سوريون هربوا من جحيم الحرب مرة.. ومن مصائب الإخوان مرات.. فتش عن «المعزول»

اضيف الخبر في يوم الأحد ١١ - أغسطس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً.


سوريون هربوا من جحيم الحرب مرة.. ومن مصائب الإخوان مرات.. فتش عن «المعزول»

سوريون هربوا من جحيم الحرب مرة.. ومن مصائب الإخوان مرات.. فتش عن «المعزول»

محامى حريات : 74 ألف لاجئ مسجل و19 ألفاً ينتظرون .. وترحيل 160 خلال الشهر الماضى

مقالات متعلقة :

كتب : أحمد الليثى وأحمد الشمسى الأحد 11-08-2013
 عدد من السوريين امام سفارة بلدهم فى القاهرة يحاولون انهاء اقامتهم عدد من السوريين امام سفارة بلدهم فى القاهرة يحاولون انهاء اقامتهم

قلوب مُنكسرة، عيون زائغة مُحتقنة بالدموع، 4 جدران تأوى أجساداً متهالكة تخشى على أولادها من أى سوء، عقول منهكة، وجوه شقراء سُحب منها «إكسير الحياة»، على أبواب العيد يتذكّرون كيف هربوا من جحيم بلدهم الأول سوريا، واطمأنوا فى بلدهم الثانى مصر، قبل أن ينقلب الحال؛ فلم يزعج «أبوخالد» تهدُّم متاجره هناك وعمله سائقاً يطوف مصر، ولم يخجل الدكتور «الشهبانى» من العمل على عربة خضراوات، أو تحول «أبوحمزة» من «معلم أجيال» إلى رجل دون عمل، لكن كلمات تجرح مشاعرهم وتؤرقهم يومياً، جعلتهم ينامون على مضض، ويسعون فى سبيل الرزق دوماً، ويؤخذ منهم «الباطل فى طريق العاطل».. فتش عن السياسة.

«أبوخالد» سائق التاكسى : جدعنة أولاد البلد تهون علينا «البهدلة»

على سيارة أجرة وجد «أبوخالد» ضالته، يطوف بها مصر شرقاً وغرباً، وسامته ولهجته تدلان على أصوله الدمشقية، بينما يعادل سيره فى شوارع المحروسة خبرة أبناء البلد، لذا لم يكن مستغرباً أن يناغشه أحد جيرانه: «انت أصلك من سوريا والا من شبرا».سيارته كانت الترمومتر الذى قاس به طبائع المصريين وعلاقتهم بالشوام من أقرانه، بدءاً بالترحاب، مروراً بمضايقات عدة وليس انتهاءً بمخاوف الترحيل، وسط «جدعنة» لأولاد البلد يهوّنون عليه المآسى.

عدد من السوريين امام سفارة بلدهم فى القاهرة يحاولون انهاء اقامتهم

«خد مفاتيح التاكسى.. وتوكل على الله»، كلمات قالها أحد المصريين لـ«أبوخالد» السورى، قبل أن يوافق صاحب متاجر الإلكترونيات بسوريا: «تكرم يا أستاذى»، ليبدأ عمله الجديد بين ضواحى مدينة 6 أكتوبر «من صغرى وأنا باحب أعرف أماكن جديدة»، توكل أبو الثلاثة أطفال على الخالق الرزاق، الأمور كانت هادئة، لم يضايقه أحد قط، ولكن ما إن تطورت الأمور على الساحة السياسية إلا وانعكست على الأقلية من اللاجئين السوريين.. «يا نهضة.. يا مرسى.. انت يا عم السورى أنا باكلمك انت»، بدأت المضايقات من شباب التاكسى والميكروباصات، يدخل أحدهم معه فى جدال «أنت سورى وشغال كمان.. إنتم جايين تزاحمونا فى رزقنا»، ليجيب عن سؤاله بتنهيدة عميقة «مش ربنا هو اللى بيقسم الأرزاق.. ولا إحنا البشر؟».

«الشهابى» : «المعاملة تغيرت من شهرين وبيقولولنا خلى مرسى ينفعكم»

يقول «أبوخالد»: «زلطة» صغيرة بحجم لقمة العيش، ألقاها أحد الأطفال السوريين على صديقه المصرى كنوع من أنواع اللهو بين الأطفال، والدة المصرى وبّخت السورى بشتائم «السوريين ولاد (...) يا شحاتين.. يا متسولين.. ولاد كذا وكذا وكذا»، فى كثير من الأحيان يكون المرء فى موقف لا بد فيه من أن يتحدث ويجادل، ولكن فى مثل هذه المشاجرات التزم «أبوخالد» ورفقاء الغربة الصمت، «الواحد بيكون ساعات عاوز يطلع من هدومه بس لو اتدخل هتحصل مجزرة، وإحنا فى غنى عن أى مشاكل».. استقل «أبوخالد» سيارة التاكسى ثم ذهب مسرعاً ساعياً فى طلب الرزق.

دائماً ما يوجد هناك شخص يسخّره الله صدفة لتخفيف الأعباء ورفع الحمل من على مواطن آخر، من يفعل خيراً يجده، مقولة مصرية، يجدها «أبوخالد» طالما راعى «لقمة العيش»، منكفئاً بالساعات على طارة القيادة.. «فاضى يا أسطى» قالها له أحد عساكر الأمن المركزى من أمام مسجد الحصرى، يحمل «مخلته» مستعداً للذهاب إلى المعسكر.. «أنا رايح دهشور»، كان الليل قد اقترب من انتصافه، لكن شغف «أبوخالد» بمعرفة الأماكن الجديدة كان سبباً وجيهاً فى أن يوافق على توصيله، استغرق الطريق ساعة لم يخل من الحديث المتبادل، إلا أن وجه العسكرى قد أصابته الحُمرة، سيطرت عليه علامات الخجل «معلش أنا مش معايا غير 9 جنيه فى جيبى»، نظر إليه «أبوخالد» بابتسامة حنونة: «طيب خلاص يا سيدى أنا هاخد 5 جنيه.. وانت تاخد الباقى تشترى ليك بيه أى حاجة»، أصاب العسكرى الذهول، ثم أسرف فى الدعاء للرجل السورى: «ربنا يخليك.. وييسرلك الحال.. يا راجل يا طيب»، لتُشير له إحدى الفتيات «الزمالك يا أسطى»، يوافق حتى يصل إلى وجهته فى رحلة خيّم عليها الصمت: «أنا أول مرة أركب مع سواق ومايرغيش معايا»، قالتها له الفتاة، رد عليها بلهجة شامية فعرفت أنه سورى، عداد التاكسى سجل 50 جنيهاً، أعطته ضعف أجرته «مش خسارة فيك».. من يدين بالخير يُدان بالخير.

عدد من السوريين امام سفارة بلدهم فى القاهرة يحاولون انهاء اقامتهم

داخل مستشفى مصطفى محمود، التابع لذات المسجد الذى يحمل نفس الاسم، تتجلى معاناة السوريين، فى شخصية «أبوحمزة»، معلم اللغة العربية الذى لم يجد عملاً، وجهه مكفهر وعيونه ذابلة ليس بسبب قلة طعام أو شراب، ولكن كما يصفه البعض «وشه معبى بالدموع»، جلس لأكثر من ثلاث ساعات، أراد تقريراً طبياً لإرفاقه بأوراق عمل جديد وفرصة سنحت له، لكن كيف يحصل على ما يبتغى فى ظل المعاملة الجافة من الأطباء والممرضات، لا ابتسامات، لا جدال، لا نقاش، البشاشة لا تعرف طريقها إلى ذلك المكان المحتوى بين جنباته على ملائكة الرحمة.. «تقارير إيه.. إحنا مالناش دعوة بالكلام ده»، قالها له الطبيب، حاول «أبوحمزة» مقاطعته وإفهامه، إلا أن الطبيب استمر فى حديثه «مافيش يعنى مافيش.. اتفضل عشان نشوف اللى بعدك لو سمحت»، ليعود إلى بيته قابضاً بيديه على نفس الأوراق التى خرج بها، يجرى اتصالاً هاتفياً بأحد أصدقائه المصريين «معلش مش هاقدر أشتغل.. لأن أوراقى مش كاملة»، يرمق أولاده بنظرة أسى وحزن ثم يفضّل النوم، داعياً الله بتيسير الأحوال.

