كأن المصريين يعيشون في كهف، أو قوقعة محكمة الإغلاق، ويشكلون رؤاهم عما هو بالخارج، لا بالاستدلال بعلامات ومظاهر وحقائق ذلك العالم الخارجي، وإنما فقط وحصرياً، من وحي ما يمليه التواجد داخل تلك القوقعة، من رؤى وهلاوس بصرية وسمعية.
قالت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، في كتابها الصادر مؤخراً بعنوان "الخيارات الصعبة"، إنها شعرت بالاستياء والضيق من نظريات المؤامرة، التي تهيمن على الساحة السياسية المصرية. واستعرضت كلينتون في الكتاب كثيراً من المواقف التي أثارت لديها الانطباع بالضيق من السياسة المصرية، ومنها لقائها الأول مع بعض النشطاء المصريين في مارس 2011، والذين وجهوا اللوم فيه إلى أمريكا على ما أسموه "خطاياها"، رغم رفضهم للانتخابات. كما اتهم مؤيدو أمريكا مبارك بدعم الإخوان، وأنهم قد يتواطؤن مع المجلس العسكري ليبقى في السلطة، فضلا عن قول البعض بتآمر واشنطن مع الإخوان لطرد مبارك من الحكم. . هي اتهامات يتضح للمبصر تناقضها، وتشير إلى أن الحالة العقلية الجمعية للمصريين، هي كيل الاتهام للآخر، الذي من الأفضل أن يكون أمريكياً، في كل مصيبة يعايشونها، مهما تعددت وتنوعت وتضادت هذه المصائب!!
بعيد الانتخابات الرئاسية الأخيرة طردت السفيرة ميرفت تلاوي، رئيس المجلس القومي للمرأة، وفدًا من مراقبي الاتحاد الأوروبي، لتقديمه تقريراً ينتقد فيه الانتخابات الرئاسية، ويرصد بعض حالات التحرش الجنسي في الانتخابات الرئاسية، وذلك أثناء الندوة التي نظمها المجلس القومي للمرأة، عن المشاركة السياسية للمرأة في الانتخابات الرئاسية.
فإذا أضفنا إلى هذا التصرف الأخير للمذيعة/ رانيا بدوي، بإغلاقها الخط أثناء حديث السفير الإثيوبي على قناة التحرير، وجب علينا أن نتحسب، من تنامي ظاهرة فشل النخبة المصرية في التعامل مع العالم الخارجي، وما خلف هذا من تفشي فكر مأفون معاد للعالم، ومحاصر بهلاوس نظرية المؤامرة. ما يبدو هنا هو افتضاح بؤس أفكارنا وتصوراتنا عن أنفسنا، وعن كل العالم من حولنا.
في حديث المذيعة رانيا بدوي مع السفير الإثيوبي، تتجسد أزمة أو ورطة العقل الجمعي المصري، الذي كانت المذيعة جزءاً منه، أو ضحية له. فقد جعل فيروس نظرية المؤامرة العقل الجمعي المصري، أشبه بمن نعرفهم من ذوي "الأجساد الممسوسة"، الذين "يركبون الهوا" لأقل لمسة لجسدهم. فقلد تسبب سرطان نظرية المؤامرة، في أن نبني منظومة رهيبة من المخاوف الأوهام، كما لو أضغاث أحلام لمريض بالحمى. وعندما تناقش هذه المذيعة كما في الحديث المذكور، شخصاً لا يعرف غير حقائق الواقع، مثل السفير الإثيوبي، فلابد أن يكون الحوار مهزلة. فهو حوار الهلاوس، مع الحقائق العلمية الثابتة، والتي تستبعد تماماً، كل ما بنيناه من تصورات، ونحن تحت تأثير حمى نظرية المؤامرة!!
في معرض هذا أستميح القارئ عذراً، في عرض مشكلة تبدو في ظاهرها شخصية. وهي أنني فقدت خلال الشهور الماضية، بمعنى نأيت بنفسي وبأفكاري، ومعها بالطبع علاقتي الشخصية في المجال الفكري، عن التوأمة مع أكثر من شخصية ليبرالية مصرية شهيرة، ممن كنت أعتبرهم أعمدة الليبرالية والحداثة المصرية. ذلك أنني فوجئت بما يشير إلى إصابتهم بفيروس المؤامرة، لأجدهم يتحدثون بذات المنطق، الذي يعد أشهر وأظرف من يتبناه، الإعلامي الجهبز د. توفيق عكاشة!!
ما تعرضنا له أعلاه، من تشوش وتلوث الرؤى المصرية للعالم الخارجي، يصاحبه ويماثله على المستوى الداخلي المصري، ما نسمعه ونشاهده، من تصريحات وفتاوى ومواقف، من رموز مشايخ السلفية، ومن قادة الأقباط أصحاب القداسة والنيافة والغبطة، فهؤلاء وأولئك يدلون الآن بفتاوى وأحاديث، ليفاجأوا بأن "الدنيا قد قامت ولا تنتوي أن تقعد". يحدث ذلك نتيجة أنهم برؤاهم مفارقين للزمان والمكان، كأنهم لتوهم خارجين من كهف، أمضوا فيه مئات أو آلاف السنين، ليخرجوا علينا بنقودهم المتحفية غير القابلة للصرف، وسيماهم بلحاهم وملابسهم، التي تعد الآن مصدر سخرية وتسلية وتندر. الحقيقة هي أن هؤلاء قد تعودوا، هم وأسلافهم على مر دهور، أنهم يقولون ويتصرفون ما يطرأ على أذهانهم المقدسة دون مراجعة، ويأخذ الناس منهم كما يأخذون من وحي مقدس. وبالتالي فهم لا يفكرون ولا يتدبرون أقولهم وأفعالهم. ربما مع التفاؤل سيحتاجون إلى وقت نرجو ألا يطول، حتى يستوعب نواب الإله هؤلاء، أن عليهم تدبر كل كلمة قبل التفوه بها، ومراجعة أي تصرف قبل الشروع فيه، لأن الأحوال والناس الآن يختلفون عما مضى!!
دائماً وعلى مدى تاريخ البشرية، كان هناك تبايناً في الزمن الحضاري الذي تعيشه مختلف الشعوب. بحيث نجد في العصر الواحد، شعوباً تعيش في مستوى حضاري، أقرب لماض شعوب أخرى. وقد شهد التاريخ ما ترتب على هذا من صدامات بين مختلف الشعوب، كما شهد تبادلاً وتلاقحاً حضارياً، ساهم في تقريب المسافات، وتقليل الفجوات الحضارية. حدث هذا في الماضي، حين كانت وسائل المواصلات والاتصالات، تسمح للشعوب والمجتمعات بقدر من العزلة والخصوصية، تتيح لها الاستمرار على قيد الحياة، بهامش واسع من التفرد والتباين، عما يحيط بها على المستوى العالمي. وقد كان هذا الهامش المتاح للتفرد، يضيق شيئاً فشيئاً، مع التقدم التكنولوجي في وسائل المواصلات والاتصالات. حتى وصلنا الآن إلى عصر العولمة، والذي يضيق فيه هامش الخصوصية، لحساب هامش التوافق مع العالم ومعاييره ونظمه، سواء السياسية أو الاقتصادية، أو منظومته الثقافية والحقوقية. هكذا تتجسد مأساة الشعوب والمجتمعات، التي تُصِرُّ باسم الهوية والخصوصية، على أن تظل داخل كهفها أو قوقعتها، لتبني وهي بداخلها، تصوراتها أو هلاوسها الخاصة عن العالم، الذي تحتاج إليه، بأكثر مما يحتاج إليها.