آحمد صبحي منصور Ýí 2015-10-02
كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية
القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون
الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا
(ج ) وصفة سحرية خلدونية للإصلاح الإقتصادي
1 ـ ونؤكد في البداية على أن إستخلاص تلك الوصفة الإقتصادية السحرية مسؤولية المتخصصين في الإقتصاد ، وليس من حقهم الإستعلاء على ما جاء في مقدمة إبن خلدون ، لأن الرئيس الأمريكي ريجان أقام سياسته الإصلاحية على ما جاء في مقدمة إبن خلدون وأعلن ذلك في حينه ، ومن أسف أننا لم نوثق هذه المعلومة حين إذاعتها . وإن ظلت محفوظة في الذاكرة . وندلي باجتهادنا المتواضع في ذلك المجال .
2 ـ وقد سبق إيراد العلاقة بين النفوذ السياسي والثروة وتلازمهما ، بحيث يزداد أحدهما بازدياد الآخر ، ومن هنا فالسلطان الأكثر نفوذا وتسلطا هو الأكثر ثروة ، وفي هذا المناخ عاش إبن خلدون إلا أنه أطلق عبقريته تحاول الإصلاح الإقتصادي والإجتماعي في إطار تهذيب السلطة المطلقة لكي يكون المستبد عادلا ، ومن هنا فإن الرؤية الخلدونية ينقصها بالتأكيد ضرورة الإصلاح السياسي الحقيقي على مراحل.
الرؤية القرآنية تجعل المجتمع هو صاحب الحق المطلق في الثروة والسلطة ، وهو الذي يمارس هذا الحق في تعيين موظف من أصحاب الشأن أو الإختصاص أو الخبرة في موقع المسؤولية على أساس المحاسبة ، وعلى أساس أن طاعته مرتبطة بطاعة الله ورسوله أو كتابه ، وكما يمارس هذا الحق السياسي فإن المجتمع أيضا يمارس حقوقه على الثروة ، بحيث تكون للفرد طالما أحسن التصرف فيها ، فإذا ظهر أنه سفيه قام المجتمع بالحجر عليه والإنفاق عليه من أرباح ثروته التي يديرها المجتمع من خلال وصي ، ويخضع ذلك الوصي للمساءلة ( النساء /5: 6) .
لانريد أن نتوقف كثيرا في شرائع القرآن الإقتصادية والسياسية التي أهملها تراث المسلمين وعباقرة المسلمين أمثالإبن خلدون ، ونعود إلى الرؤية الخلدونية ، وهي تحاول الإصلاح الإقتصادي بديلا عن الإصلاح السياسي المستحيل في وقتها .
3 ــ ونتتبع ملامح هذا الإصلاح الخلدونى على النحو التالي :
3 / 1 - فهناك قواعد عامة تؤكد على دور الدولة في الإقتصاد ، منها أن آثار الدولة أي جهدها في العمران بقدر قوتها ، وقوتها بقدر ثرائها الإقتصادي ، ويعتمد هذا الثراء الإقتصادي على رسوخ الدولة أي استقرارها واستمرار هذا الإستقرار ، وذلك الإستقرار السياسي يتحول فيه الإزدهار الإقتصادي إلى حضارة مستحكمة ومستقرة [1].
3 / 2 : وبعد التأكيد على دور الدولة – التي هي السلطان المستبد – يعملإبن خلدون على تقليص دور السلطان في التدخل في الحرية الإقتصادية بل يكون دوره في منع الظلم ،ومنع السلطان من الإحتكار والمغالاة في الضرائب. والسلطان هنا هو السُّلطة أو النظام الحاكم . ونصل إلى هذه التفصيلات .
3 / 3 - فيرىإبن خلدون أن من الخطأ أن يعمل السلطان – أو الدولة – في الزراعة والتجارة ، أو أي نشاط إقتصادي ، أي يرى من الخطأ أن تقوم الدولة بالإنتاج الإقتصادي ، لأن ذلك يعني تدخل السلطة في قهر المزارعين والتجار على أسعار لا يرتضونها ، مما يجعل حماسهم يضيع فلا ينتجون ، وطالما تناقص الإنتاج فإن دخل الدولة من الضرائب يتناقص [2]، لذلك لابد من رفع يد الدولة عن الإنتاج وأن تترك الناس يعملون مكتفية بفرض الضرائب . وهذا رأى رائع ، نتمنى تطبيقه فى مصر .!!
3 / 4 - ويرتبط ذلك بتجريم إبن خلدون للإحتكار ، وهو يقول في صراحة أن الإحتكار في الزرع مشؤوم [3] وبالتالي لا يجوز للسلطان أن يحتكر سلعة ويرغم الناس على شرائها بالتسعيرة التي يحددها ، ولايجوز له أن يبخس الناس أشياءهم ، وتلك قاعدة قرآنية .
3 / 5 : ويلتفت إبن خلدون إلى ناحية أخطر وهي إحتكار السلطان للثروة وليس مجرد الإنتاج الزراعي . فيؤكد على أن السلطان – أو الدولة – إذا إكتنز الأموال أو إحتكر الثروة ، فقد حل الكساد بالبلد . لذا نرى ابن خلدون يشجع السلطان على إطلاق الأموال في الناس حتى يدور المال دورته فينتعش الإقتصاد . وبالتالي تزداد حصيلة الضرائب من سرعة دوران المال وانتعاش الإقتصاد . ويلخص إبن خلدون ذلك كله في عنوان موجز يقول " نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية " [4] أي باختصار يدعو إبن خلدون إلى تجريد السلطان من أمواله أو بتعبير مخفف يعطيها السلطان للشعب كي يستثمرها له ، ويكتفي السلطان – أو الدولة – بفرض الضرائب أو الجباية . . وهذا أيضا رأى رائع ، نتمنى تطبيقه فى مصر .!!
3 / 6 - ولكن السلطان قد يلجأ للظلم ، ظلم الناس واحتكار جهدهم بلا مقابل ، أو ما يعرف بالسخرة ، وهنا نجد إبن خلدون يقول محذرا في عنوان واضح " إن الظلم مؤذن بخراب العمران " [5]وهي كلمة نستسهل قولها ، ولكن ثقافة العصور الوسطى ــ القائمة أساسا على الظلم ــ تجعل من المخاطر أن تقال هذه الكلمة في عنوان واضح . ولايكتفي إبن خلدون بالعنوان وإنما يشرحه بالتفصيل وبالتحليل وإيراد الأمثلة ، ثم يجعل نصف الفصل في تحريم وتجريم السخرة ، وموجز كلامه أنه على قدر الظلم يكون التقاعس عن العمل والإنتاج ، وعلى قدر العمران والتعمير يكون السعي للعمل والإنتاج ، ويكون أيضا تناقض الظلم وشيوع العدل، ويرى أن الظلم هو إغتصاب أي حق مادي أو معنوي ، ثم يؤكد على أن السخرة من أفظع أنواع الظلم ، وكذلك الإحتكار في البيع والشراء ، والظلم يؤدي إلى خراب المجتمع وسقوط الدولة في النهاية .
4 ــ وحتى نقدر إبن خلدون على هذا التصريح نعطي أمثلة محددة صريحة وسريعة تكشف لنا كيف أصبح الظلم عادة يومية في العصر المملوكي لا تستوجب الكثير من الإستنكار ، فالعصر المملوكي هو عصر بناء العمائر الدينية ، تلك العمائر التي لا تزال تزين القاهرة الإسلامية حتى الآن . وتلك العمائر الدينية من المفهوم أن أصحابها أقاموها تقربا لله تعالى ، ومن المفروض أن تكون من مال حلال طيب ومنزهة من أي ظلم أو سخرة . . ولكن كان يحدث العكس .
ونستشهد بأقوال مؤرخين من نفس العصر :
4 / 1. . فالمؤرخ المملوكي الأصل أبو المحاسن إبن تغري بردي يقول عن المماليك " وأعجب من ظلمهم انشاؤهم المدارس والربط ( جمع رباط وهو مسجد صغير للصوفية ) من هذا المال القبيح " واستشهد أبوالمحاسن بمدرسة فخر الدين ومدرسة جمال الدين الإستادار وما حدث من ظلم في بنائهما بزعم التقرب لله.
4 / 2 وترددت إشارات أخرى كاستعمال العسف والقسوة في بناء العمائر الدينية ، فقد ذكرالعيني أنه نودي في القاهرة ألا يخرج أحد من الناس إلى أن تتم عمائر السلطان الناصر فرج ، ومنعوا بيع المؤونة والغذاء " فحصل بذلك ضرر كثير للناس ".
4 / 3 ـ وأراد الناصر فرج سلب رخام مدرسة جمال الدين الإستادار ، وهو أمير ظالم سابق ، فألزم بعض أعوان السلطان بأن تصبح الخانقاه ملكا للسلطان ويمحو منها إسم جمال الدين الإستادار ، واستعان بالقضاة في تنفيذ ذلك عن طريق الإستبدال ، وكان ذلك بعد موت إبن خلدون بست سنوات [6] .
4 / 4 ـ ويذكر أبوالمحاسن أن الأمير قان بردي الأشرفي شرع في بناء عمائره الدينية وكان ذلك في عدة أيام ، ويصف أبوالمحاسن ما حدث للعمال ، يقول " ومع هذا ظلم في تلك الأيام الظلم الزائد ، وعسف بالصناع وأبادهم بالضرب وباستعمالهم بغير أجرة ، فما عف في ذلك ولا كف " [7] .
4 / 5 ـ وكان يونس الداودار مشهورا بحب الرشوة ، ومن أمواله تلك أقام مدرسة وخانقاه ورباطا وزاوية ومقاما أي تربة [8] وتوفى أثناء وجود إبن خلدون في مصر أي سنة 791هـ .
4 / 6 ـ وقال المقريزي [9] عن الأمير أقبغا " كان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير " ومع ذلك أقام مدرسته المعروفة بالاقبغاوية وفيها صوفية خصصهم للدعاء له .
4 / 7 ـ ولما بني السلطانالمؤيد شيخ جامعه المشهور ، ينقل إبن إياس ما حدث للناس في بناء ذلك المسجد يقول " حصل للناس بسببه غاية الضرر لأجل الرخام ، وصار المؤيد يكبس ( أي يهجم ) الحارات التي فيها بيوت المباشرين ( أي كبار الموظفين ) وأعيان الناس ، بسبب الرخام ، وكان والي القاهرة يهجم على الناس في بيوتها ومعه المرخمون ( أي صناع الرخام ) فيقلع رخام الناس طوعا أو كرها ، وأخرب دورا كثيرة " [10] .
4 / 8 ـ واستولىزين الدين الإستادار على معاش الفقراء " وجمع من هذا المال الخبيث أموالا كثيرة ، وعمر منها الجوامع والمساجد والسبل ( جمع سبيل )" [11].
4 / 9 ـ أماالسلطان الناصر محمد بن قلاوون فقد إشتد عشقه الشاذ بالأمير الطنبغا المارديني فانشأ له جامعا !! يقول المقريزي في حوادث سنة 735 " وفيها كثر شغف السلطان بمملوكه الطنبغا المارديني شغفا زائدا فأحب أن ينشئ له جامع [12] ووصف المقريزي الظلم الذي صاحب إنشاء هذا الجامع الذي لايزال حتى الآن من مفاخر العمائر المملوكية .
وهذا جانب من الظلم السائد فى عصر ابن خلدون والذى حاربه إبن خلدون .
[1]- المقدمة : الفصل 17 ، الباب 4 ، الفصل 18 ، الباب 3
[2]- المقدمة : الفصل 4 ، الباب 3.
[3]- المقدمة : الفصل 13 ، الباب 5
[4]- المقدمة : الفصل 43 ، الباب 3
[5] - المقدمة : الفصل 44 ، الباب 3
[6]- العيني : عقد الجمان : مخطوط لوحة 331.
[7]- أبوالمحاسن : حوادث الدهور 3/728 نشر بارينير .
[8]- العيني : عقد الجمان لوحة 381 : 382.
[9]- خطط المقريزي 4/224: 225.
[10]- تاريخ ابن إياس 2/20 .
[11]- أبوالمحاسن : النجوم الزاهرة 16/28.
[12]- المقريزي : السلوك 20/ 385 .
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5123 |
اجمالي القراءات | : | 57,057,656 |
تعليقات له | : | 5,452 |
تعليقات عليه | : | 14,828 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
الغزالى حُجّة الشيطان : ف 2 : الغزالى فى الإحياء يرفع التصوف فوق الاسلام ( 1 )
الغزالى حُجّة الشيطان ( 9) الغزالى والاسرائيليات ( جزء 2 )
دعوة للتبرع
التنازل فى الميراث: توفي رجل وكان الورث ة هم الزوج ة والاو لاد ...
عن لحظات قرآنية : ياسيد ي لقد جعلوا الزوا ج نصف الدين فكيف لا...
لا زلنا نحلم بمسجد !: انا من المعج بات والمش جعات للفكر...
هل ربنا يكيد ؟: هل ربنا يكيد ؟ ما معنى ( إن كيدى متين )؟ ...
وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ: ينهى الله سبحان ه وتعال ى عن التنا بز ...
more