عبدالوهاب سنان النواري Ýí 2018-11-04
قائمة المحتويات:
الموضوع الصفحة
1- الآية الكريمة 9
2- القصيدة 11
3- الإهداء 13
4- الشكر والتقدير 15
5- تقديم 17
6- المقدمة 21
7- مدخل 29
8- الفصل الأول - تقرير أهم الحقائق: 35
9- ازدواجية المفاهيم 37
10- ازدواجية الوحي 40
11- الدين والتدين 43
12- ازدواجية العقائد والأديان 47
13- إصلاح ملة إبراهيم 51
14- الفصل الثاني- لمحة تاريخية: 55
15- المعترك السياسي للصحابة 57
16- الفتوحات الاستعمارية والحروب الأهلية 59
17- الانفتاح الثقافي والحضاري 61
18- الفصل الثالث- عظمة القرآن الكريم: 65
19- القرآن الكريم مقارنة بغيره 67
20- القرآن الكريم فيه الكفاية 70
21- القرآن الكريم حقائقه مُطلقة 71
22- القرآن الكريم هو الحديث الإلهي 73
23- ذكر الله تعالى بالقرآن وحده 75
24- القرآن الكريم بيانه فيه 76
25- الفصل الرابع- مطاعن التراثيين في القرآن الكريم
والرد عليها: 79
26- المعاجزة في آيات الله تعالى 81
27- معرفة أهل مكة بالصلاة 84
28- القرآن الكريم هو الذكر 86
29- القرآن الكريم هو الحكمة 88
30- الفصل الخامس- النبوة والرسالة: 91
31- النبي 93
32- الرسول 97
33- مداهنة المشركين للنبي / الرسول 100
34- الاحتكام للرسول / النبي 103
35- الفصل السادس- تفنيد أخطر الشُبه المتعلقة
بالرسول والرسالة: 105
36- السُنة 107
37- الاسوة 109
38- طاعة الرسول / النبي 111
39- وما آتاكم الرسول فخذوه 114
40- الفصل السابع - التشريع الإسلامي وحدود الاجتهاد: 117
41- دور الأنبياء والرسل ومسئولية الناس 119
42- كلمة (قُل) 121
43- حدود الاجتهاد في شرع الله تعالى 124
44- درجات التشريع الإسلامي 129
45- مبادئ الإسلام السبعة 132
46- الفصل الثامن- طبيعة القرآن الكريم: 135
47- القرآن الكريم كتاب هداية 137
48- أساليب الخطاب القرآني 139
49- مستلزمات فهم القرآن الكريم 141
50- الخاتمة 143
51- ملحق (١) : التبيان القرآني 147
52- ملحق (٢) : تجارب قرآنية 157
53- المصادر والمراجع 163
الآية الكريمة
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾
القصيدة
العودة إلى القرآن
أمتي عودي إلى القرآن هيا .. وأرفضي إفكـــــاً وطاغوتاً وغيّـــــــــــــا
جسدي في الأرض آيات السماء .. كي يعيش الناس عدلاً سرمديـــــــــــــا
ولتنيري كـــــــــــل دربٍ بالهــدى .. أسقطي من عاث في الأرض شقيا
وبحبل اللــــــه فلتعتصمِي .. فبــــه نحيا نعيماً أبديـــــــا
جنة الخلد التي يورثهــــا .. من عباد اللـــــه من كان تقيا
في كتاب اللــــه لا في غيره .. كل ما نحتاجه يبدو جليـــا
فهو نورٌ وشفاءٌ جـــامعٌ .. وبيانٌ يكشف السر الخفيــا
إنه القــــــرآن مرقاة الُعلا .. فاتبعي يا أمتي النهج السويــــا
منهجـــــــــاً للعالمين أنزله .. ليلة القدر كتاباً عربيـــــــا
أحكمت آياتــــه بل فُصلت .. جاء نوراً وبياناً عالميــــــا
إنه النعمـــــة حقاً، فاشكروا .. نعمة اللــــه صباحاً وعشيا
الإهداء
﴿لكل باحث عن الحق﴾
الشكر والتقدير
﴿لكل من كان سبباً في الهداية، وعوناً وسنداً في الدعوة والجهاد﴾
التقديم:
أحمد صبحي منصور في الثلاثاء 13 نوفمبر 2018م
أولاً:
1- تأتيني أبحاث من بعض الكاتبين في موقع أهل القرآن ومن غيرهم يطلبون مراجعتها وتقييمها، وأعتذر متعللاً بضيق الوقت وقلة الجهد، وهو عذر صحيح، ولكن العذر الأكبر هو أنني أخشى أن يصيبني الغمُّ مما اقرأ، فالكثير ما ينشره بعض الأحبة لا يتفق مع ما أتمناه. بل إن بعضهم يأتي الينا رشيق العلم بالقرآن وقليل الحظ بأدوات الاجتهاد، ولكن يظن نفسه المهدي المنتظر الذي يهبط علينا ليعلمنا ما نجهل. ولا يكتفي أن نتحمل شططه بل يرسل الينا أبحاثه لنتفرغ لقراءتها لعلنا - في نظره - نتعلم.
2- قليل من كاتبي أهل القرآن الذين اسعد بقراءة مقالاتهم وأبحاثهم، ومنهم ابني الحبيب الأستاذ عبد الوهاب سنان النواري، وعندما يختلف مع بعض اجتهاداتي أشعر بالسعادة إذ أننا لسنا طريقة صوفية تتكون من شيخ ومريدين، ولسنا طائفة شيعية أو سنية بإمام وأتباع راقصين. نحن تيار فكري يجتهد، عقول تجتهد وتعترف بحاجة اجتهادها إلى المراجعة والنقد والتصحيح.
3- قد يكون كاتب هذه السطور الأكبر سناً والأكبر خبرة ومعاناة بحثية، ولكن هذا لا يعطيه حصانة من النقد، بل هو في أمسّ الحاجة إلى النقد. حقيقة الأمر أنني منذ بدأت هذا الطريق مدرساً مساعداً في جامعة الأزهر 1975م، وأنا أقوم بتنظيف عقلي من وساخات الأزهر وتراثه، وأنا هنا أقتبس مقالة الإمام محمد عبده الذي قال في أواخر حياته أنه لا يزال ينظف عقله من وساخات الأزهر. ومات في الخامسة والخمسين عام 1905م، وبدأت من عام 1975م أبني على ما أسسه من اجتهاده، أعرض عقلي وموروثاته على القرآن الكريم أنظفه من تراث تفوقت فيه وكنت أعتقده حقاً، ومن يقرأ مؤلفاتي الأولى والراهنة يجد اختلافات، رأيت أن أترك تلك المؤلفات القديمة بحالها لتؤكد التطور الفكري، وللتأكيد على أننا لسنا أنبياء يأتينا الوحي، بل نحن مجتهدون نسعى إلى تنقية عقولنا من هجص ديني لصق بعقولنا على أنه الإسلام.
4- وكان أملي - ولا يزال - أن يتعلم أبنائي مما أنشر في موقعنا، ليس فقط المكتوب ولكن القابلية للتصحيح والاعتراف بالخطأ، فمن أهم سمات الباحث أنه باحث عن الحق القرآني والصواب، وهو مهتم بتصحيح عقله وقلبه. وقليل من أبنائي من أجد فيه هذا الاستعداد، ومنهم ابني الأستاذ عبد الوهاب سنان النواري. لذلك سعدت حين طلب مني أن أكتب تقديم كتابه هذا.
ثانياً:
1- وقرأت كتابه فازدادت سعادتي، لأسباب:
2 ـ عبد الوهاب سنان النواري ليس مجرد باحث يتمتع بأدوات الاجتهاد بل هو أيضاً مناضل جريء ويتصف بصفات القادة، ولا يخشى أن يجهر برأيه مواجهاً جحافل البغي الوهابي والشيعي والصوفي.
3 ـ أدعو الله جل وعلا أن يحفظه ليكمل مع بقية الأحبة من أعمدة أهل القرآن مسيرة الاصلاح القرآني.
4 ـ والله جل وعلا هو المستعان .([1])
الدكتور/ أحمد صبحى منصور
فيرجينيا - الولايات المتحدة
المقدمة:
ضيق المسلمون رحاب القرآن العظيم، وقيدوه بجملة أفكار بشرية استعصمت بالأحاديث تلتمس منها مرجعيتها وثباتها لتغدو تأطيراً لكتاب الله جل وعلا، بحيث لم تترك لقارئه فسحة لاستلهام الأصل لا الفرع، فعطلت ملكاته التي يجب أن تتفاعل مع النص القرآني بعيداً عن كل تأطير وتأثير. وحينما نؤسس فكرنا الإسلامي على معايير تاريخية ظنية مادتها العاطفة والعصبية، فإننا بذلك نضع حاجزاً بيننا وبين حقيقة الدلالات التي يحملها النص القرآني، ونوقف التاريخ عند عتبة النتاج الفكري لعصر إنتاج تلك المعايير التاريخية.
ومن هنا يصبح ذلك التراث مقدساً كالقرآن المجيد, أو على الأصح بدرجة تزيد عليه، لأنه إذا تعارضت آية قرآنية مع إحدى مقولات التراث, فإن الانتصار يكون لأحاديث التراث ومقولاته, وطالما تتمتع تلك المقولات بقداسة تفوق قداسة القرآن العظيم، وطالما توفر غطاءً تشريعياً للجرائم والموبقات, فإن دماء المسلمين ستظل تسيل أنهاراً, لأن تراث الأمة يؤكد استحلال دماء وأموال المخالف, بفتاوى وأحاديث وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان.
وبهذا نعرف أساس الأزمة, ونعرف أيضاً أساس الحل: أساس الأزمة هو تلك المرويات التي تخالف القرآن الكريم. وأساس الحل هو الاحتكام للقرآن الكريم لا غير, امتثالاً لقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا (114)}[الأنعام]. والدليل على هذا هو ما ستقرءونه في هذه الدراسة التي تُبرئ الإسلام من كل الأوزار التي التصقت به.
معظم مقولات التراث غير صحيحة في نسبتها لخاتم النبيين, ولا أصل لها في الإسلام أو العقل أو المنهج العلمي, لذلك فقد كان الرد عليها سهلاً للغاية, الأمر الذي جعلها تزول من العقول التي كانت تتهيب الخوض في هذا الموضوع الحساس، إلا أن هذا لا يمنع استمرار تلك الأكاذيب في وجدان وقلوب أكثر الناس؛ لأنه قامت عليها دول ومصالح وأرزاق ومعاهد وجامعات, وأجيال من علماء السلطان وشيوخ الشيطان, ممن يرتزقون بالخرافة ويجعلون الدين حرفة؛ لذا صعبوا الدين على الآخرين وجعلوه مطلسماً, وادعوا أن مفاتيحه بأيديهم هم فقط؛ ليضمنوا لأنفسهم الجاه والسلطان على قطعان البشر الخاضعة لهم, هذا مع أن الله جل وعلا يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}[القمر].
هذا الكتاب بين أيديكم يقدم لكم حجة ناصعة لا يبقى معها عذر بالجهل, وبعد قراءته ستتضح الحقائق ويزول الجهل, ويبقى اتخاذ القرار عن عمد وعن علم: إمّا بالتبرؤ من كل تلك الأكاذيب نصرة لله تعالى ولرسوله، وإمّا بنصرة أئمة الحديث والمذاهب في ظلمهم لله تعالى ولرسوله. كل منا حر فيما يعتقد, وسيكون مساءلاً أمام الله تعالى يوم القيامة عما اختاره لنفسه، وسيلقى الجزاء بالخلود في الجنة أو الجحيم؛ وخوفاً من ذلك اليوم فإننا ندعوكم لأن تخلوا بأنفسكم ساعة لتفكروا فيما أوردنا في هذا الكتاب, سائلين الله تعالى بإخلاص أن يهديكم إلى الصراط المستقيم, تاركين خلفكم كل هوى قديم؛ إن أعمارنا محدودة والأيام تسير بنا نحو الأجل, والموت يتربص, ولا ندري متى سينشب فينا أظفاره، ولابد أن يحسم كل منا رأيه في هذه القضية .. حتى يكون مستعداً للقاء الله جل وعلا.
ندعوكم لهذا لأن معظم الناس يتمسكون بكتب تكتسب لديهم قداسة عالية, بحيث يضعونها في نفس مستوى القرآن العظيم, والبعض يعتقد أنه يكفيهم أن يتمسكوا بالقرآن الكريم، على أنه لا يضرهم أن يؤمنوا بكتب أخرى كتبها بشر مثلهم ونسبوها للنبي. ولو تدبر الناس كلام الله جل وعلا, لتأكدوا أن القرآن الحكيم هو الكتاب الوحيد الذي ينبغي أن يتمسك به المسلم دون غيره, وأن القرآن الحكيم ليس محتاجاً لتلك الكتب البشرية؛ فالقرآن نزل تبياناً لكل شيء, وجاءت به تفصيلات كل شيء يحتاج إلى التبيين والتفصيل.
نحن نؤمن بأن الفطرة الانسانية لدى كل إنسان عاقل تنبض في قلبه بالحق: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (30)}[الروم].وإذا حدث وتراكمت على هذه الفطرة موروثات تخالف الحق, فإن آيات القرآن الحميد كفيلة بتنقية تلك الفطرة لتعود إلى صفائها الأول؛ فهمنا ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)}[يونس] . وعليه فإننا ندعوكم أيها الأعزاء: لتتصفحوا معنا كتاب الله العزيز, لنتدبر آياته العزيزة, طالبين الهداية لنا ولجميع الخلائق.
ومنهجنا الذي نسير عليه: هو الاجتهاد بالتعامل المباشر مع القرآن العظيم بعد دراسة متعمقة للتراث - بكل محاسنه ومساوئه وتناقضاته - ثم ندع الحقائق القرآنية تتحدث من خلال الموضوع الذي نتناوله, وكل ما نفعله: هو أننا نختار عنواناً ينطق بمدلول الحقيقة القرآنية, ثم نستعين بالآيات يؤيد بعضها بعضاً. وهكذا فقد شجعت كتاباتنا آخرين على متابعة ما نكتب، وأوضحت للعقلاء أن الهجوم على السلفيين (سنة وشيعة وصوفية) ليس هجوماً على الإسلام, بل هو تبرئة للإسلام من تخلف السلفية وتزمتها وتعصبها وتطرفها, ويكفينا فخراً أننا أزلنا القداسة عن تراث الأمة البشري، وأوضحنا عوره وتناقضه مع القرآن الكريم.
لسنا حزباً سياسياً أو جماعة مسلحة أو طائفة أو مذهب أو نحلة أو فئة أو سلالة، نحن مجرد تيار فكري إسلامي يعمل على إصلاح المسلمين سلمياً بالاحتكام إلى كتاب الله جل وعلا، نعرض عقائدنا وتراثنا عليه تلبية لأوامر رب العزة بالاحتكام إلى القرآن الكريم. نلتزم بأسس الدعوة في القرآن الكريم, أي أننا نجهر بالحق ونصدع به مع الإعراض عن الخصوم, بل ونحاول ما أمكننا أن نصفح ونغفر ونتحمّل. نقول الحق كاملاً ولا تأخذنا في الحق لومة لائم؛ وليس في منهجنا دعوة أو فترة سرية, فنحن لسنا إرهابيين أو مجرمين, وليس لدينا ما نخاف من كشفه.
ونحن لا نؤلف من خيالنا تاريخاً للصحابة والمسلمين, بل من عمدة مصادر التاريخ الإسلامي, لا نفرض أمانينا على التاريخ المكتوب, ونلتزم ببحثه موضوعياً, وبمنهجية صارمة باردة بلا تقديس لبشر أو انحياز لشخص على حساب آخر, فجميعهم عندنا سواء .. مجرد شخصيات تاريخية.
ليس في مسيرتنا القرآنية كهنوت, لذا فليس من حقنا أن نقيد رأي أحد, أو أن نفرض دعوتنا أو منهجنا على أحد, فلكل إنسان أن يكتب وينشر آراءه واقتناعاته بكل حرية, وليس لنا إلا مناقشتها ونقدها؛ يكفي أن نقول رأينا مستدلين بالقرآن الكريم مستشهدين به محتكمين إليه, ثم بعدها نقول للناس: (اعملوا على مكانتكم إنا عاملون). وطالما أنهم لا يعتدون علينا, ولم يخرجونا من ديارنا, ولم يمارسوا علينا الإكراه في الدين؛ فعلينا أن نعاملهم بالبر والقسط. ونحن بهذا لا نطلب جاهاً ولا أجراً على الدعوة من أحد، هو مجرد الإصلاح السلمي بالقرآن الحكيم, ابتغاء مرضاة الله جل وعلا, واعتماداً وتوكلاً عليه؛ وليتذكر المخالف لنا: أن غيرنا يكتب ليؤجج الفتنة وإراقة الدماء, أما نحن فنكتب لإنقاذ الأمة منها.
وبالنسبة لمن يريدون أن يركبوا ظهورنا باسم الإسلام, ويضعون في شعاراتهم أن القرآن دستورهم أو أن مسيرتهم قرآنية, فإن من حقنا أن نناقشهم, وأن نفند مزاعمهم، لنرى أين هم من شعاراتهم؟ وأين القرآن الحكيم منهم؟ رغم أنهم يرفضون الحوار معنا, ويتعاملون معنا بالتجاهل وبالاتهامات والتجريح؛ فتنطلق منهم علينا اتهامات بـــ الكفر والزندقة والخيانة والعمالة،تمهيداً لاعتقالنا أو تصفيتنا.
وكنت أتعجب من قسوة تلك الحملات علينا ونحن قليل ضعاف ! وكنت أسأل نفسي: هل تم حلّ كل مشكلات الأمة بحيث لم تبق إلا مشكلة وحيدة هي نحن ؟! وهل ما ندعو إليه من حوار وإصلاح سلمي بالاحتكام إلى القرآن العظيم جريمة عظمى تستحق كل هذا العقاب, بحيث يتحالف الجميع ضدنا ؟! ولماذا ينسى الجميع خلافاتهم وذكريات صراعهم, ويقبلون التحالف ضدنا ونحن لا حول ولنا ولا قوة ؟!.
هي أسئلة بريئة ومعروف اجابتها: فنحن أكبر خطر على كل المتلاعبين بالدين, نحن بدعوتنا البسيطة بالاحتكام للقرآن المبين نهدد طموحهم، وننبه المخدوعين إلى ذلك التناقض الهائل بين الإسلام وتراث وواقع الأمة؛ وبالتالي فنجاحنا يعني تدمير طموحهم، والقضاء علينا يزيح من أمامهم عقبة عاتية تمنعهم من الوصول إلى السلطة أو الحفاظ عليها؛ لم يدركوا أن التجربة الانسانية تؤكد: (أن اضطهاد الفكر هو السبيل الأمثل لكي ينتشر ذلك الفكر ويسود, طالما يواجه العنف بديلا عن النقاش). وصدق الله القائل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}[الحج] .
قد يتفاجأ القارئ بما يقرأه في الصفحات الأولى من هذا الكتاب، وطبيعي أن تتقافز إلى رأسه عشرات الأسئلة والاعتراضات, والتي سيجد الاجابات عنها - إن شاء الله تعالى - في باقي الصفحات, لذا نرجو قراءتها جميعاً، حتى تتضح الرؤيا وتتم الحجة لنا وعلينا. ليس ذنبنا أن التعليم في بلادنا فاسد, وأن الشيوخ جهلة, وأن العوام صم بكم عمي فهم لا يعقلون, وأنهم يتعلمون تقديس الخرافة من المساجد والمدارس وقنوات التليفزيون وغيرها.
الدراسة جهد بشري غير معصوم من الخطأ، قابلة للنقاش وخاضعة للتعديل - حذفاً وإضافة - بما يظهر لنا من أدلة وبراهين, وعلى من يختلف معنا أن يرد علينا بالحجة لنستفيد منه .. والله سبحانه من وراء القصد.
أ/ عبدالوهاب سنان النواري
8 أكتوبر 2018م
المدخل:
تنقسم الأمة بشكل عام إلى قسمين رئيسيين: قائل يقول: (سنتي). وقائل يقول: (عترتي). ثم هم طوائف ومذاهب مختلفة داخل كل طائفة وكل مذهب جماعات مختلفة, كل جماعة تدعي أنها الحق وأنها الناجية وما عداها باطل هالك؛ وعن هذه الحالة المتردية يقول سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونٍ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)} [المؤمنون]. أي دعهم مغمورين في تعصبهم لأحزابهم ومذاهبهم وكتبهم التي يفرحون بها, فالكل يعتبر كتبه صحاح وما عداها زور وبهتان.
العجيب أن هذه الجماعة تقول: قال ﴿صلى الله عليه وسلم﴾. وثانية تقول: قال ﴿صلى الله عليه وآله وسلم﴾. وثالثة تقول: روي عنه ﴿صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم﴾. وهكذا إلى مالا نهاية؛ لكن الله جل وعلا يبرئ نبيه الكريم من أولئك الذين يتشدقون في الدين باسم النبي, وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}[الأنعام].بل إن الله يعتبرهم مشركين, ونهانا أن نكون منهم, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}[الروم].
وقد سطّر القرآن الكريم براءة الرسول منهم, وشكواه يوم القيامة لرب العالمين بقوله: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان].والملاحظ أن الرسول لم يقل: (يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن وعترتي مهجورين). ولم يقل: (يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن وسنتي مهجورين). فالرسول نفسه ما كان إلا متبعاً للوحي القرآني, ينذر ويذكر ويبشر ويجاهد بالقرآن الكريم لا غير؛ وفي ذلك يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ (45)}[الأنبياء] .. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (9)}[الأحقاف] .. {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ (19)}[الأنعام] .. {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ (45)}[ق] .. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ (97)}[مريم] .. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)}[الفرقان].
القضية إذاً واضحة لا تقبل الجدل, وهي اتباع القرآن العظيم دون غيره, وفي ذلك يقول سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}[الأعراف]. فاتخاذ كتب أخرى مع القرآن الكريم, والتعصب لمن كتبها, معناه وضعهم في موضع المقارنة بالله جل وعلا, أي اتخاذ أولياء مع الله تعالى. وقوله تعالى: ﴿قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ يوضح حقيقة إنسانية ثابتة: وهي أن أكثر البشر يتبعون الأهواء والضلالات.
فمن عادات البشر السيئة أنهم قليلاً ما يؤمنون وقليلاً ما يتذكرون, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)}[الحاقة].والمغفلون يتحججون دائماً: بأن أكثر الناس - قديماً وحديثاً - لا يعترفون بالقرآن العظيم إلا ومعه كتب بشرية أخرى؛ تكمله وتشرحه وتفصّله حسب زعمهم. ويردّ عليهم رب العزة بأن الأغلبية دائماً ضالة مُضِلّة, ولو اتبعها النبي نفسه لأضلته عن سبيله جل شأنه، جاء ذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (116)}[الأنعام].
أوصانا الحكيم الخبير باتباع القرآن الكريم حبله وصراطه المستقيم, ونهانا عن اتباع غيره حتى لا نقع في التفرق والاختلاف، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (103)}[آل عمران] .. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}[آل عمران] .. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام].
ولكن حدث ما حذر منه سبحانه, فاخترع الناس أحاديث وروايات, ونسبوها للنبي, واختلفوا في أسانيدها، وقام ما يسمى (علم الحديث) بتنقيح تلك الروايات والأسانيد وفقاً لأهواء المنقحين وبما يتناسب مع مصالحهم. وقوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ أي لا تتبعوا الطرق, ومن إعجاز التعبير القرآني أن علماء الحديث يقيمون تلك الأسانيد والروايات على سلاسل وطرق, فيقولون: (هذا الحديث من السلسلة الفلانية, وتلك الرواية جاءت عن طريق فلان). أي أنهم حين تنكبوا الصراط المستقيم ونبذوه وراء ظهورهم, وقعوا في اتباع السبل والطرق التي أوقعت الأمة في تفرق واختلاف ليس له حدود.
هذا التفرق والاختلاف هو سبب شقاء الأمة وضياعها وسوء حالها بين الأمم, فتجاهل توجيهات الله ومخالفتها والاعراض عنها يمثل إعلان حرب على الله جل وعلا - حرب لابد أن تقابل بالعقاب الإلهي - وانظروا حولكم لتروا هذا العقاب يحل بهذه الأمة وحدها رغم ثرائها وكثرتها. هذا الغضب الإلهي سببه الفساد العقيدي والسلوكي من الشرك والظلم إلى انتشار الفواحش مع رفع راية الالتزام بتطبيق الشريعة الإسلامية. وبينما ينعم العالم بـــ المدنية والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان وحقوق الحيوان .. الخ, فإن هذه الأمة لا تزال تعاني من الأمراض والأوبئة والمصائب والظلم والجهل والفقر, هذا مع أن الهدي القرآني بين يديها يوضح لها الطريق.
بالعلمانية الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان،كسب الغرب الدنيا وتمتع أبناءه بنعيمها, أما هذه الأمة فهي في قهر أديانها الأرضية (المذاهب) تعيش في ظل الاستبداد والفساد, وشقاء الأقلية المترفة, بما تكدّس لديها من أموال, وصراعها الدامي فيما بينها على السلطة، وشقاء الأغلبية في فقرها وجوعها, وكونها مجال التحكم للمترفين, وضحايا حروبهم ووقود نيرانها. أي أن هذه الأمة فقدت الدنيا مقارنة بالغرب، وفقدت أيضا مثله الآخرة .. وهذا الخسران العظيم, لأنها تشدقت بالدين, وأرادت الدنيا, وكفرت بالآخرة, فما أغنت عنها دنياها, ولن تفلح في آخرتها.
أصبحنا أذل الأمم وأضعفها وأضيعها, نتمتع بإذلال حكامنا الظالمين لنا، ويتمتع حكامنا بإذلال الغرب لهم، أصبحنا آفة العالم وشر أمة أخرجت للناس؛ فنشرات الأخبار العالمية تتزين دائماً بأخبارنا السوداء, قتلى وضحايا وقتلة ومجرمون؛ تظهر فينا بكل صدق لعنة الله تعالى علينا أو عذابه الأدنى فينا، ثم ينتظرنا العذاب الأليم في الآخرة, إن لم نتب وننبذ أكاذيب التراث الضالة, ونرجع للقرآن الكريم بإخلاص.
صحيح أن التقدم العلمي المستورد من الخارج, والمساعدات التي تأتي من هنا وهناك, قد أفلحت في الحد من خطورة بعض الأوبئة والأمراض المتوطنة في بلادنا, ولكن أخطر تلك الأمراض لا يزال يلتهم أبناء هذه الأمة - ليس بالموت السريع المريح، ولكن بالموت البطيء المؤلم المخيف - إنه مرض الاستبداد والفساد, هذا المرض هو المسئول المباشر عن خسارة هذه الأمة لدنياها وآخرتها معاً؛ فعلى هامش الاستبداد والفساد نشأت المذاهب وكُتبت كُتب التاريخ والتفاسير والسير والفقه وغيرها .. لتشرعن الظلم والقتل والغزو, والسبي والخنوع للحاكم الظالم, ولتنشر ثقافة العبيد.
فهل بعد هذا من خسران ؟وهل هناك أمل في أن نرجع لكتاب الله جل وعلا ؟ كلا..ولعل..وعسى.
الفصل الأول- تقرير أهم الحقائق:
-ازدواجية المفاهيم.
-ازدواجية الوحي.
-الدين والتدين.
-ازدواجية العقائد والأديان.
-إصلاح ملة إبراهيم.
ازدواجية المفاهيم:
للإسلام رؤيتان:الأولىمن خلال مصدره الإلهي وهو القرآن العظيم، ومنهجها هو أن تفهم القرآن الحكيم من خلال مصطلحاته ولغته القرآنية الخاصة. أما الرؤية الأخرىإلى الإسلام فهي الرؤية التراثية البشرية، ومنهجها هو أن تفهم القرآن الكريم من خلال مصادر بشرية مختلفة، تعتمد على أقاويل وخُبيرات ومجابر منسوبة للنبي - زوراً وبهتاناً -أو للصحابة أو للتابعين أو للفقهاء أو للمفسرين أو للمحدثين أو لغيرهم. وباعتمادنا على الرؤية القرآنية نستطيع أن نصحح المفاهيم الأساسية للدين كـ (الإسلام، والإيمان، والشرك، والكفر) حيث نجد أن لهذه المفاهيم وجهان أو معنيان، يرتبط أحدهما بالعلاقة مع رب العزة، في حين يرتبط الآخر بالعلاقة مع الناس.
فلمصطلح الإسلام معنيين:إسلام (قلبي عقيدي) بمعنى: إسلام القلب لله تعالى. وهذا أمر خاص بعلاقة كل فرد مع خالقه مباشرة, وليس لأحد أن يتدخل في هذه العلاقة، وليس لأحد أن يزايد على الناس في هذا الجانب، فالله وحده لا شريك له هو من يعلم حقيقة ما في النفوس، وفي ذلك يقول سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}[النجم].
وهناك إسلام (سلوكي) بمعنى: السلام. وفي ذلك يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (208)}[البقرة]. وهذا أمر خاص بعلاقة الفرد مع الناس, وبهذا المعنى فكل إنسان مسالم فهو مسلم, بغض النظر عن عقيدته, وللناس هنا الحق في الحكم على أي إنسان طبقا لسلوكه, هل هو مسالم أم معتد مجرم، نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (94)}[النساء].
وللإيمان معنيين: إيمان (قلبي عقيدي) بمعنى الاعتقاد (آمن بـ أي إعتقد) وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)}[البقرة].
وهناك إيمان (سلوكي) بمعنى الأمن والأمان (أمن لـ أي وثق) وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ (283)}[البقرة]. وأيضاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}[النساء]. هنا يطلب رب العزة من الذين آمنوا إيماناً سلوكياً وآثروا على أنفسهم أن يسلكوا سلوكاً سلمياً: بأن يعززوا سلوكهم الجيد بالإيمان العقيدي القلبي للنجاة من تبعات الضلال.
ما يهمنا كبشر هو الإيمان السلوكي الظاهر لنا, بمعنى هل هذا الإنسان مأمون الجانب ويمكن الوثوق به أم لا ؟ أما ما يخص الإيمان القلبي فلا يعلم حقيقته إلا الله جل وعلا، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (25)}[النساء].
الكفر والشرك: قرينان في المصطلح القرآني، لذلك وردا مترادفان في نسق واحد، جاء ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}[التوبة]. ولهما كغيرهما من المفاهيم والمصطلحات معنيان: في التعامل مع الله جل وعلا, هو تغطية الفطرة السليمة, بالاعتقاد في شريك مع الله جل وعلا, أو اتخاذ أولياء وأنداد وحبها كحب الله، وهذه ناحية يرجع الحكم فيها لله وحده؛ لأن كل إنسان يرى نفسه على الحق ومخالفيه على باطل.
الذي يهمنا هو الكفر والشرك السلوكي, وهو الاعتداء والظلم الذي يقع من إنسان على أخيه الإنسان، فالكافرون هم الظالمون كما قال رب العزة في سورة البقرة: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}. وكما هو واضح في أوائل سورة التوبة، حيث أوضحت لنا صفات المشركين بأنهم لا يرقبون في مؤمن إِلًّا ولا ذمة، وأنهم فاسقون ومعتدون: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) .. لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ .. لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}. فهم دائماً من يبدؤون العدوان، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (13)}. وللناس في هذه الحالة حق التدخل بمنع ومواجهة ومقاومة المعتدين ومحاسبتهم حفظاً للسكينة العامة.
ازدواجية الوحي:
هناك نوعان من الوحي: وحي الله (جل وعلا) لأنبيائه ورسله، وحي يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويأمرهم بإصلاح ذات البين .. الخ. وهناك وحي نقيض له وهو وحي الشيطان الرجيم لاتباعه، وحي يُضِلّ الناس ويوقع بينهم الفرقة والشقاق والبغضاء .. الخ.
والله جل وعلا يقول عن القرآن الكريم أنه لم تتنزل به الشياطين، جاء ذلك في قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}[الشعراء].ثم يقول جل وعلا أن للشياطين وحياً آخر, تتنزل به على اتباعها من الأفاكين الزاعمين كذباً أنه وحي إلهي يأتيهم من السماء، جاء ذلك في قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}[الشعراء].
يأتي الوحي الشيطاني منمقاً مزخرفاً يغر المستمع ويخدعه,خصوصاً وهو غير منسوب لمصدره الأصلي, وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}[الأنعام].
والملاحظ أن الأحاديث والروايات التي تنزلت بها شياطين الجن، وكتبها شياطين الإنس, تحمل أسماء براقة ومزخرفة, فيسمونها (السُنة) ويرصعونها بكلمات جذابة مثل: (الصحاح, ومتواتر, ومتفق عليه, وحسن صحيح, وصححه الياباني .. الخ)، بل ويجعلونها وحياً إلهياً مثل الوحي القرآني, بل ويجعلونها تُبطل وتُلغي أحكام القرآن العظيم، بل ويتطرف بعضهم ويجعل تلك المجاميع الحديثية حاكمة على القرآن الحكيم؛ والسبب هو (الشيطان) أستاذهم واللاعب الحقيقي في الميدان, والمصدر الأساس للوحي المزعوم, الذي يريد أن يطغ على الوحي الإلهي: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}[البقرة].
والوحي الشيطاني نوعان:نوع بإسناد كاذب لله العظيم وللنبي الكريم عبر سلسلة مضحكة من العنعنات، لعدة أجيال من الرواة الموتى، الذين لا علم لهم بما أسنده أئمة الزور إليهم, وقد تخصص في ذلك شياطين السّنة والشيعة فيما يعرف بالحديث القدسي والحديث النبوي.
أما النوع الثاني: فقد تخفف فيه شياطين الصوفية من عبء الاسناد للغير، فافتروا الوحي المباشر عن الله تعالى, فيما يعرف بالهاتف والمنام والعلم اللدني, والزعم برؤية الله جل وعلا أو الرسول في المنام واليقظة. ونتيجة لذلك الطوفان الهائل من الافتراء ينخدع أكثر البشر, فيتقلبون بين الشك والتصديق والتكذيب, ويحدث الاختلاف.
تُشرع الشياطين في وحيها كل ما يرضي الناس, بل وتزيف حقائق اليوم الآخر, فتجعله سوقاً رائجة للشفاعات والوساطات كي يستمر الناس في العصيان على أمل أنهم سيدخلون الجنة بالشفاعات البشرية, لذلك يصغي إليه من لا يؤمنون بالآخرة من مدمني المعاصي والمتصارعين على حطام الدنيا، فيرتضونه دستوراً لحياتهم يرتكبون به الفسوق والعصيان, وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}[الأنعام].خطورة هذا الاعتقاد أنه ليس فقط إهانة لله تعالى, وتكذيباً لمئات الآيات القرآنية التي تنفي الشفاعة, وافتراءً وكذباً على خاتم النبيين، بل هو أيضاً إفساد لأخلاق البشر.
وهذا هو واقع أمتنا البائسة، حيث تقف الأحاديث خلف كل موبقات وشرور أبناءها, كما أنها تنتشر وتسود حيث يسود الجهل والاستبداد, ومن ينكرها - مثلنا - يكون عندهم زنديقاً حلال الدم بتهمة إنكار السُنة. وعليه فلا يمكن تأسيس مجتمع نظيف أخلاقياً وراق حضارياً طالما تسود فيه تلك الأحاديث الشيطانية؛ فطالما أنهم سيدخلون الجنة بالشفاعات, مهما فعلوا من جرائم وموبقات, فلماذا يتقون الله تعالى إذاً ؟ ولماذا يتعبون أنفسهم بالترقي الخلقي، والتهذيب السلوكي؟
الدين والتدين:
إن أخطر ما نقع فيه هو أننا نخلط الدين الإلهي (المقدس) بالفكر البشري (المدنس)، فنجعل لفكر البشر قداسة, ولأصحابه عصمة وتأليهاً، والخطورة هنا تقع على الإسلام نفسه؛ إذ يحمل أوزار الناس, ويصبح محصوراً في زمان بعينه وثقافة بعينها, ومن ثم لا يكون صالحاً لكل زمان ومكان.
الله جل وعلا هو مالك الدين, وهو الذي جعل لهذا الدين يوماً أسماه يوم الدين، وهو الذي أرسل الرُسل بالكتب السماوية التي تعبر عن دينه, والتي على أساسها سيحاسب الناس يوم القيامة.وعليه فإن التمسك به أو الابتعاد عنه مسئولية شخصية, والحساب عليه لله تعالى وحده يوم الدين؛ فالإسلام يقوم على الحرية الدينية المطلقة, كي تتحمل النفس البشرية مسئولية اختيارها، فإن تطهرت وتزكّت فلها، وإن اختارت الفجور والعصيان فعليها .. فلا تتحمل نفس وزر أخرى، ولا تجزي نفس عن أخرى.
وللناس عادة سيئة مع كُتب الله جل وعلا, فلا يحاولون تدبر آياتها, بل يقرءونها باللسان فقط، وبالتعود تفقد آيات الوحي مدلولها, وتصبح مجرد كلمات منظومة يتغنى بها المنشدون في الحفلات العامة ومناسبات العزاء، وفي ذلك يقول سبحانه: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ (16)}[الحديد].
ومن هنا تقوم الفجوة بين الدين السماوي وبين ما يفعله الناس, فيقوم الكهنة بتغطية تلك الفجوة باختراع نصوص بشرية تتناسب مع أهواء الناس, ويجعلون لها قدسية ومرجعية زائفة بنسبتها لله تعالى أو للنبي, وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (79)}[البقرة]. وبذلك يتحول الفكر البشري إلى دين شبه سماوي, وهذا ما فعله الشيعة والسنة والصوفية وغيرهم, فجميعهم نهلوا من نفس مستنقع الرجس المسمى (أحاديث).
ولكن تبقى الحقيقة الثابتة في أن الدين هو كلام الله جل وعلا في كُتبه السماوية، ويبقى الواقع التاريخي والانساني في أن الفكر البشري هو كلام إنساني له مؤلفون من الأئمة، وأن أولئك الأئمة لا يملكون شيئاً يوم الدين, وأن الله تعالى صاحب الدين, سيحاسبهم كما سيحاسب سائر الناس, لأنهم ليسوا أصحاب الدين, وإنما أصحاب مذاهب فكرية بشرية.
والظريف أن المذاهب تقوم بترسيخ مفهوم الاجتهاد, وتجعل من مهام العلماء: (تجلية حقائق الإسلام) . أي أنها تعترف ضمنياً بأن هناك حقائق إسلامية تم إخفاؤها وتجاهلها والتعمية عليها، وأن هناك أباطيل تحولت بالسكوت عنها وعدم مناقشتها إلى حقائق مقدسة؛ ثم عندما نجتهد لتجلية حقائق الإسلام يتهموننا بالردة والزندقة .. ولله في خلقه شؤون.
وعليه فهناك فرق بين دين الإسلام وبين تدين الناس: دين الإسلام هو الإستسلام والإنقياد والخضوع لله وحده لا شريك له من خلال كُتبه السماوية, والتمسك بالقيم الاخلاقية العليا من العدل والرحمة والسلام والتسامح مع الناس. أو باختصار: إيمان حقيقي بالله تعالى, وعمل صالح يشمل عبادة الله تعالى وحده, وحسن التعامل مع الناس. أو باختصار أكثر: هو تزكية النفس بالعقيدة الصحيحة والسلوك القويم، نفهم ذلك من قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}[الكهف]. أما ما يخص التدين أو موقف الناس من دين الله جل وعلا فأمر آخر.
فالتدين صناعة بشرية تحمل ملامح البشر - ضعفهم وطموحهم وغرائزهم وفضائلهم وسيئاتهم وحسناتهم .. الخ - وهذه الصناعة تشمل السلوك والعقائد والأفكار، ومن الطبيعي أن يتأثر تدين الناس بظروفهم الاجتماعية والنفسية والجغرافية والتاريخية، فيكتسب التدين السلوكي والعقائدي والفكري الطابع السائد لدى كل أمة, ولذلك يختلف التدين من منطقة إلى أخرى - فتدين المناطق الجبلية والصحراوية الوعرة قاس وعنيف، بينما تدين المناطق الساحلية والرطبة لين ولطيف - وقد لا يكون في ذلك مشكلة طالما نعتبر ذلك التدين فكراً بشرياً, ولكن تأتي المشكلة حين نضفي لذلك الفكر البشري قدسية إلهية, بأن ننسبه لله جل وعلا وللرسول الكريم.
الخطورة هنا أن التدين البشري الأرضي يكتسب قدسية الدين الإلهي السماوي نفسه, عبر تلك النسبة المزيفة لله تعالى ولرسوله, وهنا يصبح النقاش حوله - إذا ساد واستحكم - مرفوضاً، وموصوماً كل من يناقشه بالكفر والزندقة، بل ويصبح أئمة ذلك التدين الأرضي آلهة أو أنصاف آلهة, لا يستطيع أن يقترب منها أحد إلا بالتقديس والتبجيل, وذلك ما يحدث فعلاً في التعامل مثلاً مع: البخاري عند أهل السنة, وجعفر بن محمد عند الشيعة، والغزالي عند الصوفية.
ولكن العامل الأساس في التدين هو السياسة، عبر مؤسسات السلطة الدينية التي تقوم بإخضاع الدين لرغبات الحاكم, أو المؤسسات الدينية المعارضة الطامعة في الحكم, والتي تسوغ الثورة والخروج على الحاكم, حيث كان ولا يزال فقهاء الدين الأرضي في تنافس محموم لخدمة المستبدين والظالمين؛ ومن هنا نجد تراثنا الديني يعج بالتناقضات التي تعبر عن الحاكم والمحكوم والثائر والحاكم الطاغي, وعن ذلك التراث المخالف للقرآن الكريم, والذي يجد فيه المعرضون ما يتخيرون من الأحكام المتناقضة, يقول سبحانه: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)}[القلم].
هذا المنزلق الخطير كان طبيعياً لدى أبناء العصور الوسطى - ولا زال في المجتمعات المتخلفة - حيث يسود الإحتراف الديني, ويتم تغليف جميع الأنشطة البشرية بالتدين الأرضي السائد، حيث تبحث جميع التعاملات الاجتماعية عن فتاوى دينية في كل تفصيلاتها؛ ومن الطبيعي هنا أن يتعاظم دور محترفي التدين الأرضي من: (السحرة والرهبان والأحبار, إلى الأئمة والمحدثين والمشعوذين) وفي النهاية يتقبل المجتمع إحدى العادات الاجتماعية الدينية, خصوصاً إذا كانت تحقق له فائدة ما, أو لإحدى عناصره القوية.
ازدواجية العقائد والأديان:
العقائد والأديان على اختلافها تنقسم إلى قسمين: دين سماوي شرعه الله جل وعلا لخلقه وهو الإسلام الذي جاء به جميع الرسل والأنبياء, نفهم ذلك من قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (19)}[آل عمران]..{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}[آل عمران].وهناك دين أرضي شرعه الشيطان لاتباعه وهو الشرك أو الكفر الذي جاء به الكهنة والأحبار والرهبان والفقهاء والمحدثون.
ودين الله تعالى أسبق في الوجود, فقد فطر الله الناس على أن يسلموا له وحده, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)}[الأعراف]..{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}[الروم].
والصراع بين عقيدتي الإسلام والشرك مستمر في التاريخ الانساني, ولكل عقيدة صولة وجولة؛ كان أول الرُسل آدم ومن بعده جميع الأنبياء يقولون نفس العقيدة: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه) نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}[الأنبياء].فبعد أن اختلف واشرك قوم آدم, بعث الله نبيه نوح ليبين للناس ما اختلفوا فيه, وينهاهم عن الشرك بالله تعالى، متحملاً الأذى حتى انتصر في النهاية, ومعه قلة مؤمنة نجاها الله جل وعلا من الطوفان.
وتدور الأيام ويعود الشرك إلى قلوب الأحفاد من الذرية, ويحدث الاختلاف, فيرسل الله رسولاً آخر وهو هود, ليقوم بنفس المهمة, ويلقى نفس الأذى, فيصمد وهو يُذّكر قومه بما حدث للأسلاف: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ (69)}[الأعراف]. ويُهلك الله جل وعلا قوم عاد, وينجي هود والذين آمنوا، وتدور الأيام فيكفر ويختلف الأحفاد، ويأتي منهم نبي جديد وهو صالح, الذي قال لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ (74)}[الأعراف].
وهكذا تستمر قصة الصراع بين العقيدتين، ينتصر الرسول ثم يعود الاختلاف والشرك بعده, متخفياً بدعاوى شتى منها حب الرسول نفسه وحب أصحابه وأقاربه، ثم يتحول الحب إلى تقديس, والتقديس إلى عبادة, فيبعث الله رسولاً جديداً, تتكرر معه نفس القصة, ثم جاء الخليل إبراهيم, ثم جاء (مُحَمَّدٌ) خاتماً للنبيين بمعجزته الوحيدة, وهي (القرآن العظيم) الذي بيّن كل ما اختلف فيه الناس، وكشف كل ما أخفوه، وفصّل كل ملامح الشرك ورد عليها.
وقد حفظ الله هذا القرآن ليكون حجة على البشر إلى يوم القيامة، خصوصاً على من يكررون مسيرة الانحراف والقرآن بين أيديهم, يؤولون آياته ويخترعون مناهج أخرى لأديان أرضية ما أنزل الله بها من سلطان؛ ومخطئ من يعتقد أن قصة الصراع بين الإسلام والشرك انتهت بإنتصار خاتم النبيين، فقد استمرت محاولات العقائد الشركية القديمة للظهور تحت شعار الإسلام، ثم ما لبثت أن انتصرت عليه وانتزعت منه الساحة, ليصبح المتمسكون بالإسلام الحقيقي قلائل يعانون الإضطهاد، مثلما حدث للقلة المؤمنة في مكة وقت نزول القرآن.
وعليه فالإسلام ليس ديناً جديداً ولد مع نبوة السيد محمد بن عبد الله،وخاتم النبيين (محمد) (عليه السلام) ليس بدعاً من الرسل, وليس منشئاً لدين جديد, فما هو في الحقيقة إلا متبع لملة إبراهيم التي نزل القرآن ليعيد أصولها, ويصحح ما لحقها من تحريف. والتحريف لا يعني التغيير الكامل أو التبديل التام, وإنما يعني وجود أباطيل تداخلت مع الحقائق، ومن الأخطاء الكبرى أن يعتقد الناس أن خاتم النبيين جاء بدين جديد أو أنه كان بدعاً بين الرسل, وقد أمره رب العزة أن يعلن للناس أنه ليس متميزاً عن الرسل السابقين، جاء ذلك في قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ (9)}[الأحقاف].وأمره أيضاً أن يقتدي بالهدي الذي جاء به من سبقه من الأنبياء, فبعد أن قص سبحانه وتعالى قصة هداية إبراهيم وذريته, قال لخاتم النبيين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (90)}[الأنعام].
وفي عبارة قرآنية غاية في الايجاز والاعجاز والاحكام, يقول سبحانه وتعالى مخاطباً خاتم النبيين: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ (43)}[فصلت].والذي قيل ويقال لهم نوعان: وحي برسالة سماوية من الله جل وعلا، وتكذيب واتهامات من المشركين. فالوحي واحد لهم جميعاً, نفهم ذلك من قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (163)}[النساء]. والتشريع واحد لهم جميعاً في أساسياته، وهو إقامة الدين الحق عقيدياً وسلوكياً، وعدم التفرق إلى مذاهب وطوائف وأديان أرضية، جاء ذلك في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (13)}[الشورى].
ويشمل هذا الوحي الواحد كل التفصيلات الأساسية الخاصة بالعقيدة, مثل شهادة الإسلام (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه)وعبادة رب العزّة وحده, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}[الأنبياء].والتحذير لكل الأنبياء من الوقوع في الشرك حتى لا تحبط أعمالهم وتضيع, جاء ذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)}[الزمر]. كل ذلك الوحي المشترك جاء لكل نبي بلسان قومه, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (4)}[إبراهيم]. إلى أن جاء القرآن الكريم: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء].
إصلاح ملة إبراهيم:
نزل القرآن الكريم يأمر خاتم النبيين محمد باتباع ملة أبيه إبراهيم, بل ويأمره بأن يعلن ذلك لقومه وللعالم، جاء ذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}[الأنعام]. وبهذه الكلمات الموجزة البليغة, شرحت لنا الآيات السابقة معنى إخلاص العقيدة في ملة إبراهيم, بأن تكون صلاتنا ونسكنا بل وحياتنا ومماتنا لله وحده لا شريك له.
إذاً أصبح خاتم النبيين إماماً للمسلمين في اتباع ملة أبيه إبراهيم, وداعية للعالم كله لاتباعها, وإذا كانت بعض الأمم السابقة في المنطقة قد فنيت ولم يعد لها بقاء, فقد بقيت أمم أخرى تكاثرت وانتشرت في كل أنحاء العالم, ومنها في الشرق الأوسط ذرية الخليل (إبراهيم) وهو أبو الأنبياء وأبو شعبين هما: بنو إسرائيل وبنو إسماعيل (العرب المستعربة) وفيهما توارثت الذرية ملة أبيها إبراهيم؛ والملة هي طريقة العبادة من صلاة وصوم وصدقة وحج وتلاوة للكتب الإلهية .. الخ.
ولكن تمسك أغلب الخلف بالحركات والتدين السطحي الظاهري المرائي دون إخلاص الدين لله تعالى وحده, فتحولت الطاعة إلى عصيان؛ ولذلك تعاقب الأنبياء في بني إسرائيل كلهم يدعون إلى العودة إلى الأصل المضيء لملة إبراهيم, التي تعني إخلاص العقيدة لله تعالى وحده وطهارة السلوك, أو بمعنى آخر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ثم جاء خاتم النبيين جميعاً من ذرية إسماعيل رسولاً للعالمين ينادي بنفس المهمة, وهي اتباع ملة إبراهيم؛ وباختصار شديد فإن: الرسالة الخاتمة ما هي إلا دعوة لإصلاح الدين الأصلي الذي جاء به الخليل إبراهيم وهو الإسلام.
وقد تمسك العرب بطريقة العبادة المتوارثة وأشكالها من حج وصيام وصلاة - ركوعاً وسجوداً ومواقيت - وغيرها من العبادات, ولكن وقعوا في الشرك وأدمنوا البغي والعصيان, وظنوا كما نظن الآن أن مجرد الأداء الشكلي يكفي, وتناسوا كما نتناسى نحن أيضاً معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. مشركو قريش كانوا يؤمنون بالله جل وعلا, ويؤدون الصلاة والحج, ويحافظون أكثر من مشركي اليوم على حُرمة الأشهر الحرم, ولم يرتكبوا مذابح كالتي يفعلها مشركو اليوم؛ أي أن جاهلية العرب قبل ووقت نزول القرآن كانت أهون من جاهلية عرب اليوم.
نزل القرآن الكريم بدعوته الإصلاحية لا يركز على إيجابيات المشركين مثل: (إيمانهم بالله جل وعلا, وحجهم للكعبة, وتأديتهم الصلاة وغيرها), ولكن ركّز على توضيح العيوب, وتوصيف المرض سبيلا للعلاج, فركز على: (كفرهم العقيدي باتخاذهم أولياء (آلهة)يحبونهم كحب الله، وبحجّهم إلى قبورهم, وتقديم القرابين المذبوحة لضيوفها لتقربهم إلى الله زلفى), كما ركّز على كفرهم السلوكي بالاعتداء والظلم, وتوالى وصفهم بـ: (الذين كفروا والذين أشركوا والكافرين والمشركين والظالمين والفاسقين) وأنكر صلاتهم التي لم تنههم عن الفحشاء والمنكر, ووصفها بأنها مكاء وتصدية (حركات بلهاء) ..الخ؛ فقد كان الجاهليون يعبدون الله ويعبدون معه الأولياء من خلال تعظيم قبورهم (الأنصاب) وتماثيلهم (الأصنام) وكل ما يمتّ إليهم بصلة (الأوثان).
ومما يلفت النظر أن معظم تشريعات القرآن الكريم لم تأت في سياق موضوعي واحد أو في سياق زماني واحد، وإنما تناثرت بين السور في إيجاز أحياناً وفي تفصيل أحياناً أخرى, ولو كان القرآن الحكيم قد نزل بشريعة جديدة ليست معروفة من قبل, لكان منتظراً منه أن تأتي تشريعاته منتظمة في سياق موضوعي وزمني واحد, إلا أن القرآن الكريم نزل على قوم يعرفون ملة إبراهيم جيداً, ومنهم من كان يقرأ صحف إبراهيم وموسى التي كانت معروفة ومتداولة في العصر الجاهلي, حتى أن كثيراً من آيات تلك الصحف جاءت ضمن آيات القرآن الكريم ومنها سورة الفاتحة, وقد اتخذها رب العزة حجة على المشركين, فقال لهم عنها: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)}[النجم].
كانوا يقرءون صحف إبراهيم وموسى, ولكن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم, فبدلوا وحرفوا واختلطت حياتهم الدينية بأصول حقيقية من ملة إبراهيم مع تحريفات قديمة وأخرى حديثة؛ ونتيجة لذلك اختلط التطبيق الصحيح بالتطبيق الفاسد، فنزل القرآن الحكيم يُقر الصحيح, ويعالج ما تم تحريفه قديماً, وما استجد تحريفه, ويذكر بما تم نسيانه, ويصوب ما يساء تطبيقه, وهذا هو منهج القرآن في تصحيح ملة إبراهيم.
ثم إذا نزل تشريع قرآني جديد لما استحدثته الظروف,فإنه ينزل مفصلاً واضحاً مبيناً من جميع النواحي؛ ثم لأنه تعالى يعلم ما سيكون من خلل في المستقبل, فقد جعل سبحانه تفصيلات كتابه الحكيم حاوية الرد على كل ما يمكن أن يطرأ مستقبلاً من تحريفات أو مستجدات أو غيرها .. ولا يستلزم فهم الأمر إلا التدبر في كتاب الله الحكيم.
وبهذا تمت كلمة الله جل وعلا بتمام القرآن العظيم ولا مبدل لكلماته, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}[الأنعام]. وتمت نعمة الله تعالى علينا بارتضائه الإسلام لنا ديناً، واكتمل هذا الدين العظيم بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا(3)}[المائدة].
وبالتالي فأي شيء يضاف إلى الإسلام المكتمل, فهو ليس جزءاً من الإسلام, بل منسوب لمن قاله خيراً وشراً؛ لأنه إن كان ضمن ما قرره القرآن المبين فلا يعد إضافة, لأنه موجود من قبل, ولا حاجة بنا إليه لأن لدينا الأصل، وإن كانت تلك الإضافة مخالفة لما قرره القرآن, فهي مرفوضة من حيث المبدأ لأنها مخالفة .. وكل ما فعلته وتفعله الأمة, لا صلة له بالإسلام, بل هو منسوب لمن قام به.
الفصل الثاني- لمحة تاريخية:
-المعترك السياسي للصحابة.
-الفتوحات الاستعمارية والحروب الأهلية.
-الانفتاح الثقافي والحضاري.
المعترك السياسي للصحابة:
بدأت الخلافات بين الصحابة سياسياً - صراع على السلطة - والعادة أن السياسة إذا دخلت في أي شيء أفسدته وأفسدت أصحابه. ومُخطىء من يعتقد أن الصحابة كانوا ملائكة مكرمين، وجاهل من يعتقد أنهم كانوا جميعاً عدولاً، ومشرك من يعتقد أنهم كانوا معصومين من الذنب أو الزلل. والذي حدث بالمختصر وبالمفتوح هو أن السياسة جرفتهم وباعدت بينهم وبين كتاب ربنا، ومن لديه شك في ذلك فعليه أن يقرأ التاريخ جيداً.
مات النبي الخاتم وقبل أن يقوموا بدفنه باشروا العمل السياسي بأنانية وعصبية ودموية مُفرِطة، فاقتحموا دروب السياسة, ووقعوا في مشاكلها، وعركتهم أزماتها، وخاضوا حروبها، وحملوا ضغائنها، وفرزتهم انقساماتها، منذ بيعة السقيفة إلى الملك الوراثي (الأموي - الهاشمي) العضوض، بإسالة الدماء أنهاراً في صراعات عسكرية, بدأت بما اسموها حروب الردة والفتوحات, وما أعقبها من غضب وعقاب إلهي عُرف تاريخياً بـ (الفتنة الكبرى).
في البداية سفك الصحابة دماء بعضهم البعض في حروب تثبيت سلطة وهيمنة قريش، والتي عُرفت بـ (حروب الردة). وسفكوا دماء شعوب الجزيرة العربية وبلاد فارس وبلاد شمال افريقيا في غزواتهم الاستعمارية التي أسموها (فتوحات). ثم عادوا إلى سفك دماء بعضهم البعض في: (الجمل وصفين وكربلاء والحرة والنهروان ودير الجماجم .. الخ).
وبفضل مخترعي الأحاديث أخذ الصراع على السلطة بين علي بن أبي طالب وخصومه صبغة دينية, فنشأ التشيع ثم الخوارج, وتتابعت الفرق والطوائف, وتحول الخلاف السياسي الحربي إلى شقاق ديني، وتفرع الخلاف وتشعب داخل كل طائفة, من سنّة وشيعة وصوفية، إلى مذاهب سنية وفرق شيعية وطرق صوفية .. وداخل كل فرقة وطائفة ومذهب عشرات التقسيمات وآلاف الاختلافات.
وبعد كل هذه الاختلافات والانشقاقات والصراعات, فإنّ من المضحك أن ينبح فقهاء الجهل والتخلف في عصرنا بالثوابت وإجماع الأمة والاقتداء بالسلف الطالح, متغنين بمناقب الرعيل الأول، واصفين إياهم بأنهم خير القرون، زاعمين أن الأمة قد أجمعت على كذا وكذا, مع أن الأمة لم تجمع إلا على الزيغ والضلال والأحقاد، وقتل نفسها في صراع لم ينته في القرون الوسطى، ولن ينته حتى يوم القيامة طالما ونحن نعيش بعقلية رؤوس الفتنة الكبرى، ونفسيات مجرمي حروب الفتوحات الاستعمارية .. وتأملوا ما يحدث اليوم في العراق وسوريا واليمن وغيرها.
لماذا لم تنته تلك الحروب الجاهلية القبلية العصبية السلالية الطائفية ؟ ولماذا لن تنته ؟ لم تنته ولن تنته لأن الجريمة إذا تحصنت بتسويغ شرعي فقد تحولت إلى شرف وفريضة دينية يتسابق الجميع لنيل شرف أداءها .. والمغفلون في نعيم .!! .
الفتوحات الاستعمارية والحروب الأهلية:
أسقطت الفتوحات العربية التي حملت اسم الإسلام - زوراً وبهتاناً - إمبراطورية الفرس العاتية، وجعلت الفرس وسكان البلدان المحتلة موالي أو مواطنين من الدرجة الثانية، وكان الفرس والموالي هم وقود الثورات ضد الأمويين، وبعد يأس الفرس من المقاومة العسكرية التفتوا إلى المقاومة الفكرية في ميادين مختلفة.
فقاموا بتدعيم التدين السني نكاية في الإسلام, فكان رواد الحديث من الفرس كـ: البخاري ومسلم .. الخ. واستغلوا التدين الشيعي واتخذوه ستاراً للتحرر من سيطرة العرب, فقاربوا بينه وبين عقائدهم القديمة, وخلطوه بأغراض سياسية من خلال (التبري والتولي) في العقيدة الشيعية. وبعد أن كان الدين الأصلي للفرس (الزرادشتية) يتركز في عبادة إله الخير والنور، ولعن إله الشر والظلام، أصبح من خلال التشيع: موالاة علي وآل بيته، والتبري من أبى بكر وعمر وعثمان وكل الذين دمروا الإمبراطورية الفارسية, واحتلوا الوطن الفارسي, وقتلوا خيرة رجاله, واستعبدوا أهله, ونهبوا خيراته.
وقد واجه التشيع الشدة من بني العباس, فكان إختراع التصوف, كآخر جهد فارسي - آنذاك - في الكيد للإسلام. والتشيع هو الذي أرسى للتصوف الأسس التي يقوم عليها. ورث التصوف عقائد الشيعة ولكنه تخفف من أوزاره السياسية, فبدأ حركة دينية عقيدية أكثر انسجاماً مع العامة, برواد من الأعاجم تتلمذوا على يد أساطين الشيعة.
وما لبث الإنحلال الخلقي الذي اصطبغ بصبغة دينية في المجتمع الفارسي - من خلال الديانة المزدكية - أن عاد في صورة أحاديث سجلها غسن ابن برزويه الفارسي الخراساني المولود في (بُخارى) والمعروف بالبخاري، الذي عاش شبابه وصدر حياته في بُخارى معقل المزدكية، والتي لا تزال حتى الآن منبع القومية الفارسية والكراهية للعرب.
في الفتنة الكبرى والحروب الأهلية التي كانت المستنقع الذي غرق فيه الصحابة - واغرقونا معهم - لجأ المتحاربون إلى الحرب الفكرية الدعائية, جنباً إلى جنب مع الحرب المسلحة, فكان اختراع الأحاديث، وقد نبغ فيها الأمويون الذين استخدموا أبا هريرة وغيره من ضعاف النفوس والإيمان, وظل هذا طيلة العصر الأموي فيما يعرف بــ عصر الرواية الشفهية.
ثم بدأ تدوين الأحاديث - على استحياء - في أواخر العصر الأموي في صورة عدة مئات من الأحاديث, ثم ما لبث أن ساد وانتشر في العصر العباسي لتصل الأحاديث إلى مئات الألوف, حيث كانت مصانع الحديث تعمل بطاقتها الإنتاجية القصوى, لتغطية احتياجات المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية، فتراكم انتاجها .. ودخلت في النهر مياه كثيرة، وحدث ما حدث.
الانفتاح الثقافي والحضاري:
إذاً خلال عصر اللاراشدين والأمويين انشغل العرب بالسياسة والحروب الاستعمارية والأهلية, مع تعصبهم ضد أهل الكتاب عُنصرياً ودينياً, وجاء العباسيون بمساعدة الفُرس والموالي, فكانوا أكثر تسامحاً وأقل تعصباً ممّن سبقهم. كما شهد عصرهم انتهاء التوسع الخارجي, والالتفات الداخلي نحو النواحي العلمية والثقافية بالتدوين والانفتاح والتفاعل مع المدارس العلمية الفلسفية في الاسكندرية والرها وانطاكية وحران .. حيث الفلسفات اليونانية والشرقية الممتزجة بالمسيحية.
وبدأ مع العصر العباسي ترجمة ذلك التراث (الأجنبي) للعربية والتفاعل معه والتأثر به، مع دخول أبناء أهل الكتاب في الإسلام, ومعهم جيل من مثقفي أبناء وأحفاد الموالي الحاقدين, الذين كانوا من قبل رقيق الفتوحات الاستعمارية.
هؤلاء المسلمون الجُدُد أدخلوا ثقافاتهم, ومعتقداتهم الدينية القديمة في صورة إسلام, وكان هذا تجسيداً للتأثر بالتراث القديم, والتراكم الفرعوني واليهودي والمسيحي والمجوسي.. الخ, ولكن مع تغير في الأسماء والشخصيات واللغة المنطوقة, وتمت صياغة ذلك التدين اللعين باللغة العربية في صورة روايات وأحاديث قدسية ونبوية مزورة.
وبازدهار صناعة الأحاديث, أصبح صاحب الرأي الفقهي يؤثر أن يضع رأيه في حديث ليحوطه بالتقديس، وليحصنه من النقد والتمحيص، ومن الطبيعي ألا يلجأ لذلك سوى صاحب الرأي الضعيف العاجز المتهالك المحتاج إلى (سند) يعتمد عليه في بقائه؛ لذا عكست تلك الأحاديث تفاهة مخترعيها وتناقضهم، ولكن نسبتها للنبي عبر السند كان ولا يزال يحجب عقول المغفلين عن نقدها.
ولأن تلك الأحاديث المصنوعة تعبر عن الثقافة الشعبية الكامنة والسائدة, فقد كان من السهل انتشارها، خاصة وأنها مستقاة من مستنقع الفولكلور الديني الشعبي للرعاع.ونحن الموحدون - القرآنيون - لن نملّ من التأكيد على أن تلك الأكاذيب لا صلة لها مطلقاً بالله جل وعلا, ولا برسوله الكريم، وأنها مجرد أساطير .. لا تستحق منا سوى السخرية منها والتندّر عليها.
وإلى العصر العباسي ينتمي أئمة المذاهب من سنّة وشيعة وصوفية وغيرهم, لم يجرؤ هؤلاء الشياطين على رفض القرآن العظيم صراحة لذا التفوا حوله, وبدلاً من الاحتكام والرجوع إليه فعلوا العكس، وهو صناعة تشريع بشري يقوم على إلغاء الأحكام القرآنية التي لا تتفق مع أهوائهم, بما أسموه بـ (النسخ) مع أن النسخ في اللغة العربية يعني الكتابة والإثبات وليس الإلغاء والإبطال. ولم يكتفوا بذلك, بل أسسوا ما أسموها: (علوم القرآن) للطعن في القرآن, وليحل وحي الشيطان الرجيم, بديلاً عن وحي الله الحكيم، ونسبوا ذلك البديل لله ولرسوله, بزعم أنه وحي إلهي, ومن هنا أضحى احتكامهم لوحي الشيطان, بديلاً عن وحي الرحمن.
وبذلك أصبحت أقاويل الأئمة عن القرآن أو ما يعرف بعلوم القرآن, هي الديوان الحي الذي يجسد الواقع العملي لتدين أبناء هذه الأمة في كل عصر .. هذا من ناحية الاتساع والنظرة الأفقية. أما من الناحية الرأسية: فقد حرصوا على نسبة آراءهم الشخصية إلى النبي وكبار الصحابة لدى أهل السنة, أو إلى النبي وعلي وبنيه لدى الشيعة, أو إلى من جعلوهم أولياء قديسين لدى الصوفية .. وبذلك نشأت ما تعرف بالمصادر الأخرى للتشريع الإسلامي.
الفصل الثالث - عظمة القرآن الكريم:
-القرآن الكريم مقارنة بغيره.
-القرآن الكريم فيه الكفاية.
-القرآن الكريم حقائقه مُطلقة.
-القرآن الكريم هو الحديث الإلهي.
-ذكر الله تعالى بالقرآن وحده.
-القرآن الكريم بيانه فيه.
القرآن الكريم مقارنة بغيره:
أساساً القرآن الكريم قضية إيمانية، فهو الوحي الوحيد الذي نزل على خاتم النبيين، أما قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}[النجم]. فمعناها: (وما ينطق بالقرآن عن الهوى، إن القرآن إلا وحي يوحى). علماً بأن خاتم النبيين هو الذي كتب القرآن العظيم بيده, وبطريقة كتابة خاصة وغير عادية (مُعجزة). وعليه فالقرآن المجيد هو الكتاب الوحيد الذي يجب على الجميع الاحتكام إليه، والاعتصام والإيمان به وحده، وما عداه ليس محلاً للإيمان.
فالأحاديث مثلاً ليست قضية إيمانية, وإنما قضية معرفية تراثية نسبية قائمة على الشك (الظن) فلا يكفي أن يُقال: (قال رسول الله كذا وكذا). ليصدق الناس فوراً أن النبي قد قال ذلك الكلام فعلاً؛ لذا اخترعوا الاسناد, والاسناد يعني فيما يعني: أن الحديث مثل جدار يريد أن ينقض ويقع, غير أن العنعنة تقوم بإسناده حتى لا يسقط وينهار.
المصيبة أن ما يُعرف بعلم الحديث أو الجرح والتعديل نشأ على أساس الخلافات السياسية والفقهية والعقيدية والفكرية بين مختلف المذاهب والفرق, وقد أثرت تلك الخلافات على مجرى وطبيعة هذا العلم المستحدث، لذلك اختلف أهله في مدح راو أو تجريحه, وفي إثبات حديث أو نفيه؛ فقال هذا بما يُحب وقال ذاك بما يُحب .. أي أنهم دخلوا في مسلسل (الحب والهوى).
ومثلاً قام فقهاء السلطة السُنية بتوثيق الأحاديث التي توجب طاعة ولي الأمر الظالم, وضعفوا أحاديث الخروج عليه؛ بينما قام فقهاء المعارضة الشيعية بتضعيف أحاديث طاعة الظالم, ووثقوا أحاديث الخروج .. أما ما فعله الصوفية فحدث ولا حرج !! .
يتكون الحديث من سند ومتن, ونحن نقول: أن ذلك السند الذي تمت صناعته في العصر العباسي باطل, فهو إسناد عن موتى لا يعلمون شيئاً عمّا أسنده أئمة الحديث إليهم, بل إن بعض الرواة شخصيات وهمية اخترعها أولئك الشياطين, ووضعوا على كاهلها تلك الأكاذيب.
وبالبلدي فإن الاسناد إفك كوميدي يندى له الجبين, ويضحك منه الحزين, ولا يصدقه إلا المغفلون والمغيبة عقولهم؛ يتحدثون عن الاسناد كما لو أنهم قد أجلسوا جميع الرواة أمامهم وبالترتيب, وسمعوا من فلان عن فلان, وهم جميعاً يقولون نفس تلك الروايات, بلا تغيير في أي كلمة أو أي حرف؛ وهنا نؤكد: أنها كاذبة من حيث السند .. أي أن الرسول بريء من كل تلك الأسانيد المختلقة.
ومن حيث المتن, فبعض الأحاديث تقول شيئاً لا بأس به, أي لا تتعارض مع القرآن الحكيم, أو ربما تتفق معه, هنا نقول: أن تلك الأحاديث كاذبة من حيث نسبتها للرسول, ولا بأس من العمل بما تقوله، وكنا نتمنى أن ينسبها أصحابها لأنفسهم, بدلاً من التمسح بجاه الرسول.
وحتى لو ثبت أن النبي قد قالها فعلاً، فهي أولاً وأخيراً كلام بشري قاله النبي من منطلق خبرته وحكمته وتجربته البشرية، فهي مثل أي كلام بشري يؤخذ منه ويرد عليه، لأنها ليست وحياً إلهياً على الإطلاق.
غير أن معظم الأحاديث المنسوبة للنبي تقول في متنها ما يخالف القرآن والعقل والمنطق، وما يتعارض مع الفطرة السليمة، والذوق الرفيع، هنا نحكم على تلك الأحاديث بأنها كاذبة من حيث السند, وملعونة من حيث المتن، ولكن الشياطين تبولتها في قلوب الناس فآمنوا بها وقدّسوها .. ولا يزالون.
القرآن الكريم فيه الكفاية:
في ذاته العلية يقول سبحانه: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)}[الكهف]. فالله وحده هو الولي الذي لا يشرك في حكمه أحداً, والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي أوحي للنبي, ولا مبدل لكلماته, ولن نجد غير القرآن كتاباً نلجأ إليه.
والمؤمن لابد أن يكتفي بالله رباً, لقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ (36)}[الزمر]. ولابد أن يكتفي بالقرآن كمصدر وحيد للهداية والتشريع الإلهي, نفهم ذلك من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}[العنكبوت].
والملاحظ أن الآيات التي تحض على الاكتفاء بالله رباً وبالقرآن كتاباً, جاءت كلها بأسلوب الاستفهام الانكاري, أي الانكار على من يتخذون أولياء (أرباباً وقديسين) مع الله جل وعلا, أو يتخذون كتباً أخرى مع كتاب الله العزيز. فمن رحمة الله بنا, أن فرض علينا كتاباً واحداً ميسراً للذكر, ومصوناً من التحريف, وجعله واضحاً مبيناً مفصلاً, له بداية وله نهاية، ولم يتركنا إلى كتب أخرى كتبها بشر مثلنا, يجوز عليهم الخطأ والنسيان, والهوى والعصيان, ولا بداية لكتبهم ولا نهاية.
القرآن الكريم حقائقه مُطلقة:
لا مجال في كتاب الله العظيم للريب أو الشك، وفي ذلك يقول سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}[البقرة]. وحقائق القرآن مطلقة، وما عداه من كتب يعترف أصحابها بأن الحق فيها نسبي, أي يحتمل الصدق والكذب، وما يحتمل الصدق والكذب يدخل في دائرة الظن.
ودين الله الحق لا يقوم إلا على الحق اليقيني الذي لا ريب فيه, حتى لا يكون للبشر حجة على الله تعالى؛ لذا ضمن سبحانه حفظ كتابه من كل عبث أو تحريف؛ وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}[الحجر]. أما أديان البشر الوضعية فالمجال واسع فيها للظنون والشكوك والريب.
ويقارن سبحانه وتعالى بين اتباع الحق (القرآن)، واتباع الظن (كتب الحديث) فيقول: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (36)}[يونس] .. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)}[النجم]. الظن وما تهوى الأنفس, هي كتب ومناهج يقدسها المغفلون ويقاتلون من أجلها, أما الهدى وهو القرآن الكريم, فقد اتخذوه مهجوراً.
ومن الاعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة, اعتراف أئمة الحديث أنفسهم: أن الأحاديث المنسوبة للنبي تفيد الظن ولا تفيد اليقين؛ ومع هذا تأمرهم أهواءهم باتباع الظن, تحديا لله جل وعلا القائل: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}[الرعد ].
وإذا كان الله جل وعلا قد أكرمنا بالحق القرآني اليقيني: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)}[الواقعة]. فلماذا نأخذ معه أقاويل ظنية ؟!.
القرآن الكريم هو الحديث الإلهي:
القرآن الكريم هو أصدق الحديث، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}[النساء]. وهو أحسن الحديث, وفي ذلك يقول سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ (23)}[الزمر].
والإيمان لا يكون إلا بحديث الله وحده لا شريك له, لقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}[المرسلات]. بل إن الله يجعل من الإيمان بحديثه وحده، مقترناً بالإيمان به وحده, فكما أنه لا إيمان إلا بالله إلهاً, فكذلك لا إيمان إلا بالقرآن حديثاً, وفي ذلك يقول سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)}[الجاثية].
أما الذين يتمسكون بأحاديث أخرى سماها القرآن ﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ فأولئك لهم عذاب مهين, لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}[لقمان] .. وإذا كان الله جل وعلا قد أكرمنا بأحسن الحديث, فكيف نركن إلى غيره ؟!.
وقد تحدى رب العزة أولئك الجهلة بأن يأتوا بحديث مثل حديث القرآن, أو أن يأتوا بسورة من مثله، وفي ذلك يقول سبحانه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}[الطور] .. {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ (38)}[يونس]. والشاهد هنا: أن الذي نزّله الله جل وعلا هو سور وآيات, وليست هناك سور وآيات إلا في القرآن العظيم.
وفي ذاته العلية يقول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}[الشورى]. وعن كتابه العزيز يقول سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}[الإسراء].إذاً لا مثيل للقرآن كما أنه لا مثيل لله جل وعلا - فالله أحد في ذاته وصفاته - ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ومع ذلك يقولون القرآن ومثله معه! فأين هو ذلك المثيل الذي نفى الله وجوده؟ وصدق الله القائل: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)}[الأنعام].
إذاً فالقرآن هو الوحي الوحيد الذي نزل على خاتم النبيين, والبشر مطالبون يوم القيامة بما نزل على ﴿الرُّسُل﴾ من آيات الوحي, يوم القيامة سيقول رب العزة للعباد: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي (130)}[الأنعام]. ولأصحاب النار يقول سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ (71)}[الزمر]. وإذاً فلا حجة بيننا وبين رب العزة إلا آيات الوحي المنزلة على رسله، وهي بالنسبة لنا آيات القرآن الكريم لا غير.
ذكر الله تعالى بالقرآن وحده:
يؤكد الحق تبارك وتعالى أن ذكره لا يكون إلا من خلال قرآنه وحده، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى لخاتم أنبيائه: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)}[الإسراء].والشاهد في الآية الكريمة هو قوله تعالى: ﴿وَحْدَهُ﴾. فمن الاعجاز البلاغي أن تأتي كلمة وحده ليعود الضمير فيها على الله وكتابه بضمير المفرد.
ومشركو قريش لم ينفروا من رسول الله إلا لأنه كان يذكر الله جل وعلا من خلال ما ورد في القرآن الكريم وحده, فالمشركون في كل زمان ومكان يحلو لهم دائماً أن تتعدد لديهم المصادر والآلهة, وتشمئز قلوبهم إذا ذُكر الله وحده دون ند أو ولي أو شريك، وفي ذلك يقول جل شأنه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}[الزمر].
القرآن الكريم بيانه فيه:
القرآن الكريم كتاب مبين في ذاته، وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}[البقرة]. وآيات القرآن العظيم موصوفة بالبينات. والذي جعل الكتاب مبيناً, وجعل آياته بينات هو ربنا العظيم القائل: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾.
وكل المطلوب منا هو أن نتلوا القرآن بتدبر, ومتى ما تلونا الكتاب المبين نطقت آياته البينات بالهدى, فهي لا تحتاج منا إلا التلاوة وعدم الكتمان؛ لذا فإن الله يصف الكتمان بأنه عكس التبيين, ويهدد من يكتم آياته البينات بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ﴾. وفي أهل الكتاب يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (187)}[آل عمران].وهنا يتضح أن تبيين البشر للآيات البينات يتلخص في القراءة بتدبر وعدم الكتمان.
والله تعالى يصف القرآن الحكيم بأنه أحسن تفسيراً، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا(33)}[الفرقان]. فالقرآن يفسّر بعضه بعضاً, ويبين بعضه بعضاً, ومن خلاله نفهم معاني ألفاظه. وهذا هو المنهج العلمي في التعامل البحثي مع القرآن الكريم, ومع أي مصدر تراثي أيضاً, أي أن نلتزم بمصطلحات الكتاب في فهم ما يأتي في ذلك الكتاب؛ أما إذا فهمنا مفردات الكتاب حسب المألوف في عصرنا, فهذا خطأ علمي وبحثي. ومن ينتقي آيات معينة ليُخرج معناها عن السياق الخاص والعام، ويضع لها تفسيراً يتماشى مع تراثه, متجاهلاً عشرات الآيات الأخرى التي تخالفه, فإنه بذلك يقلب الحقائق ويرتكب جريمة بحثية, وهذا بالنسبة للقرآن الكريم من أكبر الكبائر, وهو الزيغ بعينه.
وقد أكد رب العزة أن في القرآن تفصيل كل شيء: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ (111)}[يوسف]. وأنه ما فرط في الكتاب من شيء: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (38)} [الأنعام]. وأن في القرآن تبيان كل شيء: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}[النحل].
والجدير بالذكر، أن البيان في القرآن المبين يرتبط بالهدى والرحمة والبشرى للمسلمين, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}[النحل]. فبيان القرآن هدى للباحثين عن الهدى وسط ركام الغموض والحيرة، كما أنه رحمة بهم حين يبين لهم ما خفي عنهم, ويصل بهم إلى شاطئ الأمان والرحمة الإلهية، وهناك البُشرى بعد الهدى والرحمة. وأيضاً ترتبط تفصيلات القرآن الكريم بالهدى والرحمة, حيث يقول سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}[الأعراف]. فالتفصيلات القرآنية التي شملت كل شيء جاءت هدى ورحمة لأولئك الذين يحتاجون إلى تلك التفصيلات.
وعن العلم الإلهي الذي يحكم التفصيلات القرآنية لتكون هدى ورحمة للمؤمنين, يقول سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}[الأعراف]. لذا فإن العلماء المؤمنين بتمام القرآن والمكتفين به هم فقط الذين يفهمون تفصيلات القرآن المبين, وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}[الأعراف] .. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}[يونس] .. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)}[الروم] .. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)}[فصلت].
والمتكبرين الذين لا يعلمون هم الذين يسعون في آيات الله معاجزين, ومجادلين ومكذبين ببيان القرآن وتفصيله لكل شيء، فيقولون تهاوناً واحتقاراً للقرآن الكريم: (القرآن فقط ..القرآن بس!أين عدد الركعات في القرآن؟أين كيفية الصلاة؟كيف نحج؟) وبعضهم يتساءل ساخراً: (أين أيام الأسبوع في القرآن؟ ). أي أنهم يعتقدون أن الله كذاب ﴿نستعيذ بالله منهم﴾. وهؤلاء يقول الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر]. كما أخبر سبحانه وتعالى عن مصيرهم الأسود فقال: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)}[سبأ].
الفصل الرابع- مطاعن التراثيين في القرآن الكريم والرد عليها:
- المعاجزة في آيات الله تعالى.
