لعل جذر مشكلة الشرق الأوسط الآن، هو تعثره في دائرة الإيمان، بما يحول دون دخوله إلى دائرة العلم، التي صارت تحتوي جميع الأمم الناهضة. لقد استطاعت شعوب أوروبا عبور عصورها الوسطى، التي لا أستحب تلقيبها بالظلامية، عندما تقدمت غير هيابة، وإن بعد صراعات طويلة ومريرة، للانتقال إلى دائرة العلم، دون أن يعني هذا مغادرتها كلية لدائرة الإيمان. وهذا ما لا تستطيع شعوب الشرق حتى الآن القيام به، بل وتزداد ظاهرياً على الأقل، إيغالاً في معاداة العلم باسم الإيمان.
لعل المشكلة في الشرق أيضاً، ليست فقط المواجهة بين العلم والإيمان، ولكن أيضاً المواجهة بين العلم والخرافة، التي صارت الآن، ربما بأكثر من أي وقت مضى، ملتصقة بمقولات الإيمان. رغم أن الكثير منها، أو حتى أغلبها، يكاد لا يمت بصلة للنصوص المقدسة، المعتبرة مرجعية إيمان شعوب الشرق الأوسط.
الوله بالمعجزات والخوارق، واحد من أخطر سمات الشعوب، التي تمتزج لديها الخرافة بالإيمان، بعكس الشعوب التي استطاعت بالعلم أن تنقي أفكارها الإيمانية، لتسمو بها من مستوى تشويه الوعي بالحياة، والاستهانة بالقوانين الطبيعية، التي تحكم سائر المظاهر المادية، إلى مستوى الروحانيات، التي يحتاجها الإنسان، تلطيفاً لجفاف اهتماماته المادية، وتخفيفاً لضغوط سباق حضاري ضار لا يعرف رحمة.
دعنا نقول أن الإيمان المستنير، الذي لا يسعى عمداً أو جهلاً للتصادم مع العلم، له دائرة محكمة، أشبه بعلبة المجوهرات، لا نضع فيها أي أغراض أخرى، مهما كان اهتمامنا وإعجابنا بها. فقط نحتفظ فيها بتلك الجواهر الثمينة الممثلة لما نؤمن به، والتي تخضع لقانون يقول أن "الإيمان هو الثقة بما يرجى، والإيقان بأمور لا تُرى". يترتب على هذا القانون أن تكون دائرة الإيمان مخصصة لما "لا يُرى"، أي غير المحسوس، والذي نستدل عليه ونرتاح له بالقلب والروح، وهو ما يسمى في الفلسفة بالميتافيزيقا، أي ما وراء الطبيعة.
يعني هذا أيضاً أن المحسوس، ويشمل كل ما حولنا بالعالم من موجودات ومظاهر وظواهر، هو خارج دائرة الإيمان، المختصة فقط بغير المحسوس. فالعالم المادي الذي نعيش فيه يخضع أو تحتويه دائرة أخرى، يلعب العقل فيها دور البوابة والآلية، التي تسمح أو لا تسمح بالدخول. إذا كان القبول في دائرة الإيمان مناطه الارتياح القلبي والروحي، والذي بموجبه نقبل أو نرفض المسائل الإيمانية الغير محسوسة، فإن القبول للمحسوس في دائرة العقل يخضع للاختبار والتجريب، ونحن نطلق على المنهج الذي يختبر القضايا المحسوسة من حيث الصدق أو البطلان "المنهج العلمي"، فلا شيء يُقبل في دائرة العلم، ما لم يكن قابلاً للتكذيب، عبر النجاح أو الفشل في خوض تجارب معملية وميدانية.
هناك تناظر وتشابه بين دائرتي "الإيمان" و"العلم". التناظر نجده في اختصاص كل منهما في أمرين مختلفين متناظرين. ذلك أن أحدهما لغير المحسوس أو ما وراء الطبيعة، والأخرى للمحسوس الطبيعي. ويأتي التشابه بينهما، من أن لكل منهما شروطها الخاصة، التي تقبل أو ترفض المقولات على أساسها. والتي هي في حالة دائرة الإيمان "الارتياح القلبي والروحي"، بينما تشترط دائرة العقل "التجربة العملية" لبرهنة الصلاحية.
الفارق الجوهري بين الدائرتين، هو أن دائرة الإيمان في الأغلب مغلقة أو شبه مغلقة. فما يستقر فيها من إيمانيات، سواء بفعل التربية منذ الطفولة، ويستمر ويتعمق فيما بعد، وما قد يستجد أيضاً عند بلوغ الإنسان اكتمال النضج الشخصي، يبقى في الأغلب مستمراً مع الإنسان طوال حياته، ونادراً ما يحدث فيه تبديل أو تعديل جذري، ما لم يتعرض الإنسان لصدمات روحية قوية، قد تنقله إيمانياً من حالة إلى حالة، مثل تلك التي حدثت لشاول الطرسوسي، فتحول إلى بولس الرسول.
أما دائرة العلم، فرغم شروطها الصارمة، والتي تقتضي الخضوع لتجارب منهجية، للتأكد من سلامة النظرية أو القضية محل النظر، وصلاحيتها للتوصيف الكامل للواقع المادي، وتطابقها مع مختلف حالاته العملية، إلا أن دائرة العلم تبقى دائرة مفتوحة، فالقاعدة التي تحكم العلم هي "القابلية للتكذيب"، والتي هي سلاح ذو حدين. فهي تمنحنا يقيناً علمياً بصحة ما نتناوله من قضايا ونظريات، ما دامت محاولات تكذيبها قد فشلت، لكنها في نفس الوقت تُبقي ما أدرجناه وصدقنا عليه كنظريات صحيحة، مهدداً دوماً بالتكذيب، عن طريق تجارب ونظريات أخرى يأتي بها العلماء في المستقبل، مدعومين بتجارب أخرى تثبت مصداقية نظرياتهم الجديدة، وتدلل في نفس الوقت على فساد أو زيف النظريات القديمة كلياً أو جزئياً، مثلما حدث لهندسة إقليدس، وقوانين نيوتن، وحتى نظرية النسبية ذاتها، وجدت من يتحداها ويتجاوزها.
هكذا يبدو الأمر وكأن الحدود والفروق واضحة بلا لبس فيها، بين كل من دائرتي "الإيمان" و"العلم"، ولا مجال لخلط أو تعارض بينهما. لكن الأمر حقيقة ليس على هذا النحو. فالإنسان كائن مادي بالأساس، وما نعرفه بالروح والوجدان، يعمل من خلال الجسد المادي للإنسان. علاوة على أن تصورات العقل الإيمانية، أي ما وراء الطبيعية، لابد وأن تتأثر بالصور المادية. فتعبر مخيلة الإنسان عن الروحيات بالماديات، تستعين بها على تصور واستيعاب "ما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر". لذا فإننا نكون هنا بإزاء تشابك وتداخل حتمي بين دائرتي الإيمان والعقل. الأمر عند هذا الحد محتمل ومقبول بنوع ما، مادام محدوداً بدرجة التداخل المتوقعة، والتي لا تغير من طبيعة كل من الدائرتين ومجال عملهما، بحيث تظل دائرة الإيمان في عالم الماورائيات، ودائر العلم مختصة بالعالم الطبيعي وعلاقاته، والتي يقف الإنسان في المركز منها.
يحدث التداخل أو الاختلاط الخطير في الاختصاصات، ما قد يصل أحياناً إلى حد انقلاب الوضع، حين يحاول الإنسان التوسع بدائرة من الدائرتين، لتطغى على المساحة التي تختص بها دائرة أخرى. كأن نحاول مد الرؤى الإيمانية الروحية، لنتصور هيمنتها على العالم المادي. ونبدأ في التخلي عن استخدام القوانين الطبيعية للتحكم في عالمنا الأرضي. متوسلين معجزات خارقة لهذه القوانين، لنقفز على ظهرها. علنا نصل مباشرة إلى أهدافنا المادية، دونما حاجة إلى جهد أو علم.
كما يحدث أيضًا من مفكرين وفلاسفة، أن يتصوروا أن للعقل قدرة على فحص وتحقيق الماورائيات. فيخوضون غمار بحوث مسلحين بآليات العقل، المنقطعة الصلة بعالم الروح، المفارق للعالم المشتقة منه تلك الآليات التحليلية أو المنطقية. وقد يخرج علينا هؤلاء بإثبات لمقولات روحية. وقد يخرجون بنفي كلي أو جزئي لعالم الروح. وهم في الحالتين قد ضلوا وأضلوا. وهذا ما نبه إليه وفنده رفضاً الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، في كتابه "نقد العقل الخالص".
عندما تتداخل الدوائر لابد وأن تتصادم، وهذا ما هو حادث الآن، من دعوات في الشرق لعودة الدولة الدينية المحكومة بشريعة سماوية، وما يحدث في الغرب ويرعب أهل الشرق، من تيارات إلحاد وإنكار لكل ما هو روحي. الحل الذي لا حل سواه في شرقنا، هو تلك المقولة القديمة، أن "نعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، والمعني هنا أن نلتزم بالاكتفاء في دائرة الإيمان بعالم ما وراء الطبيعة، وفي العالم المادي نلتزم بدائرة العلم، فهو وحدة القادر على مساعدتنا على تطويع العالم المادي، لتحقيق ما ننشده من رفاهية. إلى أن يتم هذا الفصل القاطع، وننجح في التفرقة بين دائرتي العلم والإيمان، سنظل غارقين في غياهب التخلف والخرافة، والدماء التي تسيل بلا حساب، دفاعاً عما نتصوره إيماناً.
هذا بالطبع لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن قضية أخرى، نظنها الأكثر خطورة، وهي أن الإنسان الأصلي ليس كما قال جان جاك روسو "بدائي طيب"، الحقيقة أنه بغرائزه وحش ضار غير متزن ولا منضبط السلوك والتوجهات. التحضر هو الذي يهذب الإنسان، إلى الدرجة التي نعد معها كلمة "إنسان" مرادفة للقيم السامية والمثل العليا. هكذا فإن ما نشهد بالشرق الآن من بشاعة وإرهاب، تلعب فيه الأفكار والاعتقادات المدمرة دوراً ثانوياً، فيما يلعب الدور الابتدائي، افتقاد إنسان المنطقة للتهذيب والتحضر، ما يجعل الأيديولوجيات البشعة المتخلفة هي الأقرب لطبيعته، وهذا هو سر رواجها، مقابل فشل سائر دعوات التنوير. تحتاج هذه الشعوب للتربية والتهذيب، ما لم تكن بتكوينها وجيناتها عاجزة عن تخطي مرحلة الوحشية الأولى!!
kghobrial@yahoo.com
المصدر ايلاف
اجمالي القراءات
7541