محمود الشهابى : الناس ربطتنا بمرسى .. إحنا مش جايين مصر عشان النظام جايين نعيش وسط أخواتنا

أولى لحظاته فى مصر كانت قبل سبعة أشهر، يتذكرها كأنها الأمس. الدنيا سوداوية فى عينيه، بالرغم من الشمس التى أصابت بأشعتها وسهامها وجه «محمد زياد» ذاك الرجل السورى، الذى ما إن وطئت قدماه أرض القاهرة عبر مينائها الجوى؛ حتى وجد سائق التاكسى يخاطبه «انت إيه اللى جابك هناك بس يا أستاذ.. دى الدنيا خربانة.. والمصريين نفسهم مش لاقيين ياكلوا».. وقتها امتعض وجه الرجل، خصوصاً بعد أن حاول سائق التاكسى زيادة الأجرة المتفق عليها بعد قطع أكثر من نصف الطريق «كفاية إنك هتروح دار السلام يا بيه.. ده أنا لو دخلت هناك هيقطعونى حتت»، كان أمام الضيف أن يقول خيراً أو ليصمت، ففضل الصمت طويلاً حتى وصل إلى وجهته، أقبل الليل، وصل «محمد» صوب منطقته ليلاً.. «لا يا أستاذ أنا مش هاقدر أدخل تانى أكتر من كده»، وسط ضجيج كلاكسات السيارات والميكروباصات والأغانى الشعبية ترجّل الرجل الغريب من سيارة التاكسى ليطالبه سائقها: «أنا عاوز دولارات»، ليُجيبه: «والله ما معى غير دول»، ترقب مختلط بالحذر لأقدام الدمشقى وهى تحبو فى شوارع المحروسة «وقتها افتكرت كلام السواق.. هيقطّعونى قطع قطع ويسوونى كفتة».. يقولها بلهجة سورية مختلطة بنبرة حزن تناقض ابتسامته التى ارتسمت على وجهه»، ينظر بعينيه بعد حصوله على جرعة إحباط من سائق التاكسى فتقع عيناه على أحد محلات الهواتف المحمولة، يتذكر صرير إغلاق أبواب محاله بيديه بعد أن تدهور الوضع فى سوريا، قابله صاحب المحل بابتسامة وكأنها أعطته قبلة الحياة بعد الموت «جابلى كوباية شاى وكازوزة وضيّفنى»، لم يكن معه سوى رقم تليفون صديقه المصرى «أبوأشرف» الذى سيتوجه إليه للإقامة «صاحب المحل اتصل بيه.. وقال له (الأخ محمد ضيف عندى لحد لما تيجى براحتك)». أخرج المصرى شريحة الهاتف من هاتفه المحمول ثم أهداه له: «ده هدية منى ليك.. ولو احتجت أى حاجة.. اعتبرنى أخوك».

ميساء كبيسى

يجلس متخذاً وضع القرفصاء فى تلك الشقة الصغيرة التى يعيش فيها هو وأطفاله الثلاثة، ينفث «أبوخالد آخر» سيارته محلية الصنع فى الهواء، العيد على الأبواب، بعد معركة شاقة مع الصيام.. «بابا.. بابا.. زمايلى المصريين بيتريقوا عليا عشان هما جابوا لبس العيد وأنا لأ»، يقولها الطفل «خالد» صاحب الـ11 عاماً وهو يجرى نحو والده الذى يجيبه فى دبلوماسية: «رد عليهم إن إحنا من عاداتنا مانجيبش لبس العيد غير فى يوم العيد».

حالة من الهرج والمرج انتابت الشارع الهادئ الذى يعيش فيه «أبوخالد»، ينظر من نافذته فيجد أن هناك من يوزع ملابس على الأطفال السوريين، يكتفى بالنظر، حتى يدخل عليه أحد المتبرّعين «مش محتاج حاجة» يرد عليه صاحب البيت فى خجل «لا شكراً»، ليستمر الضيف فى سؤاله «عندك كام طفل»، يعلم أنهم طفلان وطفلة، يوزع عليهم ملابس العيد، تهللت أسارير «أبوخالد» لكنها لم تستمر كثيراً لشعوره بغصة ضيق فى صدره «لما بناخد فلوس فى شكل صدقة وإحسان، النخوة تحكم».

زحام شديد، وحالة غضب عامة، انتظار للفرج، وعيون تتمنى أن يتوقف الزمن عند تلك اللحظة، ساعة من الزمن هى ما تبقى على غلق أبواب السفارة السورية الكائنة بحى جاردن سيتى الراقى، فى الوقت الذى لا يزال فيه نحو 200 شخص لم يُصبهم الدور، بينما أصابتهم الحسرة وفقدان الأمل.

أيام تلتها أخرى لم تغيّر من حال «محمد خميس» أمام أبواب المكان، لذا كان قراره بالمبيت أمام السفارة حتمياً، فى محاولة يائسة لإنهاء أوراق إقامته، بعيون حزينة ورأس منكس جلس شاخصاً بصره تجاه ذلك الطائر مرفوع الهامة المرسوم على شعار الدولة السورية، القابع على جدران مبنى سفارة بلاده، يُخرج الشاب العشرينى زفرة قبل أن يقول بلهجة مصرية تخالطها الشامية «كيف يكون فيه شباك واحد لكل الأعداد دى؟».. «خميس» حضر إلى القاهرة نهاية عام 2011 راغباً فى افتتاح مشروع لبيع الحلويات السورية وقتها كانت معاملة المصريين له فى غاية التحضّر، حسب وصفه، يحكى «محمد» بمرارة عن ذلك اليوم الذى استجوبه فيه أحد ضباط الشرطة هو وأقرانه السوريين بطريقة غير لائقة «حسيت إننا عبيد.. طبيعى تكون أوراقنا فيها مشاكل لأن أغلبنا هاربين ومش معانا كل الأوراق»، الشاب الذى سافر مرات لدول جوار غير مصر على رأسها «لبنان وإيران» قُبيل ثورة سوريا يشهد أن أهل القاهرة أصحاب قلوب طيبة، لم ينجُ «خميس» من الانفلات الأمنى الذى عانت منه مصر طوال العامين الماضيين؛ فقد تعرّض لحادثة «تثبيت» أكثر من مرة وعلى طرق مختلفة، غير أنه لا يبالى بما سماه «عوارض المرحلة»، راسماً على وجهه ابتسامة صافية فيما لا تزال سيرة «مشاويره» بين السفارة ومصلحة الجوازات والهجرة ومفوضية اللاجئين كفيلة باحتلال العبوس ملامح وجهه الذى تمكنت الشمس منه خلال أيام خلت، دون جدوى.

كل نصف ساعة يخرج أحدهم من الطابور بعيون لامعة وملابس أغرقها العرق وأوراق مترامية على ذراعيه، وبسمة محبوسة لنحو 6 ساعات كاملة، على حين يتخلل الإحباط مشاعر آخرين تم رفض طلبهم تجديد الإقامة أو الموافقة على التصديق على عقد عمل.

على حجرين صغيرين كان «شهاب مايادى» مستقراً فى الجهة المقابلة لأبواب السفارة، ممسكاً بورقة لتوكيل سيارة، كانت الساعة تشير إلى الثالثة عصراً، وقد حضر هو فى تمام السادسة صباحاً، قميصه الأبيض أخذ فى التحوّل إلى لون آخر، فيما يسيطر على كلماته نوع من الهدوء النسبى على غير حال أولاد بلده: «أنا مشكلتى ما هى كبيرة.. الأزمة عند اللى ممكن يترحلوا هالحين»، يعتبر «شهاب» نفسه فى مأمن، فإقامته سارية حتى شهرين كاملين، لكنه يستنكر قِصر مدة الإقامة التى تُجدد كل ستة أشهر «السفارة بتخيرنا نرجع سوريا تانى أو نروح تركيا.. ومش كل الناس عارفة تسوى أوضاعها»، يتذكر «شهاب» أياماً رغدة فى سوريا، حيث كان مالكاً لمتاجر ملابس حريمى، بينما لم يجد حظه فى القاهرة حتى الآن رغم قدومه قبل أربعة أشهر كاملة، تتغير ملامح الشاب الذى يسكن حى النزهة الجديدة حين تحل سيرة السياسة «منها لله هى اللى خلت أوضاعنا تتلخبط»، يلوم الشاب السورى على بعض من شاركوا فى مظاهرات تأييد للدكتور مرسى: «إحنا جايين نعيش مع المصريين، مالناش دعوة بالحكم».