- معرفة أهل مكة بالصلاة.
- القرآن الكريم هو الذكر.
- القرآن الكريم هو الحكمة.
المعاجزة في آيات الله تعالى:
رغم كل التأكيدات الإلهية بأن القرآن الكريم نزل تبياناً لكل شيء، وأنه تفصيل كل شيء، وأنه كتاب مبين في ذاته، وأنه أحسن تفسيراً، وأنه الوحي الوحيد الذي نزل من عند الله تعالى، وأن على المؤمنين الاكتفاء به، وعدم الإيمان بأي حديث غيره - وغيرها من التأكيدات التي تناولناها في الفصل السابق - إلا إن هناك من يتهم كتاب الله تعالى بالتفريط والنقصان والاحتياج للبشر, وأن فيه من التشريعات ما يستوجب الحذف والإلغاء, وأنه غامض محتاج لتفسير، موجز محتاج لتفصيل، وناقص محتاج لتكميل، فيختلقون مسائل ومشاكل, ويتوجهون بها لكتاب الله تعالى, ليثبتوا لأنفسهم وللآخرين نقصان كتاب الله تعالى, وتفريطه في شيء وأشياء, وليتهموا رب العزة بالكذب, وقد وصف رب العزة هذا الصنف من الناس بأنهم ﴿فاسقين﴾ جاء ذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}[البقرة].
والمؤمنون بالله جل وعلا لا يسارعون باتهامه سبحانه بالكذب, ولا يقولون معاجزةً: (أين كذا وكذا في القرآن؟). بل يقولون: (صدق الله العظيم). ثم يبحثون في القرآن الحكيم, متدبرين لآياته, متفهمين لمصطلحاته, طالبين من الله الهداية بإخلاص, عندها سيكرمهم رب العزة بالهداية, ويفتح لهم من كنوز القرآن ما لم يتخيلوا؛ فأنوار القرآن الكريم لا تمس ولا تصل إلّا للنفوس والقلوب المطهرة من الشرك، وفي ذلك يقول سبحانه: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}[الواقعة].
على أن الشيطان لم يقدم استقالته, وسيظل له اتباع يشكلون الكثرة الكاثرة من الناس, والاخيرون بدورهم لن يكفوا عن التكذيب بالقرآن المبين, واتهامه بالتفريط وحاجته للبشر كي يكملوه ويوضحوه ويفسروه، وفي سبيل ذلك سيظلون معاجزين في آيات الله تعالى، وستظل تلك مهمتهم ومهنتهم إلى قيام الساعة؛ ولسنا هنا في معرض الرد عليهم وحسب, ولكن لإنصاف القرآن الكريم منهم، ولتبرئته من اتهاماتهم أيضاً، وذلك بالتعرف على منهج القرآن الكريم في تفصيلاته التشريعية, حتى لا يستمر انخداع الناس باتهاماتهم.
وهنا نوضح - مستعينين بالله جل وعلا - أن التفريط: هو إغفال الشيء الضروري الهام وتركه. أما التبيان: فهو التوضيح لما يستلزم البيان والتوضيح, والشيء الواضح بذاته لا يحتاج لمن يبينه ويوضحه, وإلا كان ذلك إهانة للناس واتهاماً لهم بالغباء، علاوة على أنه فضول في الكلام وثرثرة لا تليق بكتاب بشري عادي،فكيف بكتاب الله الذي نزلت تفصيلاته عن علم وحكمة ؟ وهذا وجه من أوجه الاعجاز في القرآن. لذا كان البيان في القرآن لما يتطلب البيان, فكل شيء يستلزم البيان والتوضيح جاء في القرآن بيانه وتوضيحه, وما ليس محتاجاً للبيان، فلا مجال لتفصيله وتبيينه في كتاب أحُكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير.
ومثلاً لو كان العرب حين نزل القرآن الحكيم يجهلون الصلاة، أو عدد ركعاتها, أو كيفيتها، أو مواقيتها, أو أي شيء عنها, لجاءت تفصيلات القرآن المبين لتبين لهم ما يجهلون بالتفصيل, ولكن العرب توارثوا الصلاة جيلا بعد جيل - مثلنا الآن - وكانوا يؤدون الصلاة, ولكن دون أن يقيموها أو يحافظوا عليها - مثلنا الآن أيضاً - فجاء القرآن يخاطبهم ويخاطبنا أيضاً, بعلاج هذا الخلل الخطير في القلب وفي السلوك.
والعجيب أنه مع اختلاف الناس طوال تاريخهم في كل شيء, فقد اتفقوا على عدد الصلوات, وأوقاتها وكيفيتها, ولم تكن لهم بشأنها مشكلة تذكر, فما أن ظهرت الدعوة للاكتفاء بالقرآن العظيم كمصدر وحيد للهداية والتشريع الإلهي, حتى أصبحت الصلاة مشكلة المشاكل, فتكاثرت الأسئلة عن عدد ركعاتها وكيفيتها ومواقيتها .. الخ, وطالما لم تكن تلك الأمور موجودة في القرآن الكريم, فرب العزة يكون عندهم كاذباً - والعياذ بالله - تناسوا أن المجال متاح لمن يريد أن يُكذّب بالقرآن الحكيم, ولمن يريد أن يتهم رب العالمين بالكذب, بل وتناسوا أيضاً أن القرآن العظيم قد أنبأ سلفاً: بأنهم سيفعلون ذلك .. وها هم يحققون إعجاز القرآن الكريم فيهم.
معرفة أهل مكة بالصلاة:
أهل مكة كانوا يعرفون الصلاة ويمارسونها ببركة دعاء الخليل إبراهيم (عليه السلام) : {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)}[إبراهيم]. وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}[الحج].
وعن عمارة المشركين للمساجد، يقول سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}[التوبة]. وعن صلاة المشركين يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}[الأنفال].
حتى أنه يوجد تشابه كبير بين الصلاة التي يصليها المسلمون واليهود, والفاتحة العبرية التي يصلي بها اليهود حتى الآن قريبة الشبه بالنطق العربي للفاتحة القرآنية التي يصلي بها المسلمون أيضاً. فالمشركون كانوا يصلون الصلوات الخمس التي صلاها جميع الأنبياء, إلا أنهم كانوا يذكرون (اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ والمطلب وغيرهم من الأولياء) في الأذان، والتشهد, وخطبة الجمعة، وعند الدعاء, توسلاً بهم إلى الله تعالى, واعتقاداً في شفاعتهم وعصمتهم, وهذا هو الشرك الذي حرمه ذو الجلال والإكرام.
فالله جل وعلا يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)}[طه] .. {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}[الأعراف]. ويؤنب رب العزة المشركين بقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا (12)}[غافر]. فلا يجوز قرآنياً أن نتوسل بمخلوق, ولا يجوز أن يُذكر مع الله مخلوق, ولا يجوز أن يُقرن أسم الله بمخلوق.
وهنا تأتي الأسئلة الغبية: ماذا تقولون في التشهد؟ ماذا تقولون في الركوع والسجود؟ والاجابة بسيطة جداً، نقول في التشهد: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}[آل عمران]. أما في الركوع والسجود فنسبح بحمد ربنا, وهذا الأمر واضح في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)}[السجدة].
وباختصار: فالصلاة في حقيقتها هي استدامة ذكر الله وحده, بشكل يومي وبطريقة منظمة ومتوارثة عملياً, في قيام وركوع وسجود وجلوس, وقراءة الفاتحة وآية التشهد والتسبيح والحمد, بهدف ترسيخ التقوى في النفوس يومياً.
القرآن الكريم هو الذكر:
يُسيء أكثر الناس فهم قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾. والسبب أنهم يقطعون هذا الجزء من الآية عما قبله, ويتخذونه دليلاً على وجود مصدر آخر مع القرآن العظيم، وعندهم أن هناك ذكراً آخر نزل على الرسول, ليبين به القرآن الذي نزل للناس؛ وحتى نفهم الآية الفهم الصحيح, علينا أن نتدبر السياق القرآني, لأنه لا يمكن فهم الآية بدونه.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}[النحل]. أي أن الله جل وعلا أرسل الأنبياء السابقين لأهل الكتاب ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ وأنزل معهم البينات والزبر (الكتب) ثم وجه الخطاب للرسول فقال له: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾. أي القرآن الكريم ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾. أي لتوضح لأهل الكتاب ما سبق إنزاله إليهم من البينات والزبر لعلهم يتفكرون.
وكلمة الناس في قوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ لا تدل على عموم البشر, وإنما تدل على أهل الكتاب الذين نزلت فيهم الكتب السماوية السابقة, فاختلفوا فيها، وحرفوا بعض ما جاء بها. واستعمال كلمة الناس لتدل على طائفة معينة أشار إليها السياق وورد في القرآن الحكيم كثيراً, كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا (173)}[آل عمران]. وفي قصة نبي الله يوسف (عليه السلام): {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)}. فكلمة الناس هنا لا تعني عموم البشر, وإنما تعني طائفة معينة ورد ذكرها في السياق القرآني الذي يتحدث عن الموضوع.
والآية السابقة من سورة النحل فسرتها آية لاحقة في نفس السورة, حيث يقول سبحانه: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}.
فوظيفة القرآن الكريم بالنسبة لأهل الكتاب هي تبيين الحق في كتبهم السماوية, وفي ذلك يقول سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}[المائدة].
وعن دور القرآن الكريم في توضيح الحق لبني إسرائيل، يقول سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)}[النمل]. وكل ذلك يؤكد أن كلمة الذكر من أوصاف القرآن الكريم ومرادفاته.
القرآن الكريم هو الحكمة:
أيضاً يُسيء أكثر الناس فهم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (2)} [الجمعة]. والشائع بينهم أن الكتاب شيء والحكمة شيء آخر, وحجتهم أن العطف بالواو يقتضي المغايرة.
والواقع أن العطف بالواو في القرآن الحكيم يأتي غالباً للتبيين والتوضيح والتفصيل وليس للمغايرة, ودليلنا قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)}[الأنبياء]. فالفرقان والضياء والذكر, كلها أوصاف توضح وتفصل وتبين معنى التوراة. وفي موضع آخر يقول سبحانه وتعالى عن التوراة في حديثه عن موسى وهارون (عليهما السلام) : {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)}[الصافات]. فالتوراة أو الكتاب المستبين هي نفسها الفرقان والضياء والذكر, والعطف هنا معناه التوضيح والتفصيل لمعنى واحد وليس للمغايرة.
والله جل وعلا، يقول لعيسى ابن مريم (عليهما السلام): {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (110)}[المائدة] .. {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}[آل عمران]. ولا يعني هذا أن الله علّم عيسى أربعة أشياء منفصلة أو مختلفة، فالكتاب والحكمة أوصاف للتوراة والإنجيل، والدليل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ (63)}[الزخرف]. فالحكمة هنا تعني الإنجيل الذي جاء به عيسى، والآية هنا تلخص ما جاء في الآيتين السابقتين عن الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.
وبالنسبة لخاتم النبيين (عليهم السلام) فقد جاءته أوامر متتالية في سورة الإسراء ﴿22-39﴾ تبدأ بقوله تعالى: ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً﴾ وفي نهاية هذه الأوامر قال سبحانه: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ﴾. إذاً فكلمة الحكمة من أوصاف القرآن الكريم ومن مرادفاته, شأنها شأن كلمات أخرى مثل الفرقان والنور والحق وغيرها من الأوصاف.
ودليلنا الأخير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ (231)}[البقرة]. فلو كانت الحكمة شيئاً آخر غير القرآن الحكيم لقال جل جلاله: ﴿واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم بهما﴾. ولكن لأن الحكمة من مرادفات القرآن الكريم, فقد عاد الضمير عليهما بصيغة المفرد, فقال سبحانه: ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾.
الفصل الخامس- النبوة والرسالة:
-النبي.
-الرسول.
-مداهنة المشركين للنبي / الرسول.
-الاحتكام للرسول / النبي.
النبي:
النبي هو ذلك الرجل الذي يختاره رب العزة لينبئه بالوحي ليكون رسولاً للناس, أي هو شخص النبي في حياته العامة وشئونه الخاصة, وتصرفاته البشرية، وعلاقاته الانسانية بمن حوله. وقد كان خاتم النبيين مثلاً أعلى في ذلك كله، كان فصيح اللسان, عالي الهمة، نجح في إبلاغ الدعوة، وتكوين الأمة، وإقامة الدولة. وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية واجتماعية ومالية, إلا أنه نجح في التغلب عليها بتوفيق الله تعالى .. وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به, وهذا لا يقلل من قدره أبداً، كونه في نهاية المطاف بشر.
وقد أورد التاريخ في كتب الأحاديث، والسيرة النبوية، وأسباب النزول، وغيرها, الكثير من الأحداث والأقوال المنسوبة لخاتم النبيين, وهي أخبار لا تخلو من الكذب, وتحتاج إلى جهد الباحثين لفحصها وتمحيصها, ومعرفة الصحيح والكاذب منها, وجهد الباحثين في الاختبار والتمحيص ليس إلا جهداً بشرياً قابلاً للخطأ والصواب ..شأن الروايات التاريخية نفسها.
ميزان الصحة في تلك النوعية من الروايات, هو عدم تناقضها مع القرآن العظيم, وكلها إن صحت حقائق تاريخية نسبية, وليست جزءاً من الإسلام, وبالتالي فإن تصديقها أو تكذيبها لا يدخل في دائرة الإيمان, بل في دائرة البحث العلمي التاريخي, ولو انكرت كل تاريخ المسلمين, فلن تكون مساءلاً عن ذلك يوم القيامة .. ولكن لن يكون لك في الدنيا مكان بين العقلاء.
والقرآن الكريم ذكر أقوالاً لخاتم النبيين امتدحه في بعضها, كقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}[آل عمران]. وعاتبه في بعضها الآخر, كقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (37)}[الأحزاب]. ولكن العتاب كان يأتيه دائماً بوصفه النبي, ولم يأت مطلقاً عتاب له بوصفه الرسول.
وكان الحديث القرآني عن علاقته بأزواجه, يأتي أيضاً بوصفه النبي, كقوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا (3)}[التحريم]. وكان القرآن يخاطب أمهات المؤمنين, فلا يقول يا نساء الرسول, وإنما يا نساء النبي, كقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ (30)} [الأحزاب]. وكان الحديث عن علاقته بمن حوله يأتي أيضاً بوصفه النبي؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ (53)} [الأحزاب]. ولم يأت مطلقاً: ﴿ما على النبي إلا البلاغ﴾. وإنما: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ (99)}[المائدة].ولم يأت مطلقاً: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا النبي﴾ وإنما: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (33)}[محمد]. فالبلاغ والطاعة مرتبطان برسالته؛ كما أن معنى النبي مرتبط ببشريته.
خاتم النبيين هو بشر مثلنا، ولكن يوحى إليه، وهذا الوحي القرآني لا يخرجه من مستواه البشري على الاطلاق, فغاية ما هناك أنه لابد للوحي من لسان بشري يخاطب به الناس, وفي ذلك يقول سبحانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)}[مريم].
وعلى النبي أن يتبع القرآن مثل غيره, لقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (2)}[الأحزاب]. وعليه كالآخرين مسئولية التمسك بالقرآن, لقوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ (43)}[الزخرف]. وسيكون مسائلاً عن القرآن مثله مثل غيره, لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) }[الزخرف].
أي هي مساواة بين النبي والناس في المسئولية وفي الحساب, فهناك مساواة بينه وبين خصومه في استحقاق الموت، وفي التخاصم يوم الحساب أمام الله جل وعلا، جاء ذلك في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر].
وهناك مساواة بينه وبين الناس يوم الحساب، فلن يحملوا من حسابه شيء, ولن يحمل هو من حسابهم شيء أيضاً, وفي ذلك يقول سبحانه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ (52)}[الأنعام]. وفي الآخرة لن يستطيع النبي إنقاذ أحد من النار, لقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}[الزمر].وحتى في معاقبة المشركين دنيوياً ليس له من أمرهم شيء، لقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ (128)} [آل عمران].
وأكثر من ذلك فخاتم النبيين لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا رشداً, وفي ذلك يأمره رب العزة أن يقول للناس: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا (188)}[الأعراف] .. {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)}[الجن].
الرسول:
للرسول في القرآن الحكيم معاني عديدة، وهي كالتالي:
1- الرسول بمعنى النبي, جاء ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ (40)}[الأحزاب]. والظريف أن هناك من يزعمون أنهم أبناء خاتم النبيين, والعجيب أن هناك من يصدقهم !.
2- الرسول بمعنى جبريل, جاء ذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}[التكوير].
3- الرسول بمعنى الملائكة, فعن ملائكة تسجيل الأعمال يقول سبحانه: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}[الزخرف]. وعن ملائكة الموت يقول سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ (37)}[الأعراف].
4- الرسول بمعنى الرجل الذي يحمل رسالة من شخص إلى آخر, كقول نبي الله يوسف (عليه السلام) لرسول الملك ارجع إلى ربك, جاء ذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ (50)}[يوسف].
5- الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة, جاء ذلك في قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)}[فصلت]. وينطبق هذا المعنى على جميع الأوامر التي تحث على طاعة الله ورسوله, فكلها تدل على طاعة كلام الله الذي أنزله على رسوله.
والرسول بمعنى القرآن يعني أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن, وهو كتاب الله تعالى، نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}[آل عمران]. أي أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا, ومن يعتصم بكتاب الله فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم.
وكلمة الرسول في أغلب الآيات القرآنية تعني القرآن بوضوح شديد, كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ (100)}[النساء]. هذه الآية تقرر حكماً عاماً, فالهجرة في سبيل الله وفي سبيل رسوله (القرآن) قائمة ومستمرة إلى قيام الساعة.
والرُسل إذا بلغوا الرسالة أصبحوا شهوداً على أقوامهم, و (شهد على - عكس -شهد لــ ) فإذا شهدت على فلان, كُنت خصماً له, أما إذا شهدت لفلان, فقد صرت مدافعاً عنه شفيعاً له. والنسق القرآني يجعل من الرسول خصماً وشاهداً علينا يوم القيامة, وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ (15)}[المزمل]. ويقول أيضاً: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}[النساء].
وهنا نتذكر شهادة خاتم النبيين علينا يوم القيامة، حيث يقول سبحانه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)}[الفرقان]. فهذه هي شكواه علينا يوم الدين، وهذه هي الجناية الكبرى التي جنيناها على أنفسنا, وهي أننا اتخذنا القرآن العظيم مهجوراً, بأن اكتفينا باتخاذه أغنية للمقرئين والمنشدين في الحفلات العامة ومناسبات العزاء، ورقية وحجاباً في البيت والسيارة والمكتب؛ فأصبح مجرد رمز للبركة للمعتقدين في الأزوار والأرواح الشريرة، هجرناه بإبعاده عن واقع حياتنا العملية، بينما طبقنا كتب الزيف والضلال, واتبعنا أولياءها وأئمتها.
مداهنة المشركين للنبي / الرسول:
الآيات القرآنية تؤكد على بشرية النبي، وتثبت أن النبي كان بشراً مثلنا، وأن بإمكان الآخرين خداعه وتضليله، وأن عصمته لم تكن إلا من خلال الوحي القرآني فقط، وفي ذلك يأمره رب العزة أن يقول للناس: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي (50)} [سبأ]. حيث كان الوحي ينزل ليوضح له الحق, ويأمره بالاستغفار من الذنب .. واضفاء العصمة المطلقة على النبي إنما هو تأليه له، ووقوع في الشرك.
وتلفت النظر تلك الكراهية الشديدة من المشركين للقرآن الكريم, ومحاولتهم مع النبي ليغير في كلام القرآن أو أن يبدله، وكان النبي يرد على مطلبهم هذا بإعلان خوفه من عذاب الله العظيم, وأنه لا يستطيع عمل ذلك أصلاً, والدليل أنه لبث فيهم سنين قبل نزول القرآن وهو مثلهم لا يدري بشيء عن الهدى، نقرأ في ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}[يونس].
فقد كان السيد محمد بن عبد الله، قبل نزول القرآن الكريم عليه ابن عصره، يعيش في مجتمع له ما له وعليه ما عليه، فعن جهله بالكتاب والإيمان، يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}[الشورى].
وعن حالة الضلال التي كان غارقاً فيها، يقول سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}[الضحى]. وعن حالة الغفلة التي كان سارحاً فيها، يقول سبحانه:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}[يوسف].
بعد نزول القرآن العظيم عليه، أحكم المشركون الحصار حوله، يحاولون مداهنته، ويطمعون في أن يصلوا معه إلى حل وسط؛ فحذره رب العزة بقوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}[القلم].
ولكنهم استمروا في سعيهم, وكادوا أن يؤثروا عليه, إلا أن عصمة الله للوحي كانت أسرع من كيدهم، وتعبير القرآن في وصف ما حدث أقوى مما يمكن أن نصفه نحن، نقرأ ذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}[الإسراء].
وأكثر من ذلك, ففي القرآن شهادة للرسول, تبرئه من الأحاديث المنسوبة إليه, وتثبت أنه لم يتقول على الله شيئاً, وأنه لم يتحدث في دين الله إلا من خلال القرآن الكريم، جاء ذلك في قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}[الحاقة]. وحيث أن تلك العقوبة الهائلة لم تحدث, فهي شهادة للرسول بأنه لم يتقول على الله شيئاً آخر.
الاحتكام للرسول / النبي:
كان خاتم النبيين حاكماً مسئولاً عن الدولة وقائداً للأمة، وكان المسلمون يحتكمون إليه في أمورهم وقضاياهم، وكان يحكم بينهم بصفته الرسول الذي ينطق بحكم الله تعالى - ومفهوم الحكم في القرآن يعني التحاكم القضائي وليس الحكم السياسي - والقاعدة الشرعية المستنبطة من القرآن تقول: (أن الحكم لله وحده في كل الأمور, وينبغي على كل فريق أن يرضى بحكم الله تعالى).نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ (10)}[الشورى].
وقد أمر الله جل وعلا خاتم أنبيائه أن يقول للناس: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا (114)}[الأنعام]. فالحكم لله وحده في قرآنه الذي نزل مفصلاً. والذي كان ينطق بذلك الحكم ويبلغه للناس هو رسول الله, لذا تقول آية أخرى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (59)}[النساء]. وحتى لا يقول قائل: (إن الرسول قد مات, وترك لنا كلاماً غير القرآن نحتكم إليه). فإن الله قد أوضح لنا أن الرسول كان يعتمد على القرآن في كل أحكامه، وهذا ما نفهمه من موقف المنافقين.
كان المنافقون يحتكمون للرسول إذا كان الحق في جانبهم, أما إذا لم يكن الحق معهم أعرضوا عن حكمه, ويبين القرآن موقفهم هذا فيقول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)}[النور]. ويقول أيضاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}[النساء]. فقد كان المنافقون يصدون لأن الرسول كان يحكم بما أنزل الله, أي بالقرآن الكريم لا غير.
في حين يصف الله المؤمنين بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}[النور]. ولو كان الرسول شيئاً آخراً منفصلاً عن كلام الله تعالى, لجاء الفعل مثنى؛ ولقال سبحانه: ﴿وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم﴾. ولقال أيضاً: ﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم﴾. ولكن لأن الله هو الحكم الذي لا يشرك في حكمه أحداً, ولأن الرسول هو الذي ينطق بكلام الله لا غير, فقد جاء الفعل مفرداً, يعود الضمير فيه على واحد لا إله إلا هو, فقال سبحانه: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾.
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}[النساء] قال: ﴿حُدُودَهُ﴾. ولم يقل: ﴿حدودهما﴾. وفي موضع ثالث يقول سبحانه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}[التوبة]. قال: ﴿يُرْضُوهُ﴾. ولم يقل: ﴿يرضوهما﴾ .. فتأملوا يرحمكم الله.
الفصل السادس- تفنيد أخطر الشُبه المتعلقة بالرسول والرسالة:
-السُنة.
-الاسوة.
-طاعة الرسول / النبي.
-وما آتاكم الرسول فخذوه.
السُنة:
حينما تُذكر كلمة السُنة تنصرف أذهان الناس نحو تلك المجاميع الحديثية المشحونة بآلاف الروايات المنسوبة للنبي زوراً وبهتاناً، وذلك بسبب هول التضليل والتزييف الذي مارسه كهنة المعبد على الناس عبر مئات السنين؛ ولكننا حينما نتدبر آيات الذكر الحكيم، نجد أن للسُنة شأناً آخر. فالسُنة هي الشرع، وهي الطريقة والمنهاج. وبهذين المعنيين جاءت كلمة السُنة في القرآن الحكيم منسوبة لله تعالى ولشرعه, ولطريقته في التعامل مع البشر.
كانت عادة المشركين الاستكبار عن الحق, والمكر السيئ بالمؤمنين، وكانت سنة الله معهم أن يحيق بهم مكرهم السيئ, وفي ذلك يقول سبحانه: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}[فاطر]. وكان المشركون يرغمون المؤمنين على الهجرة من ديارهم, لذا كانت سنة الله إهلاك المشركين أو تعذيبهم, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}[الإسراء].
وكانت سنة الله تعالى أن ينهزم المشركين أمام المسلمين, إذا صدق المسلمون في إيمانهم، وجاهدوا في الله حق الجهاد, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)}[الفتح].
وقد تآمر المنافقون في المدينة على المسلمين أثناء حصار الأحزاب, فهددهم رب العزة بأنه سيجري عليهم سنته في التعامل مع المشركين إن لم ينتهوا عن مكرهم السيئ, جاء ذلك في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} [الأحزاب].
ونحن نتحدث في لغتنا العادية فنقول: (سنّ قانوناً). أي شرع قانوناً. وحين يُسن القانون يكون ملزماً للناس, ولابد من طاعته، وهذا المعنى جاء في قوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)}[الأحزاب]. ففي الآية نجد (سنة الله) مرادفة لكلمتي: (فرض الله، وأمر الله) الذي جعله الله قدراً مقدوراً.
إذاً سنة الله بمعنى الشرع: هي الفرض والأمر الإلهي الواجب التنفيذ. وكان تعبير القرآن عنها: أنه لا تبديل ولا تحويل لسنة الله. وكان على النبي أن ينفذ سنة الله حتى لو كان فيها حرج عليه. وينبغي علينا أن نعلم: أنه لا فارق بين السنة والفرض, لأنهما شرع الله الواجب التنفيذ، فــ الصلاة والزكاة والجهاد والصوم .. الخ, كلها سنن الله وفرائضه التي نسأله أن يحيينا بها ويميتنا عليها.
الاسوة:
يستدل التراثيون بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (21)}[الأحزاب]. ليثبتوا لأنفسهم وللآخرين مشروعية تلك المصادر التشريعية البشرية التي أضافوها للإسلام. ونحن لا نختلف مع أحد بأن التأسي برسول الله من الأمور التي أوجبها القرآن العظيم علينا، ولكننا نختلف معهم في تحديد ماهية وكيفية التأسي به. فتأسيهم بالرسول يأتي من خلال الاتباع الأعمى لتلك المرويات الكاذبة التي يسمونها سُنة، أما تأسينا برسول الله فيأتي من خلال اتباع القرآن الحكيم لا غير .. على أنه من المفيد لنا أن نستزيد فهماً للآية الكريمة من خلال السياق الذي جاءت فيه.
الواضح أن الآية نزلت في التعليق على غزوة الأحزاب، حيث انقسم أهل المدينة أثناء الحصار إلى فريقين: المنافقون وقد تخاذلوا، وفيهم يقول رب العزة: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)}[الأحزاب]. ثم المؤمنون الذين تماسكوا وثبتوا، وفيهم يقول رب العزة: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}[الأحزاب].
وقد كان رسول الله القدوة في الشجاعة والثبات؛ لذا قال تعالى عن موقفه هذا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.وكان بين المؤمنين من تأسوا بالنبي في الشجاعة وفاقوا أقرانهم, فقال تعالى عن موقفهم هذا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)}[الأحزاب].
إذاً فالتأسي بالرسول كان في سياق قصة معينة وموقف محدد, ويؤكد ذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بالتأسي بإبراهيم والذين معه حين تبرءوا من قومهم, وفي ذلك يقول سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (4)} [الممتحنة] .. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (6)}[الممتحنة]. فقد حدد القرآن الحكيم الموقف الذي ينبغي التأسي بهم فيه وهو: ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
وكما أمر الله المؤمنين بالتأسي برسوله في موقف معين, فقد أمر رسوله بالاقتداء بهدي الأنبياء السابقين، وفي ذلك يقول سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (90)}[الأنعام]. لم يقل سبحانه: ﴿فبهم اقتده﴾. وإنما قال: ﴿فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾. ولم يأمر الله خاتم النبيين بالاقتداء والاتباع لإبراهيم, وإنما أمره باتباع ملة إبراهيم, وفي ذلك يقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (123)}[النحل]. فالاقتداء والتأسي على الاطلاق إنما يكون لشرع الله وسنته وحده لا شريك له.
طاعة الرسول / النبي:
لا يترك التراثيون آية في القرآن تحث على طاعة الرسول إلا استدلوا بها، ليس لله وفي الله، ولكن في سبيل ترسيخ سخافات البخاري والكافي وغيرهما في عقول العوام، ونحن نقول دائماً وأبداً: لا خلاف بيننا وبين أحد في وجوب طاعة الرسول، ولكن من خلال ماذا تكون الطاعة ؟ هل تكون من خلال الرسالة؟أم من خلال المفتريات؟ .. وهذا هو مربط الفرس.
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}[آل عمران]. وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (59)}[النساء]. فهل الطاعة في الدين لواحد؟ أم لاثنين؟ أم لثلاثة؟ المطاع في الدين واحد، وهو الله الأحد، في أوامره القرآنية التي نطق بها الرسول أو من يقوم بالأمر بعده .. لأن الطاعة ليست لشخص النبي أو لمن ينطق بالقرآن الكريم، ولكنها للقرآن المنطوق.
والقاعدة الشرعية المستنبطة من القرآن الحكيم تقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وأولي الأمر هم أصحاب الخبرة والاختصاص في الموضوع المطروح للنقاش والتشاور, حيث يتعذر على جمهور المسلمين أن يتخصصوا في كل شيء .. فأولي الأمر منا هم خبراؤنا, وطاعتهم واجبة في حدود تخصصهم, وفي إطار طاعة الله جل وعلا.
وقد كانت طاعة النبي نفسه مقيدة في إطار طاعة الله وحده، نفهم ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ (12)}[الممتحنة].
والشاهد في الآية هو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ فلو قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾. لكانت طاعته مطلقة, لأنها طاعة للرسالة أي لكلام الله تعالى، ولكن لأنه خاطبه بوصفه النبي, فقد جعل طاعته مقيدة بالمعروف, فقال سبحانه: ﴿وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾.
فالطاعة للرسول هي طاعة لله صاحب الوحي, والنبي هو أولى الناس بطاعة الله تعالى، وكذلك أولو الأمر ينبغي أن يكونوا أولى الناس بطاعة الله, وإلا فلا طاعة لهم, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ (64)}[النساء].
ولذلك فإن كل نبي جاء قومه برسالة كان يخاطبهم بوصفه الرسول, فيطلب منهم أن يطيعوه على أساس الرسالة، جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ , فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾. ولم يقل أحد من رسل الله تعالى لقومه: ﴿إني لكم نبي أمين , فاتقوا الله وأطيعون﴾. إذاً فطاعة الرسول هي طاعة الرسالة.
ونحن شخصياً لم نتشرف بمعرفة خاتم النبيين شخصياً, ولا نتبعه لشخصه, وإنما نتبع النور الذي أُنزل معه, وهو القرآن الكريم؛ امتثالاً لقول الله جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (157)}[الأعراف].
وهنا يأتي السؤال التقليدي، حيث يبادرنا أحد البهاليل بقوله: إذا كان هذا كلامكم فأين الاتباع للنبي؟ والجواب: (إن الاتباع للنبي هو الاتباع للقرآن العظيم الذي كان يتبعه النبي).
وما آتاكم الرسول فخذوه:
الحقيقة أن أغلب الناس يجهلون معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾. ذلك أن كهنة الدين يقطعونها عن السياق, ويلوون عنقها ويحرفون معناها, ليستدلوا بها على مشروعية المصادر البشرية الأخرى التي أضافوها للإسلام.
وحتى نفهم المدلول الحقيقي للآية, ينبغي أن نقرأها من أولها, يقول سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا (8)}[الحشر].
فالآية كما هو واضح تتحدث عن الفيء - أي ما يفيء إلى بيت المال بلا حرب أو قتال - وعن توزيعه على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء, وتقول للمؤمنين: (وما آتاكم الرسول من هذا الفيء فخذوه, وما نهاكم عن التطلع إليه فانتهوا). ثم تبين الآية التالية استحقاق الفقراء المهاجرين لذلك الفيء, كونهم تركوا أموالهم وديارهم إبتغاء فضل الله ورضوانه.
وقد كانت عادة سيئة للمنافقين في المدينة أن يربطوا رضاهم عن الإسلام بمدى استفادتهم المالية منه, فمع أنهم أغنياء إلا أنهم كانوا يزاحمون الفقراء في الحصول على الصدقات؛ وعن ذلك يقول سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}.
وهذه الآيات من سورة التوبة توضح المعنى المقصود لقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾. فشأن المؤمن أن يرضى بما آتاه الرسول, وشأن المنافق أن يطمع فيما ليس من حقه, وألا ينتهي عن طمعه.
وقد يقال في الرد علينا: (إن القاعدة الأصولية تقطع, بأن خصوص السبب لا يمنع عموم الاستشهاد). فإذا كانت الآية تتحدث عن الفيء, فإن قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾. عامة في وجوب الأخذ بكل ما آتانا به الرسول, وبوجوب الانتهاء عن كل ما نهانا عنه.
ورداً عليهم نقول ما قاله رب العزة: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)}[آل عمران]. وقد منَّ الله جل وعلا بفضله هذا على خاتم النبيين, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}[الحجر]. ويقول أيضاً: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)} [طه]. وأكثر من ذلك يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ (41)}[الزمر].
فهذا الكتاب - القرآن الكريم -هو الذي نزل على الرسول لنا، وهو ما أتانا به الرسول, وعلينا أخذه والتمسك به, والانتهاء عما نهانا عنه.
الفصل السابع - التشريع الإسلامي وحدود الاجتهاد:
- دور الأنبياء والرسل ومسئولية الناس.
- كلمة (قُل).
- حدود الاجتهاد في شرع الله تعالى.
- درجات التشريع الإسلامي.
- مبادئ الإسلام السبعة.
دور الأنبياء والرُسل ومسئولية الناس:
المؤمنون بالقرآن الحكيم، يؤمنون بأن الأنبياء هم أصلح البشر لتحمل مسئولية الرسالة, وإلا لما اختارهم الله جل وعلا، نفهم ذلك من قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (124)}[الأنعام]. على أن مسئولية الرسل تنحصر أساساً في التبليغ فقط, فالرسول ليس مصدر الدين أو الشرع, لقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ (99)}[المائدة].
والنسق القرآني هنا جاء بأسلوب القصر والحصر, الذي يحصر مهمة الرسول في إبلاغ الرسالة فحسب، حتى أن هذه الآية القرآنية أصبحت مثلاً يقال على السن الناس بشكل اعتيادي، وتبليغ الرسالة معناه: ايصالها كما هي دون زيادة أو نقصان.
وتكليف الله لخاتم النبيين بالرسالة لا يعني مسئولية الرسول عن هداية الناس, لأن الهداية مسئولية شخصية لكل إنسان، من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر؛ وما على الرسول إلا قول الحق، وتبليغ الرسالة، ثم يكون كل إنسان حراً في قبولها أو رفضها, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29)}[الكهف].
ومن اقتصار مهمة الرسول على تبليغ الرسالة, يمكن أن نستنتج أن تدبر الكتاب, والاجتهاد في فهم معانيه من مسئولية الناس, وهذا الاستنتاج العقلي قد أثبته القرآن قبلنا، حيث يقول سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}[ص]. فالنسق اللغوي في الآية كان يقتضي أن يقال للرسول: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك لتتدبر آياته﴾. ولكن التدبر في الكتاب مسئولية تقع على عاتق الناس وليس الرسول.
وأكثر من ذلك, يؤكد القرآن الكريم على مسئوليتنا في التدبر، فيقول سبحانه وتعالى, بتعبير الاستفهام الإنكاري: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}[النساء] .. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}[محمد] .. {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)}[المؤمنون].
والله جل وعلا يخبرنا أن القرآن الكريم بصائر لنا, ودعانا إلى تبصره, وأوضح لنا أنه لا شأن للرسول بنا بعد أن أدى مهمته في التبليغ، وفي ذلك يقول سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}[الأنعام]. وإذاً فما على الرسول إلا البلاغ، وعلينا بعد ذلك التبصر والتدبر في كتاب الله جل وعلا طلباً للهداية.
كلمة (قُل):
يتميز القرآن العظيم بكثرة ورود كلمة ﴿قُلْ﴾ على نحو يختلف به عن التوراة والإنجيل اللذين بين أيدينا, وقد وردت هذه الكلمة (332) مرة لأهميتها, وهي تعني أن هناك أقوالاً محددة أمر الله رسوله أن يقولها للناس رداً على طلباتهم واستفساراتهم.
وباستقراء المواضع القرآنية التي جاءت فيها كلمة قل, نتأكد أن القرآن الحكيم كان يتابع الرسول بإجابات مستفيضة ومتكررة عن كل شيء يحتاجه الناس, بحيث لم يكن لدى الرسول مجال أو متسع أو تصريح ليتكلم في دين الله من عنده, وهذا يعني أن أقوال الرسول وأحاديثه كانت من داخل القرآن الكريم .. خصوصاً ما كان فيها الأمر الإلهي قل.
والذي لا شك فيه, أن النبي بعقليته كان أصلح الناس للاجتهاد والافتاء، وكان منتظراً منه أن يبادر بالإجابة على من يسأله أو يستفتيه في أمور الدين، ولكن الواقع القرآني يؤكد أن النبي كان ينتظر نزول الوحي ليأتي بالإجابة، فينزل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ .. قُلْ﴾ ..﴿يَسْتَفْتُونَكَ .. قُلْ﴾. ولم يقل: ﴿يستفتونك .. قل إني أفتيكم﴾ وإنما: ﴿قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ﴾. ومن مراجعة كلمتي يسألونك ويستفتونك مع كلمة قل, نتعرف على الحقائق التالية:
1- كانوا يسألون النبي عن أشياء جديدة في التشريع, وكان النبي ينتظر معهم الحكم التشريعي الجديد الذي ينزل به القرآن الكريم .. كسؤالهم عن الأنفال أو الغنائم.
2- كانوا يسألون النبي عن ايضاحات جديدة في أمور تحدث عنها القرآن من قبل, وكان بإمكان النبي أن يجيب بالاستنتاج والقياس، ولكنه لم يفعل وانتظر الاجابة من الله جل وعلا .. كسؤالهم عن الخمر.
3- كانوا يسألون النبي عن أمور تكرر حديث القرآن عنها, ومع ذلك لم يتل عليهم الاجابة من الآيات التي نزلت من قبل, وإنما كان ينتظر نزول الوحي, فينزل بإجابات تؤكد ما سبق بيانه .. كسؤالهم عن اليتامى.
4- كانوا يسألون النبي عن أشياء لا نشك لحظة في أنه كان يعرف الاجابة عنها من خارج القرآن، ومع ذلك لم يبادر بالإجابة من عنده, وإنما انتظر نزول الوحي .. كسؤالهم عن المحيض.
5- وأكثر من ذلك, فهناك حقيقة قرآنية مؤكدة, وهي أن النبي لا يعلم الغيب, ولا يعلم موعد قيام الساعة, ولا ما سيحدث له أو للناس, وأن علم الساعة لله وحده, وفي ذلك يأمره رب العزة أن يقول للناس: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ (9)}[الأحقاف] .. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ (188)}[الأعراف].
وقد وردت آيات كثيرة تؤكد هذه الحقيقة القرآنية, وكانت تكفي آية واحدة لو كانوا يعقلون، ولكنهم سألوا النبي عدة مرات عن الساعة، ومع ذلك لم يبادر بالإجابة بأن يقرأ عليهم الآيات السابقة, وإنما انتظر نزول الوحي، وكان الوحي ينزل دائماً بنفس الاجابة: (وهي أن علم الساعة لله وحده, وأن النبي لا يعلم الغيب). ولو كان من حق النبي الاجتهاد والافتاء, لأجاب منذ السؤال الأول أو الثاني.
على أن كل تلك التأكيدات القرآنية لم تأت عبثاً, فبالرغم من كل ذلك أسند الناس للنبي آلاف الأحاديث التي تتحدث عما سيحدث بعد موته, وعن علامات الساعة وأحداثها, وأحوال أهل الجنة وأهل النار.
تلك الأحاديث التي ملأت الكتب المسمومة المسماة (صحاح) تؤكد إعجاز القرآن الحكيم, لأننا نفهم الآن لماذا كرر الله جل وعلا كل تلك التأكيدات؟ وذلك ليرد عليهم سلفاً ومسبقاً. كل تلك الأحاديث الكاذبة تضعنا في موقف اختبار أمام الله تعالى, فإما أن نصدق القرآن العظيم ونكذبها، وإما أن نصدقها ونكذب الله جل وعلا .. ولا مجال للتوسط.
حدود الاجتهاد في شرع الله تعالى:
كانت مسئولية النبي أن يجتهد في طاعة الله تعالى وتطبيق أوامره وتنفيذ شريعته، وحتى في ذلك أمره الله أن يشاور المؤمنين في الأمر، ولو كان للنبي حق الشرح والتشريع لأصبح للدين مصدران، وكان لابد حينئذ أن يحظى المصدر الثاني بحفظ الله تعالى .. شأنه شأن المصدر الأول, ولكن ذلك لم يحدث؛ لأن مسئولية الرسول تنحصر في التبليغ, وليس من مسئوليته التشريع. ونضيف إلى ذلك: أنه طالما كان الوحي ينزل, والشرع لم يكتمل بعد, فلم يكن هناك مجال للاجتهاد في التشريع.
ولكن، هل يصلح اجتهاد النبي في التطبيق لمن جاء بعده من المؤمنين ؟ إن اجتهاده في التطبيق للنصوص الشرعية، كان يخضع لإمكاناته البشرية وظروف الزمان والمكان, وهي مختلفة بالتأكيد عن ظروفنا, وبالتالي فليس اجتهاده التطبيقي في عصره ولعصره ملزم لمن جاء بعده؛ ومثلاً يقول سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ (60)}[الأنفال]. كان اجتهاد النبي في التسلح والاستعداد العسكري محكوماً بظروف عصره، فهل نتمسك بذلك أم نجتهد بما يناسب العصر ؟ بالتأكيد نجتهد بما يناسب عصرنا.
والسؤال الآن: ما هي حدود الاجتهاد في شرع الله, ومتى يكون مباحاً, ومتى يكون محظوراً ؟ إن الله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ (21)}[الشورى]. ومع نبرة الهجوم والتخويف في الآية من ذلك التشريع الذي لم يأذن به الله جل وعلا, إلا أن في الآية تصريح بوجود تشريع يرضى عنه سبحانه, إذا جاء في الحدود التي يأذن بها سبحانه.
والملاحظ أن آيات التشريع القرآني محدودة, فهي أقل من مائتي آية, أي ما يعادل حوالي (1/30) من آيات القرآن الكريم، وآيات التشريع القرآني على قلتها ومحدوديتها تعني أن تشريع القرآن ترك هامشاً للحركة الانسانية للاجتهاد والتطور وفق المتغيرات, ولكن ينبغي أن يكون ذلك في الإطار العام لتشريعات القرآن التي تهدف إلى إقرار القيم الانسانية العليا المتعارف عليها في كل زمان ومكان، من: العدل والقسط والمساواة والحرية والسلام والإحسان إلى الرحمة والرفق والعفو والتيسير وحفظ الحقوق والدماء .. الخ. وتفصيل القول في تشريعات القرآن, ومواضع الاجتهاد فيها يحتاج إلى مجلد كامل، ولكن نكتفي هنا بإشارات سريعة:
درجات التشريع الإسلامي:
تقوم التشريعات الإسلامية عموماً على ثلاث درجات: (أوامر، وقواعد، ومقاصد). تخضع الأوامر التشريعية في تطبيقها للقواعد التشريعية, بينما تخضع القواعد للمقاصد, وقد جاءت الأوامر وأساسها التخفيف والتيسير وليس التعسير, وفي ذلك يقول سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (185)}[البقرة] .. ويقول أيضاً: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}[النساء].
هذه القاعدة هي الأساس في تشريعات الإسلام, وتنفيذ هذه القاعدة يخضع للتقوى، أي لمدى خشية الله تعالى في نفوس الناس أو بتعبيرنا المعاصر ترجع لضمير الإنسان الذي لا يكتفي بالتأنيب على الخطأ, والدفع إلى العزم على عدم العودة إليه، ولكن قبل ذلك يمنع الإنسان من الوقوع في الخطأ من أساسه.
والتقوى تجمع في ثناياها الإيمان الصحيح بالله تعالى واليوم الآخر, مع المداومة على عمل الصالحات أي العبادات والمعاملات, ولذلك لا يدخل الجنة إلا المتقون, فالإيمان وحده لا يكفي، والعمل الصالح وحده لا يكفي. هذه هي التقوى كقيمة عليا بُني عليها المنهج الأخلاقي والعقيدي والتشريعي للإسلام, وهي جوهره, والغاية الكبرى من كل العبادات والأعمال الصالحة. وفي التقوى نجد الاجابة عن كل التساؤلات التي يتساءل عنها الناس، وهي البديل الأمثل الذي يستغني به المسلمون عن كل تلك الثرثرة الفقهية التي حفلت بها كتب التراث اللعينة.
ففي المجال التشريعي, تأتي التقوى في سياق التشريعات نفسها, وتأتي أحياناً منفصلة عنها, باعتبارها قيمة عليا في حد ذاتها، والأمر بالتقوى تكرر للمؤمنين كثيراً بل وللنبي نفسه, وكان أحياناً يأتي في مطلع السور. وتأتي التقوى في سياق التشريع لتؤكد على ضرورة ربط التطبيق البشري للتشريع الإلهي بإحياء الضمير والسمو بالنفس وتزكيتها, وحسن العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وإذا كان الإنسان يعلم أن الله تعالى يراه, فلا بد له من أن يخشاه, ويسعى في مرضاته جل وعلا, حتى لو كان بمأمن من السلطة البشرية والمراقبة البوليسية .. من أجل هذا الدور السامي للتقوى في التشريع القرآني, نجد الأمر بالتقوى يرصع جميع آيات التشريع القرآني تقريباً.
ورغم هذا الاقتران بين التشريعات القرآنية والتقوى, إلا أننا لا نجد أدنى إشارة لها في التشريعات المذهبية عموماً - حتى في عصر الازدهار الفكري في العصر العباسي - لا في فقه العبادات، ولا في فقه المعاملات, وبدلاً عن هذا الجانب الروحي ركز التشريع المذهبي على التدين السطحي, وتجميع كل تفصيلاته الممكنة والخيالية. ثم انحدر ذلك الفقه السطحي في عصوره المتأخرة والمتخلفة إلى التخيلات والتصورات السخيفة المستحيلة الحدوث, والتي امتلأت بها كتب الفقه - في العصر العثماني - مثل: (ما حكم من حمل على ظهره قربة فساء، هل ينقض وضوؤه أم لا ؟ من جاع في الصحراء ولم يجد إلا جسد نبي من الأنبياء، هل يجوز له الأكل منه أم لا ؟ ماحكم من زنى بأمه في نهار رمضان في جوف الكعبة ؟ وماذا عليه من الإثم ؟ وما حكم من كان لقضيبه فرعان وزنى بامرأة في قبلها ودبرها, فهل يقع عليه حد واحد أم حدان؟). ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
على أن المحصلة النهائية لتلاعبهم بالقواعد التشريعية القرآنية امتدت لتشمل: عدم الاكتفاء بالقرآن العظيم كمصدر وحيد للهداية والتشريع الإلهي، فأضافوا إليه مصادر أخرى, ابتدعوها وجعلوها عملياً فوق القرآن, مثل: الأحاديث والإجماع والقياس والمصالح المرسلة. وبعضها كان ستارا لإلغاء النص القرآني, مثل: سد الذرائع والحديث عن المفسدة الصغرى والمفسدة الكبرى .. حتى تمكنوا بها من تحريم وجوه كثيرة من أوجه الحلال القرآني.
مبادئ الإسلام السبعة:
نقول بإيجاز:
بإيجاز أكثر، فإن مبادئ الشريعة الإسلامية هي:
ومجال تطبيق هذه المبادئ في الشريعة الإسلامية ينحصر في التعامل السلوكي الظاهري بين الناس, بغض النظر عن عقيدتهم وفكرهم، على خلاف المبادئ المذهبية التقليدية المعروفة بالتزمّت والاستبداد ومصادرة الحرية الفردية والدينية والسياسية واضطهاد المرأة وغير المسلم.
الفصل الثامن- طبيعة القرآن الكريم:
-القرآن الكريم كتاب هداية.
-أساليب الخطاب القرآني.
-مستلزمات فهم القرآن الكريم.
القرآن الكريم كتاب هداية:
القرآن الكريم ليس كتاباً متخصصاً في العلوم التطبيقية أو الانسانية أو التشريعية,ولكنه أساساً كتاب (هداية). ومن خلال دعوته للهداية يأتي القصص القرآني غير مهتمً بتفصيلات الحدث من الزمان والمكان وأسماء الأشخاص، ولكن مركزاً على العبرة بهدف تقديم الهداية للناس. ومن خلال ذلك تأتي بعض الاشارات العلمية, لتؤكد إعجاز القرآن الكريم وسبقه لعصره ولكل عصر، واستحالة أن يكون من تأليف بشر؛ ثم تتحدث تلك الاشارات العلمية القرآنية عن عظمة آلاء الخالق جل وعلا, واستحالة أن يكون معه مثيل أو نظير أو شريك.
ومع الأسف، فقد ساد بين السابقين أن القرآن معجز في فصاحته فقط, فتحول الاهتمام إلى ناحية اللغة والبيان الأدبي فقط, وتحول القرآن إلى نصّ أدبى عند البعض, بينما لم يحظ الاعجاز التشريعي في القرآن بأي اهتمام, بل على العكس نظروا إليه من خلال ما صنعوه من أحاديث واجتهادات شخصية، وحاولوا التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث لصالح أحاديثهم ورؤاهم، وعالجوا التناقض بين القرآن الكريم وتلك الرؤى البشرية التي اكتسبت صفة شرع الله, بتجاهل آيات القرآن أو القول بإلغاء أحكامها أو بتأويل المعنى القرآني وتحريفه.
ولولا أن القرآن الكريم محفوظ بقدرة الله جل شأنه, لتم إلغاء معظم آياته - ليس بالمعنى فقط ولكن باللفظ والنصّ أيضاً - ولأنه محفوظ من لدن الله تعالى, فقد ظلت نصوصه حجة على كل ما فعلوه بالقرآن, مما يسمى بالتفسير والتأويل والحديث والسنة والنسخ وغيرها من الأباطيل.
القرآن الكريم لا تنتهي اعجازاته, وفي عصرنا يكتشف العالم جوانب كثيرة من اعجازه العلمي، وفي العصور القادمة سيكتشف العالم المزيد والمزيد, حيث سيظل القرآن الكريم معجزاً لكل عصر إلى قيام الساعة. ونحن نرى كيف يهلل المسلمون عندما تتوافق حقيقة علمية مكتشفة حديثاً مع القرآن الكريم, ونستغرب أنهم لا يسألون أنفسهم السؤال المؤلم:
س: طالما أن هذه الاشارات العلمية موجودة في القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرناً, فلماذا غفل عنها علماء وأئمة السلف (سنة وشيعة وصوفية) ؟ لماذا ظلت مجهولة في القرآن الكريم الذي اعتادوا قراءته وحفظه في الصدور ؟
جـ: لأنهم انشغلوا عن القرآن الكريم بكل ما يخالف القرآن من النسخ الأعوج, والحديث الملفق, والسنة المزعومة, مروراً بالتأويل الأخرق, والفقه الهابط, إلى خرافات التفسير, وأساطير أسباب النزول.
انشغلوا بما ابتدعوه لأنهم اختلفوا فيه, فازدادوا انشغالاً عن القرآن, ولا يزالون في اختلافاتهم الهائلة في توافه الأمور .. والتعرض لذلك الهجص يخرجنا عن التزامنا بالاختصار، علاوة على أنه لا يستحق عناء النقاش.
أساليب الخطاب القرآني:
للقرآن الكريم أساليب مختلفة في التعبير، فهناك الأسلوب (المجازي أو التصويري) الذي يستعمله رب العزة في الحديث عن الآخرة، والجنة والنار والترغيب والترهيب, كقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}[الإسراء].
أما الأسلوب (التقريري العلمي الدقيق) الذي لا مجال فيه للخلاف في الرأي, فهو الأسلوب المعتاد في التشريعات, كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ (17)}[الفتح].
ولا يمكن أن يقول الله شيئاً بالإثبات وهو يريد به عكسه, فلا يمكن أن يقول سبحانه: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ). وهو يقصد (الذين لا يطيقونه) ومن يقوم بإضافة (لا) فقد ارتكب جريمة التحريف في كتاب الله العزيز.
والتعبير بصيغة الماضي عن أمر سيقع في المستقبل, هو أبرز الأساليب المستعملة قرآنياً في الحديث عن أحداث الساعة, وأحوال أهل الجنة وأهل النار, والتعبير بصيغة الماضي عن أحداث القيامة المستقبلية يعني تحقق وقوعها.
ومثلاً قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)}[الزمر]. أي: (وسيساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، وما أن يصلوا إليها ستفتح أبوابها، وسيقول لهم خزنتها: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين). وفي افتتاح سورة القمر يقول سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. أي: (اقتربت الساعة وسينشق القمر) .. وذلك ضمن انشقاق السماوات, وتدمير العالم وقيام الساعة.
وهناك المحكم والمتشابه في آيات الذكر الحكيم، حيث تأتي الآيات المحكمة موجزة اللفظ قاطعة الدلالة, لا مجال فيها لأكثر من رأي. أما الآيات المتشابهة, فيتكرر فيها المعنى الواحد بصور مختلفة، وفي نفس الوقت تؤكد الآيات المتشابهة المعنى الذي تأتي به الآيات المحكمة, بل وتشرحها وتفصلها وتوضحها دون أدنى تناقض معها .. أي أنها جميعاً تعطي في النهاية حقيقة قرآنية واحدة لا خلاف فيها.
مستلزمات فهم القرآن الكريم:
هناك مستويات لفهم القرآن الكريم، أبسطها مستوى الهداية, وهو مُتاح لمن يريدون الهداية, كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (19)}[محمد]. حيث نرى الآيات واضحة وعباراتها بسيطة وبلا تعقيد، ووضوحها يصل إلى من كان قلبه نظيفاً, ومُطهّرا من رجس الشيطان وأحاديثه الضالة.
ثم هناك مستويات أعمق, وهي متاحة أيضاً لمن يريدون أن يتأهلوا ويتبحروا في العلم القرآني, ليكونوا من الراسخين في العلم, وهذه المستويات تحتاج إلى متخصصين يقومون بعمليات بحثية عميقة لفهمها, وما يقوله الراسخون في العلم ليس ديناً, بل هو اجتهاد شخصي في تدبر القرآن الحكيم, وهو اجتهاد يحتاج إلى مراجعة ونقاش .. وبهذا يظل الراسخون في العلم, تلاميذ أمام عظمة القرآن العظيم.
والباحثون عن الحق في القرآن الحكيم، لا بد أن يتمتعوا بالهداية الايمانية والهداية العلمية، وهما معاً أساس نزاهة موضوعية المنهج العلمي, وتتجلى هذه النزاهة في التعامل المنهجي مع المحكم والمتشابه من آيات القرآن الحكيم.
والباحثون عن الحق محايدون, يدخلون على القرآن الكريم بدون رأي مسبق يسعون لإثباته، ولا يفرضون عليه أهواءهم وأمنياتهم, ليؤكدوا ما توارثوه من عقائد, حتى لا يأتون في النهاية بما يخالف مراد الله جل وعلا؛ بل يتركون أنفسهم بين يدي آيات القرآن الحكيم، وهم مستعدون للتمسك بأي حقيقة قرآنية, تظهر لهم من خلال أبحاثهم, ومستعدون أيضاً لأن يضحوا في سبيلها بكل ما توارثوه من عقائد وأفكار .. بل وبحياتهم ومستقبلهم إن لزم الأمر.
وبالإضافة للموضوعية والحيادية,يجب أن يتمتع الباحثون القرآنيون, بفهم علوم اللغة العربية وأسرارها البلاغية, وبعد هذا الاستعداد الإيماني الموضوعي العلمي, يقومون بتتبع الآيات المحكمة في موضوعاتهم البحثية، ثم ما يتصل بها من آيات متشابهة، وبربط هذه بتلك, يجد الباحثون عن الهداية أن موضوعاتهم قد توضحت بعد أن قاموا بواجب التدبر.
الخاتمة:
ظهر لنا مما سبق: أن حقيقة الإسلام التي يقررها القرآن الكريم, تختلف تماماً عما كتبه الأسلاف ويعتقده العامة, فشريعة الإسلام تتناقض كلية مع الشريعة المذهبية الجاهلية السائدة؛ والتناقض يشمل كل شيء, من المبادئ والقواعد إلى التشريعات التفصيلية, بل وعلى مستوى العقيدة والأخلاق والتعاملات بين البشر.
مبادئ الشريعة الإسلامية تقوم على أساس: السلام والحق والعدل والمساواة والتخفيف والحرية المطلقة في الدين والفكر .. الخ. أما الشريعة المذهبية فقائمة على: الحظر والاستبداد والإكراه والظلم والبغي والتزمت والعنصرية والتعصب وسفك الدماء البريئة .. الخ.
وفي مواجهة تلك الشريعة الفاسدة, فإن من واجبنا التصحيح والإصلاح الفكري الثقافي السلمي من خلال القرآن المجيد, وحقيق بكل من يحب الله تعالى أن يبرئ الإسلام من كل الأوزار التي التصقت به؛ فالإسلام محتاج إلى من يعاني في سبيل إظهار وتجلية حقائقه المغيبة والمجهلة, ويحتاج إلى من يدافع عنه ضد أولئك الذين يشوهون صورته الجذابة المشرقة.
وعلى النقيض تماماً, فهناك أفاكون ينادون لإحياء وتفعيل التراث المذهبي الطائفي العفن, فيشترون بآيات الله وعهده ثمناً قليلاً، ويتاجرون باسم الإسلام في دنيا السياسة والمطامع الدنيوية ليصلوا به إلى الحكم، يشجعهم على ذلك جهل الناس، فالأكثرية لا يؤرقها الطعن في الإسلام، ولكن يؤرقها الطعن في الروايات التي تشوه الإسلام.
والمفجع أن ما يهتم به التراثيون, ليس تنقية عقائدهم من تلك الأحاديث والثقافات الضالة, وإنما يهتمون بالدعوة إلى تطبيق الشريعة المستمدة منها؛ ومع أنها شريعة متخلفة ومخالفة للقرآن الكريم, إلا أنهم يدافعون عنها ويرفضون الاحتكام للقرآن الكريم وحده رفضاً تاماً, بل ويسعون لإقامة دول مذهبية طائفية عرقية .. ليضيفوا بذلك خطيئة أخرى إلى خطاياهم.
لم يفعل أولئك التراثيون شيئاً للإسلام العظيم, سوى استخدامه في طموحهم السياسي, وبالانغماس في فتن السياسة وتآمراتها, فانفردوا بسفك الدماء وهتك الأعراض وجمع الأموال؛ ولأنهم يحملون اسم الإسلام زوراً وبهتاناً, ويطلق عليهم بالغباء لقب (إسلاميين). فقد أصبح بهم الإسلام موصوماً بالإرهاب والتخلف والتطرف والتزمت والتعصب؛ هذا هو ما قدموه للإسلام, وكل ذلك يهون عندهم, في سبيل أن يصلوا إلى السلطة الملعونة.
ولو كان الإسلام في قلوبهم فعلاً, لتفرغوا من أجل توضيح حقائقه وقيمه العليا, وشريعته السمحاء وصلاحيته لكل زمان ومكان؛ فالعقل السليم يقرر: أن البداية المثلى تكون بمناقشة وشرح عقائد الإسلام الحقيقية من داخل القرآن الكريم, وبعدها يكون التطبيق الفعلي للشريعة المستمدة من كتاب الله وحده, أما المتاجرة بالدعوة إلى تطبيق شريعة مستمدة من ذلك الموروث اللعين, والزج بالشباب في صدام مع المخالفين باسم الدين, فهذا تلاعب بدين الله تعالى وإفساد في الأرض.
وتخيلوا معي: لو أصبح الدين علاقة فردية بيننا وبين الله جل وعلا, دون تدخل سادتنا وكبرائنا, وبعيداً عن المذاهب وكهنوتها وثرثرتها. تخيلوا: لو لم ننشغل بذلك القيء الفقهي, ولم نحمل على ظهورنا أسفاره العفنة؛ ولو لم تقم الدول الحديثة بإحيائه ونشره, تحت مسمى الشريعة الإسلامية. تخيلوا: لو أننا ركزنا جهودنا فيما أمرنا الله تعالى به, من السير في الأرض والبحث التجريبي في آلاء الله تعالى, وما سخره لنا في هذا الكون.
تخيلوا: لو أننا ركزنا جهودنا في استخلاص دستور الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية العادلة, وطبقناه في بلداننا .. لو أن هذا التخيل صار واقعاً, لتغير تاريخ العالم، ولاسترحنا من تراث عصور مظلمة, امتلأت بالأمراض والجهل والفقر والتخلف, والحروب المذهبية والطائفية والسلالية.
إن ضربا حقيقياً من يقظة الإسلام ليست ممكنة إلا بقراءة جديدة للقرآن العظيم, قراءة متحررة من تلك التفسيرات الجافة والمجففة؛ لكن مشكلتنا هي أننا نقرأ القرآن بعيون موتى, ونعتمد على تفسيرات القدماء, تلك التفسيرات التي جعلت الكلام الحي للقرآن العظيم كلاماً ميتاً.
إذا تدبرنا القرآن الحكيم طلباً للهداية, وبمنهج علمي, وبدون هوى مسبق أفلحنا, وهذا بفضل الله وكرمه وليس بشطارتنا, أما إذا اجتهدنا في الدين فأخطأنا, فالخطأ يلحق بنا نحن, ولا شأن للدين بنا .. وكلنا بشر يجوز علينا الخطأ والنسيان والهوى والعصيان.
اجتهادنا في فهم القرآن الحكيم, فريضة دينية اسمها (التدبر). والتدبر معناه: أن يسير القارئ للقرآن الحكيم دُبر الآية, يتتبعها في سياقها القرآني في كل موضع حتى يستوعب المراد منها, لأن القرآن الحكيم مثاني وفيه التشابه وتكرار المعنى وتفصيله, وآياته تفسر بعضها بعضاً ولا تتناقض؛ والتدبر عملية عقلية فكرية يقوم بها القارئ للقرآن العظيم, متشجعاً بآياته التي تحث على البحث والتفكر, والتعقل والنظر والعلم والتـفـقه.
لك حق الاعتراض علينا, إعتراضاً مدعماً بأدلة تعبر عن تخصص في منهج البحث القرآني والتاريخي, أما إذا اعترضت لأنك تقرأ كلاماً جديداً لم تقرأه من قبل أو لأنك عشت على تقديس فلان وعلان, وترفض بحث عقائدهم وأفكارهم وتاريخهم؛ فإن وجودك معنا مضيعة لوقتك ووقتنا .. فنحن بخلاف غيرنا, لا نخاطب إلا العقلاء المثقفين, الراغبين في العلم الباحثين عن الحق.
ملحق (1) : التبيان القرآني - الغلو القرآني:
يوضح المقال معنى وآلية التبيان القرآني، ويحذر من الغلو والتطرف.نُشر في الخميس 25 يناير 2018 م
مقدمة:
١- وصل الغلو والتطرف القرآني ببعض الإخوة إلى إنكار ملة إبراهيم (العبادات / الطقوس / السنة العملية). والبعض قام باختصارها، فيما قام آخرون بتحويلها إلى اشارات ورموز وفلسفات وروحانيات ختموها بادعاء النبوة وتلقي الوحي؛ بينما قرر البعض أن يريحوا أنفسهم بعد أن أجهدوها فيما لا طائل منه، وذهبوا إلى الالحاد أو البهائية.
٢- كل هذا التخبط نتيجة الفهم المتطرف لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (89)}[النحل]. وقوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ (111)} [يوسف]. فقد فهم هؤلاء الإخوة عبارة (كُلِّ شَيْءٍ) بأنها تعني كل شيء على الاطلاق، وبهذا حملوا القرآن ما لا يحتمل، وكلفوا أنفسهم ما لا طاقة لهم به.
٣- وقد عرف فضيلة الوالد الدكتور: أحمد صبحي منصور (التبيان والتفصيل القرآني) بأنه: التوضيح والتفصيل لما يستلزم البيان والتوضيح والتفصيل. وقال: (بأن الشيء الواضح بذاته لا يحتاج لمن يبينه ويوضحه, وإلا كان ذلك إهانة للناس واتهاما لهم بالغباء، علاوة على أنه فضولاً في الكلام وثرثرة لا تليق بكتاب بشري عادي، فكيف بكتاب الله الذي نزلت تفصيلاته عن علم وحكمة, لذا كان البيان في القرآن لما يتطلب البيان, فكل شيء يستلزم البيان والتوضيح, جاء في القرآن بيانه وتوضيحه, وما ليس محتاجاً للبيان, فلا مجال لتفصيله وتبيينه, في كتاب أحُكمت آياته, ثم فُصلت من لدن حكيم خبير).
٤- وقد سبق وكتبنا عن الإعجاز القرآني، وقلنا: (أن القرآن الكريم أساساً كتاب هداية، فالقرآن الكريم ليس كتاباً في الطب أو الفيزياء أو الرياضيات أو غيرها، هو كتاب هداية لا غير، وقد وردت بعض الإشارات العلمية من باب الإعجاز، وحتى يعلم الناس أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من تأليف بشر). وخلصنا إلى أن معنى قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ). هو أنه تبيان لكل شيء في مجاله، أي في مجال الهداية. فالقرآن الكريم وضح كل ملامح الشرك ورد عليها، ووضح نفسيات المنافقين والمعاندين والمشركين، ووضح كيفية التعامل معها، ووضح نفسيات المؤمنين الصادقين وأثنى عليها .. الخ. وبهذا أصبح تبياناً وتفصيلاً لكل شيء في مجاله.
٥- ولكن غلو وتطرف بعض الإخوة دفعني إلى مزيد من التوضيح.
أولاً- المسلمات القرآنية:
١- دين الله (جل وعلا) واحد، وهو الإسلام، نفهم ذلك من قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (19)}[آل عمران].
٢- والإسلام هو ملة الخليل إبراهيم التي بعث الله بها جميع الأنبياء، وفي ذلك يقول سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ (78)}[الحج].
٣- خاتم النبيين (محمد) لم يأت بدين جديد، فما هو إلا متبع لملة إبراهيم، وعن ذلك يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}[الأنعام].
٤- القرآن الكريم جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، أي أنه جاء بنفس الكلام، ولم يأت بشيء جديد، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (92)}[الأنعام].
٥- الناس دائماً يتفرقون ويختلفون بغياً بينهم، فيرسل الله الرسل، ليبينوا للناس ما اختلفوا فيه، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}[البقرة].
ثانياً- تحريف الرسالات السماوية:
١- عن تحريف كلام الله تعالى، يقول سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}[البقرة]. ويمكن تحديد أبرز وسائل الناس في تحريف الرسالات السماوية في التالي:
٢- وبهذا يلتبس على الناس الحق بالباطل، وتصبح ملة إبراهيم محرفة، فيستلزم الأمر إرسال رسول جديد لمعالجة الانحرافات.
ثالثاً- معالجة الانحرافات:
١- يبعث الله رسولاً جديداً، تكون مهمته معالجة المرض / الانحرافات، وليس المجيء بدين جديد، وتفصيلات دقيقة من أول وجديد، وهذا ما قام به القرآن الكريم على يد خاتم النبيين، حيث قام بالمهام التالية:
٢- بتفنيد الأكاذيب، وكشف الحقائق المغيبة، وفصل القضايا الخلافية، تعود ملة إبراهيم إلى صفائها الأول، ويصبح كل شيء واضح ومفصل، وبهذا يتم البيان والتفصيل.
رابعاً- شواهد قرآنية:
١- الشواهد القرآنية التي تؤكد صوابية ما ذهبنا إليه كثيرة جداً، ونكتفي هنا بذكر أبرز تلك الشواهد:
٢- ولو تأمل الإخوة قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}[يوسف]. لعرفوا من سياق الآية بأن المقصود هنا: هو أن القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتب، ومفصل لكل شيء ورد فيها، ولا سيما في مجال القصص القرآني.
٣- علماً بأن القرآن الكريم لم يختص وحده بعبارة: (كُلِّ شَيْءٍ)، فقد وصف الحق تبارك وتعالى، كتاب / ألواح موسى (ع) بنفس العبارات، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ (145)}[الأعراف]. ويقول أيضاً: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ (154)}[الأنعام].
٤- وبعد كل هذه الشواهد نقول للإخوة الأعزاء: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
خامساً- خطورة الغلو والتطرف:
١- الغلو أساساً معصية كبيرة لله جل وعلا، القائل: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}[المائدة].
٢- الغلو تعبير عن التعصب والجهل، والتعصب والجهل يدفعان الإنسان إلى نكران الحقائق وافتراء الأكاذيب. كما أن الغلو يدفع إلى اتباع الهوى، والهوى يسوق إلى الضلال. وهنا يصبح الإنسان لقمة صاغة للشيطان الرجيم بعد أن وقع في شباكه / خطواته، فيكون مصيره الخزي في الحياة الدنيا، وينتظره العذاب الأليم في الآخرة.
٣- يُغالي المرء في دينه، ويُحمل القرآن ما لا يحتمل، وينسب إليه ما ليس منه، ويرفض الاستجابة لصوت العلم والعقل والمنطق؛ فيزعم أن القرآن الكريم تبيان لكل شيء على الاطلاق، ليجد نفسه عاجزاً عن الاجابة على الكثير من التساؤلات. وما هي إلا محطات قليلة، ومنعطفات بسيطة، حتى يجد نفسه في الطرف الآخر (مُلحد) بعد أن فقد الثقة بالقرآن. إنها انتكاسة الغلو، الغلو الذي أوصله إلى أقصى حالات التمسك بالقرآن، هو نفسه الغلو الذي جعله يرتد وينقلب على عقبيه.
أخيراً:
١- القرآن الكريم تبيان لكل شيء في مجال الهداية.
٢- القرآن الكريم تبيان لكل شيء يحتاج إلى تبيان.
٣- القرآن الكريم تبيان لكل شيء افتراه واخفاه والبسه أهل الكتاب.
٤- الغلو والتطرف جهل وزيغ وضلال، دافعه الهوى ومستقره الالحاد.([2])
ملحق (2) : تجارب قرآنية - شبابنا والقرآن العظيم:
تجربتي مع كثير من الإخوة القرآنيين اليمنيين،نُشر في السبت 13 يناير 2018 م
المقدمة:
١- سبع سنوات خلت، تعرفت خلالها على مئات القرآنيين اليمنيين، بمختلف مستوياتهم الفكرية والثقافية والاخلاقية، وبمختلف اتجاهاتهم السياسية، وخلفياتهم الدينية، وبمختلف انتماءاتهم المناطقية والعرقية والفئوية.
٢- للأسف الشديد، كان أغلبهم/أكثرهم أدعياء وعالة ونكالاً على القرآن الكريم، والبعض ذهب إلى البهائية أو الالحاد ، والبعض الآخر يشق طريقه نحو الالحاد بإنكار العبادات (ملة إبراهيم) أو ما يسميها التراثيون بـ (السنة العملية) .. والأخيرين هم من أصفهم دائماً بأنهم: (قرآنيين شوارع).
٣- وبقيت نخبة النخبة قليلة خاملة وغير متفاعلة مع (المسيرة القرآنية المقدسة) بالشكل المطلوب، أو أنها متفاعلة بقصور، وباسلوب غير صحيح.
٤- إلى التفاصيل.
أولاً- أدعياء القرآنية:
١- ابتلينا بطائفة أو بالأصح (عرقية كهنوتية سلالية سادية مقيتة) تمارس الظلم والفساد والاجرام والارهاب، تحت شعار (المسيرة القرآنية)، وهي للأسف الشديد أبعد ما تكون عن القرآن الحميد.
٢- جماعة مذهبية طائفية همجية، شوهت القرآن المجيد، وجعلت الناس يكرهون ويلعنون كل من يتحدث بالقرآن ويدعو إليه، بل وجعلت البعض يكره الله جل وعلا، ويدوس القرآن بقدميه.
٣- إلى حد أن كثيراً من شبابنا أصبحوا يخجلون من وصف أنفسهم بالقرآنيين، ولا يحبذون إطلاق هذا الوصف الجميل علينا، بعد ما لحقه من دنس تلك الجماعة العفنة.
٤- ناهيك عن مشكلة تصنيف بقية الأحزاب والقوى الوطنية لكل من يعمل تحت راية القرآن العظيم بأنه جزء لا يتجزأ من تلك المسيرة الكهنوتية المتخلفة أو شريك أو امتداد لها.
ثانيا- التشدد والتعصب الأعمى:
١- المشكلة أن قرآنيين الشوارع ليسو متخصصين في علوم الدين، ويجهلون لغة القرآن الكريم ، ولا يقرأون التاريخ والتراث الإسلامي بموضوعية.
٢- وصلوا إلى حقيقة أن القرآن الكريم هو الوحي الوحيد الذي نزل على خاتم النبيين، وأنه المصدر الوحيد للهداية والتشريع الإلهي، بعد أن صدموا بتناقضات التراث المشوه .. فقرروا أن لا يقرأوا ولا يتعلموا إلا من القرآن الكريم وحده.
٣- غير أن قراءتهم (المنفردة) للقرآن الحكيم، دون التسلح بالعلوم المساعدة، ودون استخدام أدوات المعرفة العلمية الحديثة، ودون الاستعانة بأبحاث ودراسات أعلام الفكر القرآني؛ كل ذلك جعلهم في مهب الريح، وأدخلهم في متاهات ليس لها آخر، فعجزوا عن الوصول إلى الفهم الصحيح لآيات الذكر الحكيم.
٤- فالبعض سقط في منتصف الطريق وذهب إلى الالحاد أو البهائية، بعد أن عجز عن الاجابة عن بعض الأسئلة التقليدية، والبعض لازال يكابد عناء الطريق منفرداً {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}.
ثالثا- التحرك القاصر:
١- يأخذ الحماس كثيراً من شبابنا بعيداً، فيدخلون في نقاشات فكرية وجدل عقيم مع شباب من أديان ومذاهب واتجاهات فكرية مختلفة، كالملحدين والبهائيين وأهل الكتاب والأحمديين وغيرهم.
٢- ولقلة علمهم ووعيهم وثقافتهم، فإنهم يقفون عاجزين أمام كثير من القضايا والمسائل الفكرية .. فيصبحون الطرف الأضعف، مما يجعلهم ويجعلنا في موقف محرج.
٣- الجدال بدون علم وبدون وعي ونفس طويل، يجعلنا موصومين بـ (الجهل والسفه والضلال)، لذا نرجو من شبابنا أن يترك أو على الأقل يؤجل معاركه الفكرية مع الآخرين، ويركز جهده على التعمق في دراسة وفهم الفكر القرآني.
٤- كما نرجو منهم عدم الرجوع إلينا، والطلب منا أن نخوض معاركهم الفكرية التي فتحوها وعجزوا عن تغطيتها، فنحن لا نملك الوقت الكافي لتلبية جميع الطلبات، والله جل وعلا {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
رابعا- الانشغال والخمول والخوف وقلة الحيلة:
١- الغالب على شبابنا أنهم مشغولين في طلب الرزق أو تحصيل العلوم الحديثة، كالطب والهندسة والحاسوب وغيرها، وبهذا لا يجدون الوقت الكافي للتعمق في الفكر القرآني ، والتخصص في أحد جوانبه.
٢- البعض الآخر كسول ومتثاقل عن الدراسة والبحث والكتابة، رغم أنه يملك الوقت والامكانات، بل وليس لديه الخلق والنفس اللازم لخوض نقاشات علمية يقيم بها الحجة على الناس.
٣- قسم ثالث، لديه الكفاءة والامكانات والوقت، غير أن الخوف يمنعه من الكتابة والنشر والتحرك الجاد، والعمل المثمر المنظم.
٤- قسم رابع، يبذل قصار جهده في الدراسة والبحث والنقاش والعمل المنظم، لا تأخذه في الله لومة لائم، غير أنه لا يملك الامكانات الكافية للقيام بالأمر على أكمل وجه.
أخيراً:
١- نتمنى الهداية للجميع، ونرجو من أدعياء القرآنية أن يخلصوا لله تعالى جميع أعمالهم، وأن يشدوا حيلهم، ويطوروا مسيرتهم المسماة قرآنية حتى تصبح فعلاً قرآنية خالصة.
٢- نرفض الغلو والتطرف، ونرجو من المتطرفين أن يتعاملوا مع القرآن بواقعية.
٣- نتحرك بوعي، ونرجو من قاصري الوعي أن يحصنوا أنفسهم بالعلم والمعرفة.
٤- المؤمن الحق، لا يخاف إلا من الله جل وعلا، يعمل ويتحرك بجد، لا يشغله عن الله شاغل، ولا تمنعه قلة الامكانيات عن عمل ما في وسعه في سبيل الله.([3])
المصادر والمراجع:
يُمكن اعتبار هذا الكتاب خلاصة ولُب الفكر القرآني أو نبذة مختصرة عنه؛ وللمزيد يمكنكم زيارة الموقع الالكتروني لأهل القرآن؛ لمعرفة منهج القرآنيين؛ وقراءة مؤلفات الدكتورأحمد صبحي منصور - رئيس المركز العالمي للقرآن الكريم.
- الرابط الالكتروني لموقع أهل القرآن:www.ahl-alquran.com
- الموقع الخاص بالدكتور أحمد صبحي منصور:http://www.ahl-alquran.com/arabic/profile.php?main_id=1
- الرابط الالكتروني للكتاب:http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=19007
- الموقع الخاص بالباحث:http://www.ahl-alquran.com/arabic/profile.php?main_id=8289
- صفحته على فيس بوك:https://www.facebook.com/abdaluwhab.aboaltaib
- البريد الالكتروني: aboaltaibalnwari@gmail.com
- جوال + واتساب: +967 770 757 547
تم بحمد الله تعالى
الإسلام وواقع الأمة
أكرمك الله جل وعلا ابني الحبيب أستاذ عبدالوهاب سنان النواري، وأنت تضيف إضافة هامة، وأنت بكتاباتك تؤكد وصولك إلى مرحلة الاجتهاد . بارك الله جل وعلا فيك وحفظك من كل سوء . كم أتمنى أن أراك أنت وبقية الأحبة قبل أن يأتي الأجل .!!
الدكتور: أحمد صبحي منصور
أعلم أن مشاغلكم كثيرة، وأدعو الله جل وعلا دائما وأبدا: أن يعافيكم ويطيل في عمركم، وأن يسددكم إلى كل خير، وأن لا يريكم شرا، وأن يكون لكم ناصرا ومعينا.
http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=19030
شكرا جزيلا للوالد الفاضل الدكتور أحمد صبحي منصور
وكتب الله تعالى أجره
دعوة للتبرع
يسوع فى القرآن: لماذا لم يذكر اسم يسوع فى القرء ان ؟...
البطاقة الائتمانية: أريد أن أسألك عن الفائ دة السنو ية التي...
الحفظ الالهى للقرآن: عمي وأخي د. أحمد هل السؤا ل التال ي يناسب ه ...
الصحابة المنافقون: . قرأت لاحد السلف يين يستشه دون بهذه الاية...
الشيطان يعظ ؟ !: رسالة نصح و تذكير . لقد ولجت إلى موقعك...
more
الكتاب جاهز للطباعة والنشر فقط ينقصه التقديم الذي أرجو أن يكون بقلم والدي وشيخي وأستاذي فضيلة الدكتور أحمد صبحي منصور