مسلسل الدم فى خلافة المأمون ( 198: 218 ) أولا : شخصية المأمون

آحمد صبحي منصور Ýí 2016-05-23


مقدمة

1 ـ خلافا لأخيه ( الأمين ) الأحمق التافه كان المأمون داهية ، أقرب الى معاوية فى سياسته ، فالظرف السياسية تتشابه فى عصريهما . كان أغلب عصر معاوية يستكثر عليه الخلافة فى وجود من هو أقدم منه من الصحابة ، وكان أغلبية العرب لا تستريح للمأمون بسبب ميله للفُرس وكراهيته للعرب ، وهم الذين ساندوا أخاه الأمين وحرضوه على إشعال تلك الفتنة ، بينما وقف الى جانبه القواد الفرس. وقد قيل للمأمون:( يا أمير المؤمنين! انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان! فقال له: أكثرت عليّ؛ والله ما أنزلتُ قيساً من ظهور خيولها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، يعني فتنة ابن شبث العامري؛ وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط؛ وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني، حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا وخرج أحدهما شارياً، ( أى خارجيا ) أعزب فعل الله بك .!) أى إن قبائل قيس أرهقته بحروبها ، وكانت اليمن ضده ،اما قبائل قضاعة اليمنية فهى تهوى الأمويين ، وأما قبائل ربيعة فنصفها ـ فى رأى المامون ـ مع الخوارج .

2 ــ واستعمل المأمون ذكاءه فى الحفاظ على سلطانه ، كان يغتال من يرى أنه خطر عليه حتى لو كان أقرب الناس اليه . والعادة أن من يساعد السلطان فى الوصول الى الحكم ويكون له نوع من السلطة ـ لا يلبث أن يتخلص منه السلطان لينفرد بالاستبداد بالسلطة ، ثم يُنشى السلطان حاشية جديدة يصنعها بنفسه تدين له بالولاء . لم يكن المأمون فى نفس سطوة أبيه الرشيد ، خصوصا وأن جهود القادة والجنود الفرس هى التى قتلت أخاه الأمين وجعلته الخليفة بعده ، وهم الذين واجهوا كل الثورات التالية ووطدوا حكم المأمون . لذا لم يتصرف المأمون كأبيه الرشيد الذى عصف بالبرامكة بكلمة ، ولكن وضع المأمون الحرج فى بداية حكمه وهو بعيد عن بغداد لم يدخلها بعد ألجأه الى أن يستغل قواده فى قتال الثائرين عليه ، وبعد مسلسل الدماء هذا يتخلص ممّن يشكّ فيه منهم بالاغتيال.  ونعطى أمثلة تصور شخصية المأمون :

1 ـ  فى عام 198 : كان المستشار الأكبر للمأمون هو الفضل بن سهل الذى سماه المأمون ( ذو الرياستين ) ، وهو صاحب التخطيط الذى أطاح بمحمد الأمين  . وتولى المأمون الخلافة بعد مقتل الأمين وإشتعلت الثورات فكان أول قرارته : تقسيم مشاكل الامبراطورية على أكبر قواده : ، تولى (الحسن بن سهل  ) نيابة العراق وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن، وبعث نوابه إلى هذه الأقاليم، وتولى (  طاهر بن الحسين ) نيابة الجزيرة والشام  والجزيرة والشام والمغرب والموصل والمغرب‏. وأمره بالزحف بجيش الى الرقة لحرب نصر بن شبث، وولاه . وتولى ( هرثمة بن أعين ) نيابة خراسان‏. ونجح القواد الثلاثة فى مهامهم فاصبح نجاحهم خطرا عليه ، فتخلص منهم بالاغتيال .

2 ـ وكان أول من قتله من كبار القادة هرثمة بن أعين عام 200 ، وهو الذى قضى شبابه فى خدمة الرشيد ، وإنضم الى المأمون وسانده فى الصراع مع الأمين ، وتولى خراسان للمأمون ، وقاد حروبا من أجله ، ووقع فى الخطأ الأكبر الذى لا يغتفره السلطان ، وهو الدلال على السلطان بما قدمه من اجله . كان هناك صراع خفى بين قطبين كبيرين من حاشية المأمون : هرثمة والفضل بن سهل . وكلاهما يكيد للآخر عند المأمون ، وكلاهما إغتاله المأمون . وكان التخلص من هرثمة أولا ـ عام 200 ، ثم كان التخلص من الفضل بن سهل عام 202 . بعد أن ولّى المأمون ( هرثمة ) خراسان ، بذل الفضل بن سهل (الفارسى ) جهده ليخلع هرثمة من خراسان ، فأخذ يتهم هرثمة عند المأمون بأنه الذى أثار اهل خراسان عليه وأنه تواطأ أو تآمر مع أبى السرايا قائد ثورة ابن طباطبا العلوى . وإختبر المأمون بدهائه مدى ولاء هرثمة فعزله عن خراسان وولاه الشام والحجاز ، فابى هرثمة ، وجاء بجنده للقاء المأمون ، وعندما إقترب دق الطبول لإعلام المأمون بقدومه ، فتحققت فيه إتهامات خصومه ، وقيل للمأمون عندما إنزعج من دق الطبول : (هرثمة قد أقبل يبرق ويرعد ). تقول الرواية : ( وظن هرثمة أن قوله المقبول فلما دخل قال له المأمون‏:‏ " مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل وقد كان رجلًا من أصحابك ولو أردت أن تأخذه لأخذته "  فذهب هرثمة ليعتذر فلم يسمع منه ، وأمر به فوجئ على أنفه وديس في بطنه وسحب على وجهه من بين يديه . وقد تقدم الفضل بن سهل إلى الأعوان بالغلظة عليه والتشديد حتى حبس ، فمكث في الحبس أيامًا ، ثم دس إليه مَنْ قتله وقالوا مات ‏.‏)

3 ـ ثم جاء دور مستشاره (  الفضل بن سهل بن عبد الله ). وكان ذلك عام 202 . قالوا عن الفضل بن سهل (وغلب على المأمون لخلاله الجميلة من الكرم والوفاء والبلاغة والكتابة ، فلما استخلف المأمون فوَض إليه أموره كلها وسماه ذا الرئاستين لتدبيره أمر السيف والقلم ‏.‏) وتقول الروايات عن قتل الفضل بن سهل : ( قتل ذو الرئاستين الفضل بن سهل يوم الخميس لليلتين خلتا من شعبان بسرخس في الحمام، اغتاله نفر فدخلوا عليه فقتلوه، فقتل به المأمون عبد العزيز بن عمران الطائي ومؤنس بن عمران البصري وخلف بن عمرو البصري وعلي بن أبي سعيد وسراجًا الخادم ‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ أنه لما رحل المأمون من مرو ووصل إلى سرْخس شد أربع نفر من خواص المأمون وهم غالب المسعودي وقسطنطين الرومي وفرج الديلمي وموفق الصقلي على الفضل بن سهل وهو فيِ الحمام فقتلوه وهربوا ، وذلك في يوم الجمعة لليلتيِن خلتا من شعبان هذه السنه ، فجعل المأمون لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار ، فجاء بهم العباس بن القاسم فقالوا للمأمون‏:‏ أنت أمرتنا بقتله فأمر بهم فضربت أعناقهم ‏.‏) . أى قتل المأمون القتلة.

والعجيب إن المأمون يقتل الضحية ويستميل ذويه . ولهذا ظل الحسن بن سهل ( شقيق الفضل ) فى خدمة المأمون الى أن تخلص منه المأمون .

4 ـ تمتع الحسن بن سهل بنفوذ هائل فى السنوات الأولى من خلافة المأمون ، وقد تزوج المأمون ابنته بوران عام 202 ، وإغتال عمها الفضل بن سهل فى نفس العام ، ثم فى العام التالى 203 تعرض أبوها الحسن بن سهل الى مرض غامض فتم التخلص منه بالقيد والحبس والعزل .   

5 ـ وفى عام 199 قامت ثورة من عوام بغداد يتزعمها ( الهِرْش )، تقول الرواية : ( يدعو بزعمه إلى الرضى من آل محمد ومعه جماعة من سفلة الناس وجمع كثيرًا من الأعراب ..فجبى الأموال وأغار على التجار وانتهب القرى وساق المواشي  ) ، وفى نفس العام 199 ثار العلويون فى الكوفة بزعامة ابن طباطبا  ، وكان قائد جيشه أبا السرايا الشيبانى . بالاضافة الى مسلسل الدماء الذى قضى به المأمون على ثورة ( الهرش ) وابن طباطبا فقد لجأ المأمون الى حيلة عجيبة لكى يهدىء الشيعة ويوقع الفرقة بين العلويين ، فقد جعل أحد العلويين ولى عهده ، ففى أحداث عام 201 ‏:‏(  بايع المأمون لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه‏:‏ الرضى من آل محمد، وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق والأقاليم، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين‏.وذلك أن المأمون رأى أن علياً الرضى خير أهل البيت وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه، فجعله ولي عهده من بعده‏.‏ ).

وفى عام 202  أصهر المأمون الى ولى عهده وزوجه إبنته ، تقول الرواية : ( زوج المأمون علي بن موسى الرضي ابنته أم حبيب ) بل فى نفس الوقت زوج إبن ولى العهد من إبنته الثانية : ( وزوّج محمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل ‏.‏).

ونجحت الخطة فى تهدئة بعض الشيعة وإيقاع الفرقة بين العلويين ولكن أثارت العباسيين فثار بعضهم عليه كما سيأتى لذا كان لا بد من التخلص من ولى العهد . وكان المأمون فى مرو ثم أخذ فى الرحلة عنها الى مقر الخلافة فى بغداد عام 203 . وفى طريقه الى العراق كان معه ولى عهده . ووصلا الى طوس ، وتوقف فيها المأمون بحجة زيارة قبر ابيه الرشيد ، وحدث وقتها إغتيال ولى العهد المسكين . وتم (إخراج ) الموضوع بصورة درامية ، تقول الرواية فى أحداث عام  203 : ( .. فلما كان في آخر الشهر أكل علي بن موسى الرضى عنباً فمات فجأة .! ) وتتجلى الدراما فى أن المأمون صلّى عليه ، تقول الرواية : (  فصلى عليه المأمون ودفنه إلى جانب أبيه الرشيد، وأسف عليه أسفاً كثيراً فيما ظهر، وكتب إلى الحسن بن سهل يعزيه فيه ويخبره بما حصل له من الحزن عليه‏. )، ثم :  ( ‏وكتب إلى بني العباس يقول لهم‏:‏" إنكم إنما نقمتم عليَّ بسبب توليتي العهد من بعدي لعلي بن موسى الرضى، وهاهو قد مات فارجعوا إلى السمع والطاعة‏ .".‏ فأجابوه بأغلظ جواب كتب به إلى أحد‏. ) . يعنى لم تنطل عليهم الخدعة فقد طمعوا فى السلطان ، وضاع دم العلوى المسكين هدرا.!  

6 ـ  وكان طاهر بن الحسين أعظم قائد حربى للمأمون ، وهو الذى أخضع العراق ، وهو الذى هزم جيوش الأمين ، ثم قتل الأمين . يقال فيه : (‏.‏بعثه المأمون إلى بغداد لمحاربة الأمين وظفر به طاهر وقتله ولقبه المأمون ذا اليمين ). ولقد أهان طاهر بن الحسين أم الخليفة الأمين ( زبيدة ) فاشتكت الى المأمون فبكى من أجلها ( وهى عمته ) . ولم يكن المأمون لينسى هذا لطاهر بن الحسين ، ولم يكن ينسى له أنه قتل أخاه الأمين . ليس هذا حبا فى الأمين وأو حبا فى أمه زبيدة ، ولكن حفظأ لمقام الخلافة ومكانة الأسرة العباسية الحاكمة، فالذى يجرؤ على قتل خليفة عباسى سيستهين بأخيه . وكان طاهر بن الحسين داهية ، وقد شهد ما فعله المأمون بالقادة هرثمة والفضل والحسن أبنى سهل وولى العهد العلوى المسكين ، وخاف طاهر بن الحسين أن يكون الضحية القادمة فتحسّب للأمر . تقول الرواية : (  أن المأمون كان إذا ذكر أخاه الأمين وما فعل به طاهر جرت دموعه، وأن طاهرًا أعلم بذلك وطلب البُعد عن الخليفة واحتال لذلك ، فولاه خراسان ، فخرج فلما كان بعد مدة من مقدمه خراسان قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة . ) وعلم المأمون ..وانتهى الأمر بوفاة طاهر ، تقول الرواية : ( ‏وكان قد أخذته حمى وحرارة فوجدوه في فراشه ميتًا. ). أى ولاه المأمون خراسان عام 205 ، ثم قتله عام 207 . ، وكالعادة كان المأمون يكتسب ولاء أقارب الضحية ، وقد ولى المأمون مكانه إبنه ( طلحة بن طاهر ) ( فأقام واليًا على خراسان سبع سنين بعد موت أبيه ثم توفي فولي عبد الله بن طاهر خراسان مع الشام . )

7 ـ وعيّن المأمون ( عبد الله بن طاهر ) واليا على مصر والشام والجزيرة عام 211 . وحقد عليه المعتصم  أخ المأمون فقال للمأمون إن (عبد الله بن طاهر ) يميل إلى ولد علي بن أبي طالب. وأرسل المأمون جاسوسا الى مصر يتظاهر بالدعوة الى  ( القاسم بن إبراهيم بن طباطبأ ) العلوى . ونجح هذا الداعية المزيف فى إستمالة جماعة من الأعيان ، وقابل الوالى ( عبد الله بن طاهر ) وعرض عليه دعوته فى خلوة ، فرفض ( عبد الله بن طاهر ) وطرده . تقول الرواية إن الحاسوس عاد الى المأمون واخبره : ( فاستبشر، وقال: ذلك غرس يدي، وألف أدبي، وترب تلقيحي. ). وبهذا نجا من الاغتيال .

أخيرا

  بالاضافة الى سفك الدماء بعنف وبنعومة إشتهر المأمون وقادته بالبذخ . وتجلى هذا فى زفافه الأسطورى ببوران بنت الحسن بن سهل . تقول الروايات (  وزفت إليه بوران، فلما دخل إليه المأمون كان عندها حمدونة بنت الرشيد وأم جعفر زبيدة أم الأمين، وجدتها أم الفضل، والحسن بن سهل ، فلما دخل نثرت عليه جدتها ألف لؤلؤة من أنفس ما يكون، فأمر المأمون بجمعه، فجمع فأعطاه بوران... وألبستها أم جعفر البدلة اللؤلؤية الأموية، وابتنى بها في ليلته وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منّا . وأقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوماً، يعد له كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه، وخلع الحسن على القواد على مراتبهم، وحملهم، ووصلهم، وكان مبلغ ما لزمه خمسين ألف ألف درهم، وكتب الحسن أسماء ضياعه في رقاع، ونثرها على القواد فمن وقعت بيده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها . ) ( ‏ لما بنى المأمون ببوران بنت الحسن فرش له يوم البناء حصير من ذهب مشفوف ونثر عليه جوهر كثير فجعل بياض الجوهر يشرف على صفرة الذهب وما مسه أحد. فوجَّه الحسن إلى المأمون : "هذا النثار نحب أن نلتقطه " ، فقال المأمون لمَنْ حوله من بنات الخلفاء‏:‏ " شرِّفْنَ أبا محمد " ، فمدت كل واحدة منهن يدها فأخذت درة ، وبقي باقي الدر يلوح على الحصير. ) ‏.  

هذه الثروات من عرق الغلابة المعذبين فى الأرض .!!

ونعايش مسلسل الدماء فى خلافة المأمون .. الداهية ..

اجمالي القراءات 9789

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5118
اجمالي القراءات : 56,903,665
تعليقات له : 5,451
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي