقرأوا القرآن ، وماكان يدرى أنها ستتحول إلى دروس للغيبة والنميمة.

شيوخ الغيبة والنميمة

 1 ــ  واشتهر كثيرون من الأشياخ الصوفية فى مجال الغيبة والنميمة، مثل الفخر الصوفى ت622" الذى ( كان بذىء اللسان كثير الوقيعة فى الناس"[6]. على حد قول الصفدى الذى يمدح صوفيا آخر هو ابن الفخر ت731 بأنه " كان متعبدا ممتنعا من الغيبة وسماعها"[7]. أى أن الغيبة والنميمة من عادات الصوفية ، ومن نجا منهما مدحوه بذلك .

2 ــ والقضاة ــ كالعادة ـ شاركوا فى الميدان . فقاضى قضاة حلب " شهاب الدين بن أبى الرضا ت791 ( كان مولعا بسلب أعراض الناس مستهزئا بأقوال الأكابر من العلماء والصالحين مواظبا على النفاق وإساءة الأدب والإساءة لمن أحسن إليه) [8].

والشيخ تقى الدين المصرى ت834  ( تفقه وتكسب بالشهادة واشتهر بمعرفة الملح ) أى الطرائف ، (  وسلب أعراض الناس خصوصا الأكابر فكان بعض الأكابر يقربه لذلك )"[9]. أى كانوا يطلبونه لأنه متخصص فى الغيبة ونشر أخبار الناس صحيحة أو مُلفّقة ، أى كان بتعبير عصرنا جريدة صفراء للفضائح تسير على قدمين ، ويُقبل عليها الناس .

فى القرن العاشر

1 ــ  وفى القرن العاشر سادت دولة الغيبة والنميمة إلى حد أكلت أعراض الأشياخ الصوفية أنفسهم، وإلى حد شارك فيها المريدون فى الوقيعة بين الأشياخ الذين تكاثروا عددا، وتعاظم التنافس والحقد بينهم ، ولم يعد لهم من عمل إلا أكل لحوم بعضهم البعض.

2 ــ والشعرانى أبرز الأشياخ فى عصره افتخر بحفظه لمقام أصحابه ( ومن أكل معه عيشا وملحا مع أن هذا خلق غريب) فى أيامه . ، يقول": (  ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على حفظى لمقام صاحبى ومن أكلت معه لقمة ملح فى وقت من الأوقات ، ولا أخونه بالغيب لأجل تلك اللقمة. ).

أى تهاوت كل الروابط ماعدا رباط اللقمة والعيش والملح. ثم يقول كعادته مفتخرا بنفسه : ( وهذا  الخلق قد صار فى هذا الزمان أعز من الكبريت الأحمر ، فربما أكل الشخص مع صاحبه نحو عشرة أرادب من الخبز فلا يحفظ له مقاما، بل يجعل فيه العجر والبجر إذا وقع بينه وبينه نفس )"[10].

ولأن الأشياخ الصوفية وقتها كانوا أشياخ الغيبة والنميمة ، فقد سأل الشعرانى فقيرا صوفيا يوما: (  لم لم تأخذ عن فلان ؟ )" وذكر له واحدا من الأشياخ فأبى وقال: ( لأن شرط المسلم أن يسلم المسلمون من لسانه ويده وهذا لم يسلم أولاد شيخه من لسانه ويده،  فكيف بغيرهم؟ )"[11].

ويقول الشعرانى : ( وقد رأيت شخصا عاد (أى زار ) مريضا فلما مرض هو لم يأت إليه، فمزق عرضه فى الآفاق.  وقد مرض شخص من مشايخ العصر فطلب من سيدى على المرصفى أن يعوده فلم يجبه إلى ذلك وقال إنما يطلب عيادتى طلبا للشهرة عند الأمراء الذين يعتقدونه ويقول الناس أن المرصفى زار سيدى الشيخ اليوم، ثم أن ذلك الشيخ صار ينقض عرض الشيخ المرصفى".)

المقاريض :

1 ــ هم مريدون تخصصوا فى إبتزاز شيوخ الصوفية باستعمال الغيبة والنميمة . ووجدوا لهم سوقا رائجة فى جلسات الشيوخ الصوفية أنفسهم ، ينقلون الأخبار و الوقائع والخصومات والفضائح .

2 ــ ويحكى الشعرانى عنهم ضمن كلامه عن  مجالس الغيبة والنميمة فيقول عن الأشياخ : (  بل رأيت بعض المشايخ يستجلب كلام اللغو من الداخلين عليه، يقول لهم : إيش أخبار الناس اليوم ؟ فينفتح الزائر كأنه جسر وانقطع ، ويحكى له ماجمعه فى تلك الغيبة كلها من غيبة ونميمة وقذف عرض وذكر نقائص الناس من سائر أصناف الخلائق. ثم يقول للزائر: والله ماأنت إلا حكيت لى، إيش بقى معك أيضا ؟ كأنه ماكفاه ماوقع فيه من الإثم حيث لم ينكر عليه شيئا مما قاله فى الناس من الغيبة لاسيما غيبة العلماء والمشايخ، وكيف ينكر عليه وهو الذى استجلب منه ذلك.!! )".

3 ــ وأولئك الأشياخ تربى عليهم جيل من المريدين يرتزق بالوقيعة بين الأشياخ بنقل الأخبار أو يصنعها. هم مريدون بلا إخلاص لأى من الأشياخ ولا يعتقدون فى ولايتهم فأرادوا إبتزازهم بالغيبة والنميمة. عرفوا طبيعة الأشياخ على حقيقتهم وأسرارهم  ومخازيهم وأنهم منتحلون منحلُّون يتكسبون بالدين ،وبالتالى فلن تكون الغيبة والنميمة مجرد إفتراء ، بل فيها حقائق . هؤلاء المريدون كانوا خطرا على هيبة الشيوخ الذين تقوم أرزاقهم ومكانتهم على الاعتقاد فيهم . وإذا تلاعب هؤلاء بالأشياخ فمن الطبيعى أن تضيع هيبة الأشياخ ويزول الاعتقاد فى كرامتهم . أى كان أولئك المريدون أشبه بمن يمارس الابتزاز فى عصرنا ، أو كانوا مثل بعض وسائل الاعلام التى تحترف مطاردة الأثرياء لتتكسّب منهم .

والشعرانى كان يتخوف من هذا الصنف من المريدين فى عهده ، ويسميهم ( مقاريض ) أى يقرضون الأعراض بألسنتهم ،وكان يتودد اليهم وينافقهم لينجو من ألسنتهم ، يقول أن من المنن: ( حُسن سياستى للمقاريض الذين يقرضون فى أعراض الناس بغير حق، فأقدم لأحدهم الطعام إذا ورد على ، وأبشُّ له فى وجهه وأباسطه ، وكثيرا ماأعطيه ردائى وقميص أو شيئا من الدنيا ، ونحو ذلك مما يحبّبه فىَ . ).

4 ــ ومن براعة الشعرانى فى اكتشاف طبيعة هذا الصنف أنه كان أثناء مباسطته معه يأخذ منه الأخبار دون أن يعطيه من أخباره شيئا، ثم يقول الشعرانى عن سياسته تلك مع المقاريض : ( وهذا الخُلق قلّ من يفعله من الناس ، فإنهم إماينكروا على ذلك المقراض ويعبسوا فى وجهه فيخرج مقراضا فيهم كذلك ، وإما أنهم يشاركونه فى الغيبة فى الناس وإما أن يسكتوا على تلك الغيبة. )".

5 ــ ويحذر الشعرانى الأشياخ من هذا الصنف من المريدين : (  فإياك ياأخى أن تذكر أحدا ممن يبايعك على النصح بسوء تنقصه به فى المجالس فإنه ربما عاملك بنظير ذلك وصار يقطع فى عرضك وينقصك فى أعين الناس كما نقصته، وكثيرا مايبلغ الشيخ الكبير القدر أن فلانا يقطع  فى عرضك فيتكدر لذلك. وغالب مريدى هذا الزمان غير صادقين مع أشياخهم. ).

ومعناه أن أغلبية المريدين تحولوا فى عصر الشعرانى إلى مقاريض فى  أعراض الأشياخ باعتراف الشعرانى الذى يقول : ( فربما عاهد أحدهم شيخه على أنه ينصحه سرا وجهرا أى من ورائه لمن يبلغه ومواجهته وهو كاذب، فليحذر الشيخ من التهور فى ذلك وعدم التفتيش ، فربما ظن أن مريده مقيم على العهد ولا غير ولا بدل ، والحال أنه غيّر وبدّل فيفجُر على الشيخ ، كما وقع لى ذلك كثيرا مع أصحابى ، وصار بعضهم يمزق فى عرضى فى أى مكان حل فيه، وبعضهم يصرخ فى وجهى أنه ليس من جماعتى ثم أنه إذا احتاج إلى حاجة عند الولاة يكُبّر فىّ غاية التكبر ( أى يُعظّمنى نفاقا ) ويجعل نفسه من جملة المريدين حتى تقضى حاجته.  ويبلغنى عنه ذلك وأُقرُّه عليه غصبا على، فتارة يجعلنى متفعّلا ـــ أى منتحلا مدعيا ـــ وتارة يجعلنى قطبا ) "[12].

6 ــ وتجربة الشعرانى تثبت أن الصوفية أداروا رحى الغيبة والنميمة  فما لبث أن طحنت أعراضهم.



[1]
ـ احياء ج2/266.

[2] ـ الدلجى. الفلاكة والمفلوكون16

[3] ـ تأييد الحققةالعلية 47.

[4] ـ تنبيه المغتربين 215.

[5] ـ السبكى . معيد النعم 144: 145.

[6] ـ الوافى بالوفيات ج2/9، ج3/139.

[7] ـ الوافى بالوفيات ج2/9، ج3/139.

[8] ـ العينى . عقد الجمان لوحة 378.وفيات 791.

[9] ـ إنباء الغمر ج3/465: 466.

[10] ـ لطائف المنن ط. دار الفكر: 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

[11] ـ لطائف المنن ط. دار الفكر : 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

[12] ـ لطائف المنن ط. دار الفكر: 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

اجمالي القراءات 8712

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4981
اجمالي القراءات : 53,362,928
تعليقات له : 5,324
تعليقات عليه : 14,623
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي