كتاب الحج ب 3 ف 4( الصوفية وإسقاط التكاليف (العبادات) الإسلامية )

آحمد صبحي منصور Ýí 2013-03-07


 

  كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثالث : الحج فى الدين الصوفى

الفصل الرابع  : الصوفية وإسقاط التكاليف (العبادات) الإسلامية :

 أولا : فريضة العبادات بين الاسلام والتصوف

 1- فرض الله تعالى على المؤمنين تكاليف تعبدية كالصلاة والصيام والزكاة  والحج والجهاد وذكره وتسبيحه ،إلى غير ذلك من فرائض يحقق بها المسلم تقواه ويجسد عقيدته الدينية القلبية فى صورة سلوك يأتمر بأوامر الله وينتهى عن نواهيه. والمسلمون سواسية أمام فرائض الله تعالى ،كل منهم يؤديها طالما إكتملت فيه شرائطها.. وأول المؤمنين إمتثالاً لأوامر الله تعالى هم الأنبياء.. بل ربما يُكلّف النبي فى العبادة لله مالا يطيقه المؤمن العادى ،وعلى ذلك فأكمل المؤمنين إيماناً هم أكثرهم لله طاعة، وبحساب الطاعة يكون الحساب الختامى لولاية العبد لله تعالى .. 

 2- أما فى التصوف فالشأن مختلف .. فالعقل المجرد إذا أيقن أن الصوفية إدّعوا الأُولوهية انتظر منهم الخطوة التالية وهى إسقاط التكاليف الإسلامية ، فالمنطق يحتم ذلك ، فهذه التكاليف عنوان لعبودية المؤمن لله ، فلا تتفق بأى حال مع دعوى الأُلوهية الصوفية .. والصوفية كانوا صادقين مع أنفسهم وعقيدتهم فلم يتحرج المعتدلون منهم عن الدعوة لإسقاط التكاليف الإسلامية لأنها تتنافى مع عقيدة الإتحاد الصوفية.. وإن غلّفوا عباراتهم بشيء من الغموض وذلك شيء طبيعى ومنطقى فى مجتمع لا يتصور الإعلان عن إسقاط فرائض الله جلّ وعلا وشعائر دينه . من ذلك ما أورده الطوسى فى اللمع من أن الشبلى قال لرجل (تدرى لم لا يصح لك التوحيد) أى الاتحاد الصوفى (قال لا .قال : لأنك تطلبه بإياك)[1]. ويعني أنه يطلب الوصول لله تعالى ب(إياك نعبد وإياك نستعين) أي بالعبادة ،ومتى طلبه بالعبادة فلن يمكن أن يدعى الاتحاد بالله ، إذ كيف تصلى الآلهة لبعضها، وهل يتصور أن يخصع إله لإله؟؟. 

ثانيا : الغزالى ومحاولة التوفيق بين دين الاسلام وإسقاط التكاليف الاسلامية عند الصوفية  

1 ـ والأمام الغزالى وضع كتابه ( إحياء علوم الدين ) ليعقد صلحا بين الاسلام والتصوف ، ولهذا الهدف قام بتأويل الآيات القرآنية وإفتراء الأحاديث ، وجعل هذا التوفيق لصالح التصوف ،فكان يقرّر عقيدته الصوفية بين سطور كتابه ( إحياء علوم الدين ) مستخدما مصطلحات التصوف الخاصة فى تأليه الصوفية أنفسهم . وقد واجهته مشكلة ( أسلمة ) عقيدة الصوفية فى إسقاط التكليف الاسلامية ، وهى التى يؤمن بها الغزالى نفسه . فكيف قام بالتوفيق بينها وبين الاسلام الذى يتستّر به.؟  .

منهج الغزالى أنه كان ينكر ويندد بمن يعلن هذا من شيوخ التصوف فى عصره ـ، بينما يقوم هو بتقرير نفس العقيدة فى كتابه ( الاحياء ) مستخدما المصطلحات الصوفية وشتى التعليلات والتخريجات ، والتأويل وصنع الأحاديث ( النبوية )، ومعظم أحاديث الغزالى فى كتابه ( الاحياء ) لا أصل لها ، كما يؤكّد العراقى الفقيه الّسّنى الذى قام بتخريج الأحاديث فى ( الاحياء ) وعرضها على ميزان النقد والجرح والتعديل طبقا لمناهج أهل الحديث . ومعناه أن تلك الأحاديث التى أسرف الغزالى فى الاستشهاد بها لم تكن موجودة من قبل ، أى هو الذى إفتراها .  

2 ـ فالغزالى كان ينكر على أوباش الصوفية فى عصره دعوتهم لإسقاط الفرائض. يقول (ظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى فإذا حصلت المعرفة فقد وصل ، وبعد الوصول يستغنى عن الوسيلة والحيلة ،فتركوا السعى والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلّهم ( أى مكانتهم وقدرهم ـ فى معرفة الله  تعالى عن أن يمتهنوا بالتكليف ( أى أن يذلّوا بالعبادة ) ، وإنما التكليف على عوام الخلق)[2].  وبعضهم (عجز عن قمع صفاته البشرية بالكلية) أى عجز عن إخماد الطبيعة البشرية فى داخله   وعجز عن أن يكون إلهاً متحداً بالله (فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع فى الإلحاد)[3].  أى أن الأولون (وصلوا) بتعبير الغزالى. أى وصلوا لدرجة الأُلوهية فأعلنوا أن التكليف سقط عنهم إذ هو على عوام الخلق ،أى البشر المخلوقين، والآخرون لم يصلوا للأُلوهية فادعوا أن السبب يكمن فى الشرع وتكليفه فأعلن أنه لا أصل للشرع  وأنه تلبيس واعتبر الغزالى ذلك الصنف ملحداً.

ومعنى ذلك أن الدعوة لإسقاط التكاليف قال بها الصوفية جميعاً فى عصر الغزالى، سواءٌ منهم من اعتبره الغزالى صوفياً واصلا  أم من إعتبرهم فى بداية الطريق ، ويعنى ذلك أيضاً أن دعوتهم هذ قوبلت بسخط  الناس وإنكارهم فى عصر الغزالى ، فرأى الغزالى أن يبادر بالإنكار عليهم حفظاً للدين الصوفى من أعدائه الفقهاء الحنابلة .

3  ـ إلا أن الغزالى فى نفس الكتاب ( الاحياء) يقرر عقيدته الصوفية الرامية لإسقاط التكاليف الإسلامية عن الصوفى الواصل ، وذلك بأسلوب ملتو غير مباشر كالشأن به دائماً فى مواضيع التصوف فى كتاب الاحياء ، يقول مثلاً : ( ليس يخفى أن غاية المقصود من العبادات الفكر الموصل للمعرفة والاستبصار بحقائق الحق)[4]. وخطورة هذه العبادة تتجلى فى أن الفقيه العادى يقرأها بطريقة حسنة النية فلا يرى فيها عوجاً ولا أمتاً ، أما قراءة الصوفى – والخطاب موجه إليه أساساً ـ   فيرى فيها تقريراً كاملاً لإسقاط التكاليف الإسلامية ، فالصوفى يفهم أن غاية العبادات هى المعرفة ، والمعرفة هى عندهم الاتحاد الصوفى بالله جلّ وعلا . ( والاستبصار بحقائق الحق )  أى معرفة الأسرار الإلهية اللدنية، أى العلم اللدنى الالهى الذى يزعمون أنه يأتى لقلب العارف الصوفى بالفيض من الله جل وعلا مباشرة حيث يخاطبه الله ويخاطب هو الله بلا واسطة  ، وهذا فرع من عقيدة الاتحاد بالله عندهم . ومعنى ذلك أن الغاية ( وهى المعرفة الصوفية) إذا حصلت للصوفى بجذبة إلهية مثلاً فقد استغنى عن الوسيلة( وهى العبادات) .

3 ـ وفى مواضع أخرى من كتاب ( الاحياء) تعرض الغزالى لعقيدة الصوفية فى بإسقاط  التكاليف الإسلامية  فضرب الأمثلة للتوضيح ، يقول : ( قيل لعبد الواحد بن زيد : ههنا رجل قد  تعبّد خمسين سنة . فقصده ، فقال له : يا حبيبي أخبرنى عنك ،هل قنعت به ؟ قال. لا . قال: هل أنست به ؟ قال : لا. قال : فهل رضيت عنه ؟ قال : لا . قال: فإنما مزيدك منه الصوم الصلاة؟     قال : نعم ، قال :  لولا أن استحي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة) ، أى مغشوشة، ويشرح الغزالى هذه القصة فيقول أن المعنى أنه قال له :  ( إنه لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب ، وإنما أنت تُعدّ فى طبقات  أصحاب اليمين لأن مزيدك منه فى أعمال الجوارح التى هى مزيد أهل العموم)[5].  فهذه  قصة وهمية جعلت عبادة خمسين عاماً لاغية عند الصوفى عبد الواحد بن زيد ، لأن صاحبها لم يستشعر المقامات الصوفية الإتحادية من الأُنس والرضا والقرب، أو بتعبير الغزالى فقد حرمت  صاحبها من الترقى فى درجات القرب حتى يصل للإتحاد بالله جل وعلا والوصول الى أن يكون من ( أهل الحضرة ) أى الجلوس مع الله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، لذا فإنّ منتهى أمر هذا العابد بعد خمسين عاما من العبادة أن يكون من أصحاب اليمين ( التى هى مزيد أهل العموم) أى عموم الخلق الذى لا عمل لهم إلا القيام بالعبادات الإسلامية ،أما الصوفية فهم ـ  بلا عبادة وبلا تكليف ـ  يتمتعون بالقرب من الله والأُنس بالله والمناجاة  مع الله والعشق الالهى ـ  تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا ..

ويلفت النظر هنا أن الغزالى احتج على أولياء عصره مقالتهم بأن التكليف بالعبادات على عوام الخلق فقط وليس عليهم ، وجاء هنا فى قصة عبدالواحد بن زيد فعلّق على العبادات والقائمين بها بأنها ( أعمال الجوارح التى هى مزيد أهل العموم ) فالمعنى واحد . والغزالى يقع دائماً فى التناقض مع نفسه وبإختياره ،. كى يحقق الصلح المستحيل بين الإسلام والتصوف ، فيضطر للإنكار على معاصريه من الصوفية ثم يعود ويقرر ما أنكره أو يؤكد ما ينفيه .

4 ـ  وفى موضع آخر يتحدث الغزالى عن التصوف وأعمال الباطن المزعومة ، ثم يعرض للتكاليف الإسلامية والعبادات ، فيقول ( فأما ما ذكرناه ، فهو تفكر فى عمارة الباطن ليصلح للقرب والوصال ، فإذا ضيّع جميع عمره فى إصلاح نفسه فمتى يتنعم بالقرب؟ !!. ولذلك كان الخوَاص يدور فى البوادى فلقيه الحسين بن منصور ( الحلاج) وقال : فيما أنت؟ قال: أدور فى البوادى أصلح حالى فى التوكل ، فقال الحسين : أفنيت عمرك فى عمران باطنك ، فأين الفناء فى التوحيد؟؟.  فالفناء فى الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين . وأما التنزّه عن الصفات المهلكات فيجرى مجرى الخروج عن العدة فى النكاح ، وأما الاتّصاف بالصفات المُنجّيات وسائر الطاعات فيجرى مجرى تهيئة المرأة جهازها وتنظيفها وجهها ومشطها شعرها لتصلح بذلك للقاء زوجها . فإن استغرقت جميع عمرها فى تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجاباً لها عن لقاء المحبوب . فهكذا ينبغى أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة ، وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفاً من الضرب وطمعاً فى الأجر فدونك وإتعاب البدن  بالأعمال الظاهرة ، فإن بينك وبين القلب حجاباً كثيفاً، فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ، ولكن للمجالسة أقوام آخرون)[6].  

فالغزالى يظهر هنا على حقيقته كصوفى قح .. فهو ينظر بإحتقار إلى العبادات الاسلامية وطاعة الأوامر والنواهى الإلهية من خلال عقيدته الصوفية بالاتحاد بالله جلّ وعلا ، ومسمياتها الصوفية التى تساويهم بالله ، طبقا للرجس القائل عندهم بالعشق الالهى الذى يساوى بين الخالق والمخلوق ، ويستعمل مصطلحات العشق الالهى الصوفية من القرب والوصال والفناء والمجالسة والحجاب . ويبدأ النص بالغزالى وهويطرح سؤالاً صوفيا يقول : إذا ضيع الإنسان عمره فى إصلاح نفسه بالطاعة فمتى يتنعم بقرب الله تعالى؟  أو بالتعبير الحقيقى إذا أضاع عمره فى الطاعة فمتى يتنعم بالألوهية؟ واستشهد ـ  ليس بالقرآن وإنما بقصة صوفية عن الحلاج كان فيها الحلاّج يشرع للخواص أسهل الطرق للوصول للتأليه أو الاتحاد الصوفى بالله ، وأنها ليست بإصلاح الحال أى بالأعمال الصالحة، وإنما بالفناء فى التوحيد أى الاستغراق فى الألوهية باعلان عقيدة الاتحاد والفناء فى الذات الإلهية ، فذلك ( هوغاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين) حسب قول الغزالى. ثم يصف الغزالى أعمال الطاعات بأنها تجرى ( مجرى تهيئة المرأة جهازها وتنظيفها وجهها ومشطها شعرها لتصلح بذلك للقاء زوجها) ، أى كالعروس التى تتجهّز لليلة الدُخلة ، ويصف الإنتهاء عما نهى الله عنه بأنه كخروج المرأة ( عن العدة فى النكاح) باستبراء الرحم من شبهة الحمل . فإذا ظلت العروس تجهّز نفسها لليلة الدخلة فمتى ستتمتّع بلقاء حبيبها ، يقول ( فإن استغرقت جميع عمرها فى تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجاباً لها عن لقاء المحبوب) .

5 ـ  ومع بشاعة التشبيه الجنسى الذى قاله الغزالى فى وصفه العلاقة بين الله جل وعلا والبشر ، ومع بشاعة التشبيه للتكاليف الإسلامية فإنه يعكس نفسية الصوفية ونظرتهم لله تعالى ونظرتهم لأنفسهم كألهة يستحقون المساواة بالله ويعشقونه ( والعشق لغويا يعنى اللقاء الجنسى ) ، أى إنهم لا يرون لأنفسهم مقاماً إلا مجالسته وقربه والفناء فيه وعشقه ( تعالى عن ذلك علواًكبيراً).

 والغزالى لا يكتفى بذلك وإنما يعتبر التكاليف الإسلامية التى تعنى تطبيق العبودية لله تعالى ـ  حجاباً ومانعا يمنع الوصول لدرجة المجالسة مع الله والجلوس معه فى الحضرة الالهية ، فإذا أضاع الصوفى عمره فيها فقد حجب عن لقاء المحبوب يقول ( فإن استغرقت المرأة جميع عمرها فى تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجاباً لها عن لقاء المحبوب ، فهكذا ينبغى أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة ) أى الذين يجلسون مع الله .

ولا يكتفى الغزالى بذلك ، بل يصف الأنبياء والرسل وأتباعهم المؤمنين بأنهم ( عبيد سوء ) لأنهم اتعبوا أنفسهم  بالعبادة خوفاً من النار وطمعاً فى الجنة .. وأولئك إن افلحوا فمصيرهم الجنة، وليس لهم نصيب فى الجلوس فى الحضرة الالهية . أمّا الصوفية فلا يأبهون بالجنة ونعيمها ولا بالنار وعذابها ، لأنّ مرادهم الالوهية وألّا يتم حجبهم عن مجالسة الله والعشق الالهى بالمحبوب ..يقول الغزالى : ( فهكذا ينبغى أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة ، وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفاً من الضرب وطمعاً فى الأجر فدونك وإتعاب البدن بالأعمال الظاهرة فإن بينك وبين القلب  حجاباً كثيفاً، فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ولكن للمجالسة قوم آخرون )..

والغزالى اختار لفظ (العبد) عمداً، فالطائعون (عبيد) لله و( عباد الرحمن ) أما الصوفية فهم  آلهة ينزعون للإتحاد بالله ويعتبرونه نداً يجالسونه ويفنون فيه عشقا واتحاداً به .. طريق اتحادهم يكمن فى القلب ،إذ بالقلب أوبالروح يتلقى الصوفى العلم الإلهى ويعلم الغيب وتكون الجذبه الإلهية ،و يصف الغزالى المؤمنين (عبيد السوء)بأن بينهم ( وبين القلب حجاباً كثيفاً)..وذلك الحجاب الكثيف هو الطاعة لله بأداء فرائضه والإنتهاء عن نواهيه..أى ان الفرائض الإسلامية حجاب عنده !!

 ثالثا : الشعرانى وتسويغ إسقاط التكاليف فى العصرين المملوكى والعثمانى

 1 ـ  وأتاح العصر المملوكى الفرصة للهرب من أداء التكاليف الشرعية ، فالصوفى يحظى بإعتقاد الناس فى كراماته وإن الأرض تُطوى له بخطوة ، أو أنه يتطور أو يتشكل فى صور متعددة ، ومن كان هذا شأنه سهل تصديقه ـ  وهو مصدق صدوق عندهم ـ  بأنه كان يصلى فى مكة أو القدس أو نحو ذلك ، مما سهل الطريق نوعاً ما على إمام التصوف الشعرانى فى القرن العاشر الهجرى ، فهب يدافع عن المقالة الصوفية الشهيرة التى سادت فى العصر المملوكى تزعم أن السالك الذى يصل إلى مقام الاتحاد يرتفع عنه التكليف ، ويفسرها الشعرانى بأنه يسقط عنه التكليف بأداء العبادات بمعنى ألّا تكون العبادة مُرهقة له أو مُملّة له ، يقول الشعرانى : ( قول بعض العارفين أن السالك يصل إلى مقام يرتفع عنه التكليف مرده بهذا التكليف ذهاب كُلفة العبادة فلا يصير يملّ منها .). ثم يؤكّد هذا التأويل بما شاع فى عصره من الاعتقاد فى كرامات الأولياء بحيث يتنقّل أحدهم فى لمح البصر من مكان الى مكان ، أو ما يُعرف بالطى للمكان ، فيصلّى حيث شاء من الأرض بلا مشقّة ، يقول : ( ومن عباد الله من لا يصلى الصلوات الخمس إلا بمكة ، ومن لا يصليها إلا ببيت المقدس ، ومنهم من لا يصليها إلا بالمدينة المشرفة ،ومنهم من لا يصليها إلا بجبل قاف ، ومنهم من لا يصليها إلا فى قبة أرين أو فوق سد اسكندر أوعلى الجبل المقطم [7]. ).  وهكذا ، فسيطرة التصوف أتاحت للشعرانى أن يؤول (سقوط التكليف) بأنها سقوط كلفة العبادة ومشقتها حيث يتمتع الصوفى بكراماته المزعومة بسفر سعيد ومريح وبسرعة الضوء إلى أماكن خاصة يؤدى فيها الفريضة بعيدا عن الناس ، ثم يعود بسرعة الضوء أيضا ، وكأن شيئاً لم يكن وبراءة الأطفال فى عينيه .  

أخيرا : لمحة للتذكير :

 1 ـ هذا. ونتأهب فى هذا الباب لبحث الشعائر الدينية التى ارساها دين التصوف فى العصر المملوكى ،وكيف تعامل مع فريضة الحج . ونعيد التذكير بإنّ الحج كالصلاة وباقي شعائر الإسلام ، ليست فرضاً استحدثته رسالة الإسلام الخاتمة بل أن القرآن آخرالكتب السماوية يؤكد أن التشريع الإلهي واحد في أساسياته (الشورى13) كما أن الوحي للأنبياء جميعاً متفق في الإجمال(النساء163،فصلت43،الزمر65). وبينما اندثرت الكتب السماوية القديمة وأهلك الله تعالى الأمم السابقة،فإن ابراهيم عليه السلام يمثل مرحلة متميزة في تاريخ الأنبياء، فقد تناسلت من ذرينته أمة العرب المستعربة وأمة بني إسرائيل، وقد جاء منهم الأنبياء وأنزل الله فيهم الرسالات ، ثم ختمت الرسالات السماوية بالقرآن وكان محمد خاتم النبيين عليهم السلام . والرسالات السماوية التى نزلت في أبناء ابراهيم من الأنبياء كانت تدعوهم للتمسك بملة ابراهيم حنيفاً ، أى إسلام القلب والوجه والعقيدة لله تعالى وحده وتأدية العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج لله تعالى مخلصاً له الدين . وهذا ما يؤكده القرآن  كلمة الله تعالى الأخيرة – للبشر،حين يأمر النبي والمؤمنين وأهل الكتاب وجميع البشر باتباع ملة ابراهيم حنيفاً(البقرة:135 ،آل عمران95 ، النساء 125،الأنعام 161)، وكان الحج للبيت الحرام أهم معالم ملة ابراهيم .فابراهيم هو الذى أرشده الله تعالى لمكان البيت وأمره أن يطهره مما حوله من الأوثان وأن يدعو الناس جميعاً للحج إليه (الحج26)(البقرة125). وأكد القرآن على أن الحج للبيت فريضة عامة على كل البشر،إذ أنه أول بيت وضعه الله تعالى للناس وعلى الناس جميعاً الحج إليه (آل عمران96-) وقد جعله الله تعالى مثابة للناس وأمناً(البقرة125) والحج إليه واجب على جميع البشر،سواء من كان مقيماً في مكة.. او كان يقطع البوادي سفراًإليها(الحج25).

2 ـ وكان سكان الجزيرة العربية من أميين(لم ينزل عليهم كتاب سماوي) ومن أهل كتاب (كاليهود والنصارى ) يحجون إلى البيت الحرام.إلا أن العرب ما لبثوا أن قدسوا الأولياء وأقاموا لهم الأنصاب (الأضرحة) والأصنام   وزحفت تلك الأصنام إلى البيت الحرام ، حيث كانت لكل قبيلة صنم يمثلها عند الكعبة،وأصبح الحج لبيت الله البيت الحرام حجاً لتلك الأصنام المقدسة،هذا بالإضافة إلى كعبات أخرى أو موالد أخرى أقيمت في مناطق متفرقة. وأصبح لهذا التدين مصالح تجارية وأجتماعية وعلاقات متشابكة.وهذا ما نزل القرآن لإصلاحه داعياً للعودة إلى ملة ابراهيم الحنيفية،بأن تكون العقيدة والإيمان والعبادات والأخلاق خالصة لله تعالى وبلا تقديس لبشر أو حجر.ونجح خاتم النبيين أخيراً في العودة بالعرب إلى ملة ابراهيم في الصلاة والصيام والحج والزكاة.. ولكن مالبث أن عاد التواتر القرشى الجاهلى بعد موت النبى عليه السلام ، وتم تشريعه فى الدين السّنى كما سبق تفصيله . 

3 ـ وظهر دين التصوّف فكانت له طقوسه النابعة من عقيدته فى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والحقيقة المحمدية . وتأثرت بهذا فريضة الحج  عندهم .فالحج لم ينج أيضاً من عبث الصوفية .

والموقف الصوفي من فريضة الحج تفرع إلى ثلاثة أتجاهات،يكمل بعضها بعضاً :

أولاً : دعوة الصوفية لإهمال الحج الإسلامي والتهوين من شأن الكعبة ،

ثانياً: تشريع الحج الصوفي للأولياء الأحياء والأضرحة ،بنفس شعائر الحج الإسلامي تقريباً،

وثالثاً: التحوير في فريضة الحج الإسلامية بما يتلائم مع دين التصوف .

ويلاحظ أن موقف الصوفية من الحج يتناغم وموقفهم من الصلاة.. فهم أهملوها وحوروها وشرعوا لهم صلاة.. وصلاتهم للأولياء أو توسلهم بالأولياء يعني الاتجاه للولي بالزيارة والحج، فنظراَ لتعدد الأولياء وتواجد كل منهم في مكان فإن الصلاة لا تحلو  للصوفي إلا بين يدي الولي حياً أو مقبوراً في ضريح .. وهنا تتلازم عندهم فريضتا الحج والصلاة.. أو الزيارة والتوسل.. وتقوم (الموالد) الصوفية بالجمع بين الفريضتين (الصلاة والحج)أو(الزيارة والتوسل) ..والزيارة هى الحج،فالحج يعني في اللغة القصد (حج البيت أى قصد البيت ويقال حجيت الموضع أحجه حجاً إذا قصدته،ثم سمي السفر إلى البيت حجاً دون سواه)[8]أو(الحج في الأصل:القصد وفي العرف قصد مكة للنسك)[9]..

وإذا كانت زيارة البيت الحرام في وقت معين يسمى حجاً فإن زيارة الأنصاب والأضرحة في وقت معين والتمسح بها وإقامة الشعائر حولها بما يتشابه وشعائر الحج لا تفترق عن حج المسلم للكعبة..من حيث القصد والتقديس والعبادة ..

وهذا ما كان معمولاً به في العصر الجاهلي .. حيث حرفوا في نسك الحج مع قيامهم به منذ دعوة ابراهيم عليه السلام في نفس الوقت الذي قاموا فيه بالحج إلى الأنصاب والبيوت المعظمة في أوقات معلومة..

وأعاد التصوف هذه الجاهلية، إذ دارت الحياة الدينية فيه حول القبور المقدسة ؛بالصلاة والحج اليها .

وموعدنا الآن مع تفصيل ذلك كله..  



[1]
اللمع 53.

[2]احياء جـ 3 /199.

[3]احياء جـ3/199

[4]احياء جـ 3 /73.

[5]احياء جـ4 /299.

[6]احياء جـ4 /367: 368.

[7]اليواقيت والجواهر153

[8]أبو بكر السجستانى * القرآن 73 نشر صبيح .

[9]الرازى .مختار الصحاح     (حج).

اجمالي القراءات 11760

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الأربعاء ١٢ - أبريل - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً
[85709]

فرض الله تعالى على المؤمنين تكاليف تعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وذكره وتسبيحه


فرض الله تعالى على المؤمنين تكاليف تعبدية كالصلاة والصيام والزكاة  والحج والجهاد وذكره وتسبيحه ،إلى غير ذلك من فرائض يحقق بها المسلم تقواه ويجسد عقيدته الدينية القلبية فى صورة سلوك يأتمر بأوامر الله وينتهى عن نواهيه. والمسلمون سواسية أمام فرائض الله تعالى ،كل منهم يؤديها طالما إكتملت فيه شرائطها.. وأول المؤمنين إمتثالاً لأوامر الله تعالى هم الأنبياء.. بل ربما يُكلّف النبي فى العبادة لله مالا يطيقه المؤمن العادى ،وعلى ذلك فأكمل المؤمنين إيماناً هم أكثرهم لله طاعة، وبحساب الطاعة يكون الحساب الختامى لولاية العبد لله تعالى .أما فى التصوف فالشأن مختلف .. فالعقل المجرد إذا أيقن أن الصوفية إدّعوا الأُولوهية انتظر منهم الخطوة التالية وهى إسقاط التكاليف الإسلامية ، فالمنطق يحتم ذلك ، فهذه التكاليف عنوان لعبودية المؤمن لله ، فلا تتفق بأى حال مع دعوى الأُلوهية الصوفية .. والصوفية كانوا صادقين مع أنفسهم وعقيدتهم فلم يتحرج المعتدلون منهم عن الدعوة لإسقاط التكاليف الإسلامية لأنها تتنافى مع عقيدة الإتحاد الصوفية.. وإن غلّفوا عباراتهم بشيء من الغموض وذلك شيء طبيعى ومنطقى فى مجتمع لا يتصور الإعلان عن إسقاط فرائض الله جلّ وعلا وشعائر دينه . من ذلك ما أورده الطوسى فى اللمع من أن الشبلى قال لرجل (تدرى لم لا يصح لك التوحيد) أى الاتحاد الصوفى (قال لا .قال : لأنك تطلبه بإياك)[1]. ويعني أنه يطلب الوصول لله تعالى ب(إياك نعبد وإياك نستعين) أي بالعبادة ،ومتى طلبه بالعبادة فلن يمكن أن يدعى الاتحاد بالله ، إذ كيف تصلى الآلهة لبعضها، وهل يتصور أن يخصع إله لإله؟؟.  الغزالى ومحاولة التوفيق بين دين الاسلام وإسقاط التكاليف الاسلامية عند الصوفية  والأمام الغزالى وضع كتابه ( إحياء علوم الدين ) ليعقد صلحا بين الاسلام والتصوف ، ولهذا الهدف قام بتأويل الآيات القرآنية وإفتراء الأحاديث ، وجعل هذا التوفيق لصالح التصوف ،فكان يقرّر عقيدته الصوفية بين سطور كتابه ( إحياء علوم الدين ) مستخدما مصطلحات التصوف الخاصة فى تأليه الصوفية أنفسهم . وقد واجهته مشكلة ( أسلمة ) عقيدة الصوفية فى إسقاط التكليف الاسلامية ، وهى التى يؤمن بها الغزالى نفسه . فكيف قام بالتوفيق بينها وبين الاسلام الذى يتستّر به.؟  .منهج الغزالى أنه كان ينكر ويندد بمن يعلن هذا من شيوخ التصوف فى عصره ـ، بينما يقوم هو بتقرير نفس العقيدة فى كتابه ( الاحياء ) مستخدما المصطلحات الصوفية وشتى التعليلات والتخريجات ، والتأويل وصنع الأحاديث ( النبوية )، ومعظم أحاديث الغزالى فى كتابه ( الاحياء ) لا أصل لها ، كما يؤكّد العراقى الفقيه الّسّنى الذى قام بتخريج الأحاديث فى ( الاحياء ) وعرضها على ميزان النقد والجرح والتعديل طبقا لمناهج أهل الحديث . ومعناه أن تلك الأحاديث التى أسرف الغزالى فى الاستشهاد بها لم تكن موجودة من قبل ، أى هو الذى إفتراها .  



2   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الأربعاء ١٢ - أبريل - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً
[85710]

مع الغزالي والشعراني نبقى :


وصف الأنبياء والرسل وأتباعهم المؤمنين بأنهم ( عبيد سوء ) لأنهم اتعبوا أنفسهم  بالعبادة خوفاً من النار وطمعاً فى الجنة .. وأولئك إن افلحوا فمصيرهم الجنة، وليس لهم نصيب فى الجلوس فى الحضرة الالهية . أمّا الصوفية فلا يأبهون بالجنة ونعيمها ولا بالنار وعذابها ، لأنّ مرادهم الالوهية وألّا يتم حجبهم عن مجالسة الله والعشق الالهى بالمحبوب ..يقول الغزالى : ( فهكذا ينبغى أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة ، وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفاً من الضرب وطمعاً فى الأجر فدونك وإتعاب البدن بالأعمال الظاهرة فإن بينك وبين القلب  حجاباً كثيفاً، فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ولكن للمجالسة قوم آخرون )..والغزالى اختار لفظ (العبد) عمداً، فالطائعون (عبيد) لله و( عباد الرحمن ) أما الصوفية فهم  آلهة ينزعون للإتحاد بالله ويعتبرونه نداً يجالسونه ويفنون فيه عشقا واتحاداً به ، وعن الشعراني :أتاح العصر المملوكى الفرصة للهرب من أداء التكاليف الشرعية ، فالصوفى يحظى بإعتقاد  الناس فى كراماته وإن الأرض تُطوى له بخطوة ، أو أنه يتطور أو يتشكل فى صور متعددة ، ومن كان هذا شأنه سهل تصديقه ـ  وهو مصدق صدوق عندهم ـ  بأنه كان يصلى فى مكة أو القدس أو نحو ذلك ، مما سهل الطريق نوعاً ما على إمام التصوف الشعرانى فى القرن العاشر الهجرى ، فهب يدافع عن المقالة الصوفية الشهيرة التى سادت فى العصر المملوكى تزعم أن السالك الذى يصل إلى مقام الاتحاد يرتفع عنه التكليف ، ويفسرها الشعرانى بأنه يسقط عنه التكليف بأداء العبادات بمعنى ألّا تكون العبادة مُرهقة له أو مُملّة له ، يقول الشعرانى : ( قول بعض العارفين أن السالك يصل إلى مقام يرتفع عنه التكليف مرده بهذا التكليف ذهاب كُلفة العبادة فلا يصير يملّ منها .). ثم يؤكّد هذا التأويل بما شاع فى عصره من الاعتقاد فى كرامات الأولياء بحيث يتنقّل أحدهم فى لمح البصر من مكان الى مكان ، أو ما يُعرف بالطى للمكان ، فيصلّى حيث شاء من الأرض بلا مشقّة ، يقول : ( ومن عباد الله من لا يصلى الصلوات الخمس إلا بمكة ، ومن لا يصليها إلا ببيت المقدس ، ومنهم من لا يصليها إلا بالمدينة المشرفة ،ومنهم من لا يصليها إلا بجبل قاف ، ومنهم من لا يصليها إلا فى قبة أرين أو فوق سد اسكندر أوعلى الجبل المقطم [7]. ).  وهكذا ، فسيطرة التصوف أتاحت للشعرانى أن يؤول (سقوط التكليف) بأنها سقوط كلفة العبادة ومشقتها حيث يتمتع الصوفى بكراماته المزعومة بسفر سعيد ومريح وبسرعة الضوء إلى أماكن خاصة يؤدى فيها الفريضة بعيدا عن الناس ، ثم يعود بسرعة الضوء أيضا ، وكأن شيئاً لم يكن وبراءة الأطفال فى عينيه .. !!



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5117
اجمالي القراءات : 56,881,848
تعليقات له : 5,451
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي