موسيقار الأجيال (2) - الحقبة الشوقية
ويعانق الحظ عبد الوهاب مبتسما له مرة أخرى فى لحظة فارقة فى تاريخه الفنى ، فبينما كان يشدو بصوته العذب الأخاذ على أحد مسارح الإسكندرية ، مسرح سان استيفانو ، كان من ضمن الجالسين أمير الشعراء أحمد شوقى. وبعد وصلة طرب داعبت آذان الحاضرين كافة ، وداعبت مسامع شوقى خاصة ، لم يتوانى شوقى فى المطالبة بمقابلة هذا الفتى ذو العشرين ربيعا. ولم يرتاح الفتى لتلك الدعوة ، اذ لم يكن لينسى بعد ما حدث من أمير الشعراء تجاهه فى اللقاء الاول الذى جمع بينهما. لكن بعد ان تم اللقاء ، انفرجت اسارير عبد الوهاب ، فقد اخبره شوقى بأنه يود لو يستضيفه عنده ويتبناه. وكانت تلك هى الخطوة الفارقة ، اذ ان شوقى آنذاك كان رجلا له نفوذه وثقله فى المجتمع ، خاصة الطبقة الراقية وايضا المتوسطة منه.
وكان من شوقى ان أفرد له المساحات بين صفوة المجتمع من المثقفين ورجال الصحافة أمثال المازنى والعقاد وطه حسين وغيرهم ، واصحاب النفوذ ، مقدم اياه لهم. وتعلم عبد الوهاب الشعر وأصوله ، وتوسعت آفاقه على عالم الفن والأدب ، وبين شعر شوقى و آخرين ، وبين الموسيقى العالمية وسيمفونيات العمالقة كبيتهوفن وموتزارت ، تغذى وجدان عبد الوهاب بذلك الثراء الفنى والأدبى ، وامتزجت داخل اوصاله هذا الخليط مما شب عليه من فن مصرى (التخت آنذاك) وما تلقاه هذا الوجدان من ثمار خمائل الفن الغربى. وتعلم أيضا الفرنسية ، والتى كانت لغة الطبقة الراقية آنذك ، وعلمه شوقى طريقة الكلام والمأكل على يد مدرسين (الاتيكيت).
وازداد تعلق عبد الوهاب بشوقى ، حتى صار شوقى له أبا روحيا ومثلا أعلى. وبدأ يبزغ نجم عبد الوهاب بين هذا الوسط الراقى.
وفى عام 1925 دعته السيدة "زكية حسن منصور" والتى كانت تكنى بـ "منيرة المهدية" ، والملقبة ايضا بسلطانة الطرب ، وكان على موعد حينئذ مع عمل قدمته اليه وهى رواية انطونيو وكليوباترا –رواية غنائية مسرحية لشوقى- ، تناولها عبد الوهاب ملحنا ومغنيا. وكان قد بدأها سيد درويش من قبل ولكن لم يمهله القدر أن يكملها ، وكانت تلك نقطة انطلاقة حقيقية له. فقد نجحت تلك الرواية نجاحا ساحقا وبدأ يتناثر اسم محمد عبد الوهاب على مسامع العامة ، وعرفت موسيقاه. ولم يكن وقع هذا مستحسنا عند نظرائه من الفنانين واصحاب الشهرة ، فبدأت ملامح الغيرة تفرج عن نفسها لما بدأ هؤلاء بالهجوم عليه ، وكان منهم منيرة المهدية نفسها ، والتى بدورها منعته من المكوث معها وعزلته من فرقتها ملحنا ومغنيا برغم نجاح تلك الرواية الغنائية انطونيو وكليوباترا.
ولم يسلم عبد الوهاب حتى من أدباء هذا العصر أمثال العقاد والمازنى ، وهوجم فى كتابهما (الديوان) ، والذى صدر اساسا هجوما على شوقى. وقالوا عنه فى هذا الكتاب انه مطرب عادى كالاخرين ، بل واقل منهم ، ولولا استضافة شوقى وتبنيه له لما وصل لهذا كله ، وان افضل منه كثيرون لو اتيح لهم بصيصا من تلك الفرصوة لتخطوه بمراحل. والحق يقال ان فضل شوقى لم ينكره عبد الوهاب ، فلطالما بات يذكر هذا ويردده كلما جلس فى مجلس او دعى الى لقاء يتحدث فيه عن نفسه.
ورغم طرده من رواية كليوباترا ، الا ان النجاح الذى حققته الرواية دفع عبد الوهاب للتفكير فى المواصلة ، وخصوصا على منوال ابيه الفنى سيد درويش ، فلم يكن ليخلع عباء درويش بعد. وبعد تردد شديد سببه اعتقاده بصغر حجمه مقارنة بهذا العملاق درويش اتخذ قراره وسار على نهجه ، خاصة بعدما عزز قراره من كل من حوله بما فيهم شوقى نفسه. وكان ذلك نابع من ثقة شوقى وقناعة كاملة بموهبة عبد الوهاب الفذة وقدرته على المضى قدما فى هذا المشروع الفنى.
وكانت قفزة عالية فى سماء مشواره الفنى ، وكانت فترة فنية درويشية جنى عبد الوهاب ثمارها ، وانتج على اثرها اعمالا رائعة وادوار مبهرة فنيا كان منها (القلب ياما انتظر ، إمتى الزمان ، أحب اشوفك كل يوم ، عشقت روحك ...وغيرها). وبدأ نجمه يصعد مرة اخرى بسرعة الصاروخ ليقطع مسافات فى العلا ، وتربع صغير السن على عرش قلوب الصفوة ، وكان من نتائج هذا ان اتفق مع نجيب الريحانى لتلحين الاوبريت الشهير "قنصل الوز" على مسرح الريحانى ، وكالعادة كان حليفه النجاح.
ولم يكن يمر الوقت حتى ظفر بما كان يحلم به ، الا وهو تلحين القصائد الشوقية وغناءها ، ولم يمانع شوقى لاسباب عدة منها مرة اخرى ثقته اللامحدودة فى قدرات عبد الوهاب التلحينية والغنائية من جهة ، وسبب اخر كان يصب مباشرة فى مصلحة شوقى الا وهو ان تلك دعاية ذات صدى واسع لدى العامة تنتشر عن طريقها قصائده بسرعة ، ولو كان صرف عشرات الجنيهات –الالاف بلغة عصرنا- والدعاوى لندوات ثقافية لما كان لقصائده ان تنتشر بتلك السرعة كما تحقق مع صوت عبد الوهاب والحانه. وتقاب الاثنان فى اجمل الالحان التى ابتدأت بـ "شبكتى القلب يا عينى" و ايضا رائعة "يا جارة الوادى".
وبحلول عام 1927 دخل عبد الوهاب عالم الاسطوانات ، وكانت اولها "فيك عشرة كوتشينة" التى اثبتت لمن حوله قدراته الدرويشية الهائلة ، والتى اثبتت لعبد الوهاب نفسه بما لا يدع مجالا للشك بأن سيد درويش له الفضل المطلق على ذاته الفنية. وبعد نجاح الاسطوانة وتداولها بكثرة انفتحت شهيته فاطلق رقما قياسيا فى الالحان آنذاك ، مطلقا من جعبته سبعة عشر لحنا باهرات. ثم ألحق ذلك بلحنا كان له صدى واسعا وهو "فى الليل لما خلى" ، والذى اعتبره المؤرخون نقلة فى عالم الطرب المصرى وشكله ، لاتسامه كغناء بالاسترسال الخال من المذاهب والكوبليهات ، بكلمات شوقية ذات صور تعبيرية رائعة بديعة المعانى والتصوير. ورغم ان درويش سبق الجميع فى انه كان اول من ادخل هذا النوع من الغناء المسترسل فى رائعته "والله تستاهل يا قلبى" ، الا ان عبد الوهاب ببراعته وقدرته العالية فى التعبير تفوق على استاذه.
وبعد تلحين بضعة أدوار درويشية الملمح جميلة الذوق تستحسنها الاذان ، لم يستطع عبد الوهاب الصمود فى هذا المنحى ، وكان السبب الرئيسى فى ذلك يعزو لوجود عملاق الادوار وسيدها على الاطلاق "الشيخ زكريا احمد" ، ففطن الى ذلك وتوقف عن هذا النوع من الغناء. وتوقف طويلا بعدها عند قصائد شوقى التى باتت تتمايل وتتراقص على الحانه وصوته الرخيم ، حتى اسر قلوب الناس وخاصة الطبقة الراقية منهم. ولم يكن هذا ليمر حتى أطلق عليه لقب "مطرب الملوك والأمراء" ، وحدث هذا بعدما غنى فى إفتتاح معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية فى عام 1932.
وبعد تسع سنوات من العيش فى كنف شوقى يعزى له فضلا عظيما لما وصل اليه عبد الوهاب ، انقطع بعدها عقد شوقى مع الحياة ، تاركا عبد الوهاب فى قمة الحزن والالم لم يشعر بمثلهما الا عندما فارقه العظيم سيد درويش من قبل. وفقد عبد الوهاب سندا ليس بالهين وموجها ، وقبل كل ذلك أبا روحيا.
وبذهاب شوقى ابتدأت مرحلة اخرى فى حياة عبد الوهاب.
يتبع
اجمالي القراءات
12977
1