حالة من التركيز هيمنت على وجه «إسلام خليفة» المحامى بمركز الحقانية للحريات، وهو يشرح التطور السريع فى معاملة الحكومة للاجئين السوريين، مؤكداً أن هناك من 30 إلى 40 سورياً يتم ترحيلهم أسبوعيا، خلال الشهر الأخير، سارداً بقية التجاوزات: «التحقيق معاهم من قِبل ضباط شرطة، لا أمام وكلاء نيابة كما هو متبع»، مشيراً إلى قرار وزير الداخلية الذى صدر قبل شهر بعدم السماح لدخول سوريين إلى الأراضى المصرية دون تأشيرة، رغم مرورهم بالبطاقة فقط فى فترات سابقة، حسب خليفة، ويعتبر المحامى الحقوقى أن هناك نوعاً من التعنّت يمارس قِبل السوريين مؤخراً: «كل السفارات فى سوريا أعمالها متوقفة ومعظم الناس هربانين يبقى السؤال عن الأوراق تعجيز».

74 ألف لاجئ مسجلون فى مكتب المفوضية بمصر و19 ألفاً آخرون فى انتظار دورهم فى التسجيل، يحاول «خليفة» والعديد من المحامين الحقوقيين المحافظة على حقوقهم كلاجئين «اتفاقية جنيف بتنص على التعامل مع اللاجئين زى أبناء البلد دون تمييز.. ماينفعش نرفض من شهر دخول طيارة سورية بالكامل»، ويحلل «خليفة» التغيير الطارئ على سلوك المصريين قِبل «إخوانهم» بسبب الإعلام: «الناس بقى فى دماغها إن السورى خد رزقها ورفع الإيجار، وفى الآخر عايز يدمر بلده ويتظاهر ضد الجيش.. لازم نوعى المواطن بدل الضغط عليهم سلبياً».

«فاضى يا أسطى» قالها له أحد الرجال الذى تجاوز عمره الخمسين عاماً، رحلة استغرقت 15 دقيقة، يحكى عنها «أبوخالد»، بدأت بالابتسامات، ثم انتهت بجدال كلامى وقت أن سأله الراكب بجدية «مادام انت سورى.. ماتشوفلى واحدة سورية أتجوزها»، هذا أكثر ما يثير استياءه خلال عمله: «مستحيل بنات من المدينة يتزوجوا، لأنهم مثل العرب، والهوارة لا يتزوجون إلا من أقربائهم.. ده غير إن الواحد بيحس إن بناتنا وستاتنا سبايا وعبيد.. وده مايصحش».

ما بين وقت وآخر تحاول «ميساء كبيسى» البحث عن عمل لها فى مصر: «ماكملتش دراستى الجامعية، معايا شهادة البكالوريا من سوريا، حاولت أشتغل هنا لكنى فشلت»، ما بين رشفة ورشفة من فنجان القهوة الموضوع أمامها تتذكر الواقع المرير المسكوت عنه فى بلاد الشام، الذى انقطعت صلتها عنه اللهم سوى من قبر والديها اللذين رحلا عن الأسرة مبكراً: «فى يوم الشبيحة دخلوا منطقة اسمها العدوية فى حمص، ماسكين فى إيديهم السكاكين، وظلوا يذبحوا الشباب والأطفال».. السحب امتلأت إيذاناً بسقوط الأمطار، التى سالت فى شوارع المدينة التى اكتسبت اللون الأحمر بفعل دماء ضحايا الشبيحة: «الأمطار غسلت جثث المصابين، كانت الحوارى كلها غرقانة بالدم»، تعود الشابة التى كانت تعمل «كاشير» فى أحد المطاعم قبل أن تتركه بسبب مضايقات الشباب لها بسبب جنسيتها، فتتذكر واقعها الأمرّ على أرض المحروسة: «خدونا عاطل على باطل فى الأزمة السياسية بتاعة مرسى.. وإحنا فينا اللى مكفينا.. مش جايين نتظاهر.. عاوزين نعيش بأمان وخلاص».

شفاهها مُغلقة، لا تدخل حلقها لُقمة واحدة، تخطو على مهل، سلالم منزلها بمدينة 6 أكتوبر، تستعمل يديها الرقيقتين الضعيفتين فى الطرق على أبواب جيرانها، تسأل فى خفوت «ها.. كلتوا يا أولاد ولا لسه؟»، هذا هو حال السيدة «أم مهدى» المصرية منذ أكثر من سنتين، يحكى عنها «أبوخالد» بشغف وحب: «لازم تطمن علينا وعلى أولادنا فى الطالعة والنازلة»، سيدة لم تربطها من قبل علاقة بجيرانها، ولكنها فقط تعطف عليهم بالكلمة الطيبة «هوه ده حق الجيرة اللى كان بيتكلم عنه النبى محمد».

لم يفرق معه استبدال دخول معامل طلاء المعادن، بجر عربة الخضراوات، ولا كنيته التى صارت «بياع فى سوق» بديلاً عن «دكتور»، ولم يكن يركز يوماً فى طبيعة ملابسه بين بالطو أبيض ناصع المظهر وملابس شبه مهترئة، حتى تركه لبلاده هوّن عليه وجوده فى بلده الثانى «كما يقولون»، لكن الرياح لا تأتى دوماً بما تشتهى السفن؛ فمنذ أن قدم محمود الشهابى من سوريا هارباً من جحيم صواريخ لا تفرّق بين طفل وكهل، مستقراً فى مدينة السادس من أكتوبر لم يجد سوى طيب المعاملة، لكن الأحوال بدأت فى الانقلاب قبل حوالى شهرين، حين وقف خريج كلية العلوم يتابع بعيون ذاهلة ابنه الأصغر يُسب بأقذع الشتائم مذيلة بعبارة «خلى مرسى ينفعكم»، لم يستطع ذهنه تمرير الكلمات حينها، لكن الواقع كان كفيلاً بتثبيتها على الأرض «إحنا مالنا ومال السياسة»، بعيون يملأها الانكسار يقف «محمود» وسط سوق الخضار يحاول أن يتحصّل على بضع لقيمات يقمن صلب عائلته الصغيرة، محاولاً نسيان ماضٍ دمرته السياسة وألاعيبها، فيما تزيده الأيام اختناقاً بعد التحول الملحوظ فى تعامل المصريين مع السوريين مؤخراً، مستشهداً بتلك الواقعة التى جرت لجاره قبل أيام حين جُرّد من ملابسه وتم طعنه بالمطاوى فى نهر الطريق لمجرد أنه سورى «ماعرفش مين دخّل فى دماغ الناس إننا أشرار.. ومين السبب فى تغيير المعاملة بالحسنى.. بس للأمانة فيه مصريين كتير لسه قلوبهم صافية».

أوراق الإقامة قاربت على انتهاء تاريخها، وكما يتصرف بقية السوريين، تصرف «أبوخالد»، ذهب صوب قسم الجوازات بمدينة 6 أكتوبر، وجد طابورين، الأول للمصريين والثانى للسوريين.. سباب ولعان فى وضح النهار، فى مواعيد العمل الرسمية، تعطيل للمصالح، تمييز، لم يعجب المواطن السورى الحال، فالموظف المسئول عن إنهاء أوراقه يُعمّم التجربة ويتحدث بمنطق الحاكم بأمر الله، لا أحد يناقشه: «وقتها اتعصبت كتير واتحرق دمى.. لكن لقيت ناس سوريين بيكلمونى ويهدونى عشان نخلص مصالحنا ونمشى على خير»، ليلتزم الصمت، يخرج من الطابور فيُحادث صديقه أمين الشرطة يحكى له الوضع، لينصحه الأخير «روح ولو زود معاك فى الكلام.. قوله هاشتكيك لرئيسك العميد فُلان الفُلانى»، عاد «أبوخالد» إلى الصف مرة أخرى، كان فى انتظار أن يبدأ بالتلاسن معه فى الحديث، فبدأ أخيراً، انفجر فيه «أبوخالد» غاضباً حاملاً دم الدمشقى الحامى: «أكتر حاجة ضايقتنى لما لقيته بيعامل ستات مصريات بشكل غير لائق، فى الوقت اللى رحّب فيه ببنتين من سوريا وكل ده لأنهم حاطين أحمر شفايف»، هدده «أبوخالد»: «على فكرة الثورة قامت على أمثالكم».

علم الرجل الأربعينى من صديقه أمين الشرطة أن والد الموظف الشاب هو أحد أعضاء الحزب الوطنى المنحل البارزين، تقهقر «الموظف» إلى الخلف وعاد بكرسيه إلى الوراء، مرتجفاً بعد سماعه أنه لو استمر فى عجرفته سيُعلم رئيسه فى العمل كل ما يحدث «من وقتها ولحد النهارده.. تعامله مع الناس اتغير.. المشكلة إن إحنا، سواء المصرى أو السورى، بنقبل على نفسنا الإهانة.. مع إننا ممكن نتكلم وناخد حقنا».

اجمالي القراءات 2170
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق




مقالات من الارشيف
more