وفاة الدكتور – سعد الدين إبراهيم .
وفاة الدكتور – سعد الدين إبراهيم .
هناك شخصيات ورجال بمعنى كلمة رجال ( من رجولة المواقف ) يكونون في حياتهم مؤثرين في حياة الشعوب والمُجتمعات ،ويتركون أثرا عظيما تتعلم منه أجيال واجيال بعد وفاتهم .ومن هؤلاء الناس كان الأستاذ الدكتور وعالم الاجتماع الفذ الذى لم يأت مثله من بعد (إبن خلدون) في علم الاجتماع سعد الدين إبراهيم –يرحمه الله برحمته الواسعة الذى توفى من يومين ورُبما ستُشيع جنازته اليوم بقريته (بدين – مركز المنصورة –مصر ) .
تعرفت على الدكتور سعد الدين إبراهيم من خلال حضورى لندوات رواق إبن خلدون الذى أنشأه أستاذى الدكتور – أحمد صبحى منصور معه بمقر مركز إبن خلدون سنة 1996 وهى عبارةعن ندوة إسبوعية يستضيف فيهاعالم ومُفكر مصري أو عربى ليتحدث فيها بحُرية كاملة لا سقف لها عن موضوع ما في تخصصه ليُساهم به في إصلاح مصر ووطننا العربى الكبير.فكان الدكتور– سعد من أعمدة هذا الرواق (مُحاضرا ومُعقبا )بالرغم من أنه كان صاحباومؤسسا للمركز.ومن هُنا بدأت معرفتى به.
فكما تعلمت من أستاذى الدكتور أحمد صبحى منصور ومن أعمدة وحضور ومحاضرى الرواق فقد تعلمت من الدكتورسعد أيضا الكثيروالكثير،وخاصة مما كان يمتاز به في تحليل الموضوعات والظواهرالاجتماعية والسياسية المصرية والعربية والإسلامية ،وكيف كان يضعها ببساطة على مائدة ومنضدة التشريح والتحليل للخروج منها بنتائج وحلول في كيفية التعامل معها ومواجهتها وتحييد مساوئها وسيئاتها ،ثم الإستفادة من جوانبها الإيجابية والمُضيئة ، وكان يتم هذابإسلوب بسيط وكأنه السهل المُمتنع . وتعلمت من شجاعته في الدعوة للديمقراطية وحقوق الإنسان ،ومقولته الشهيرة ( طالما لا تخرق قانونا فأفعل ما شئت ) .ففعلنا هذا عندما تحدينا كأعضاء رواق إبن خلدون في مشروعات إصلاح التعليم ،ومشروعات التوعية السياسية، وفى مؤتمرات تحدينا فيها مبارك وأمن دولته عندما عقدنا مؤتمرات في بعض قرى المنصورة ،وفى نادى ميت غمرالرياضى ،وفى الرواق للدعوة لتغييرالدستور المصرى في الوقت الذى كانت فيها الأحزاب السياسية تنتظرموافقة أمن الدولة لإقامة مؤتمراتهاالصغيرة والهزيلة . وبفضل مؤتمرات رواق ومركز إبن خلدون في 2004 (وكنت وقتها مديرا للرواق ومُتحدثا رئيسيا في تلك المؤتمرات) وفى 2005 حدث تغيير مادتين من الدستور المصرى لتُصبح انتخابات رئاسة مصر بالإنتخاب وليس بالإستفتاء .ومن بعدها تمت انتخابات 2005 التي كان فيها لأول مرة مُرشحين آخرين للرئاسة كان منهم أيمن نور وآخرين. وتوطدت علاقتى بالدكتور سعد الدين إبراهيم يرحمه الله وأصبحت أكثر من علاقة مُشاركا أو مُحاضرا أومديرا للرواق بصاحب المركز ،ولكن كانت علاقتى به والحقيقة علاقة كل أعضاء الرواق والباحثين به علاقة أقرب للعلاقة الأُسرية والأخوية .وتشعرمعه ومعهم بروح الأُسرة والعائلة. وقمت بدعوته ودعوة كوكبة من أصدقائى أعضاء رواق إبن خلدون لحضور حفل زفاف إبنتى (نورهان ) من 3 سنوات (رغم أنى كنت في كندا ) إلا أنه هو وهم مشكورين لبوا الدعوة وحضروا الحفل وشرفونا وتبادلنا التهنئة والشكر على حضورهم عبر الماسنجر . وفى تلك الفترة توطدت العلاقة بيننا أكثر وأخذت بُعدا ثقافيا أيضا حيث سمحت لى الفرصة أن أكون مُتحدثا رئيسيا في مؤتمرات الإصلاح التي عقدها مركز إبن خلدون سواء كانت في الإصلاح الدينى أو الإصلاح السياسى ،وسمحت لى الفرصة أيضا بأن أكون كاتبا له مقالا شهريا بمجلة المُجتمع المدنى التي يُصدرها المركزحتى هجرتى لكندا في يونيو 2005 ، وأتاحت لى علاقتى بالدكتور سعد الدين إبراهيم وبمشاركتى في الرواق وبإدارتى له فترة من الفترات التعرف على كبار المُفكرين والمُثقفين المصريين والعرب ،والإستماع لندواتهم الفكرية والمُشاركة فيها بردود وتعقيبات رئيسية ،وما زلت أذكرهم ويذكرونى بكل خير، وأتبادل مع بعضهم رسائل مودة وأحيانا نقاشات حول قضايا وموضوعات علمية وثقافية . وكانت آخر هذه الاتصالات إتصالا تم بينى وبين الدكتورسعدالدين إبراهيم ومعه مجموعة من الأصدقاء الأعزاء منذ أسابيع قليلة عن طريق صديقنا العزيزالأستاذ جمال صلاح الدين عبرالماسنجر إطمئن فيها عليا وسألته عن صحته وسعدت بسماع صوته والإطمئنان عليه ،وهو سألنى عن أسرتى واولادى وأحوالنا في كندا وعن إبنتى التي حضر زفافها وعن الدكتور أحمد صبحى منصور وعائلته ومحمد وشريف منصور ، وكأنها كانت رسالة وداع – يرحمه الله .
وللحقيقة والإنصاف والتاريخ نقول أن الدكتور سعد الدين إبراهيم كان شُجاعا لدرجة خلقت له ،وجعلت له أعداءا كُثر وعلى رأسهم (مبارك ونظامه وأمن دولته) لأنه هو الذى أدخل في مصر مُصطلح (المُجتمع المدنى – والعسكر يكرهون هذا المُصطلح ويكرهون المدنيين والحياة المدنية بشكل كبير ) وجعله واقعا على أرض مصر بإنشائه (المنظمة العربية لحقوق الإنسان ) ثم (المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ) ثم توجهما بإنشاء (مركز إبن خلدون للدراسات الإنمائية )كما أدخل مُصطلح (الشفافية ) في الواقع الثقافي المصرى وكان يقول دائما (ليس لدينا ما نُخفيه أو نخاف منه)، فلذلك كان عقب كُل زيارة أو رحلة له في الخارج يعود ويقص على أعضاء الرواق في ندوة أو على هامش ندوة ما حدث معه في رحلته (قابل من من الرؤساء أو الوزراء أو العلماء أو المثقفين أو الأمراء ، والموضوعات التي ناقشوها وتحدثوا فيها بكل مصداقية وشفافية) . وكان يؤمن إيمانا كاملا بأن مصر وطن يسع الجميع ،و يجب أن يكون وطنا تكفل فيه الحرية تعدد الأديان والمذاهب والملل والنحل والأعراق،وانهم جميعا يجب أن يعيشوا بسلام تحت مظلة الحرية والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان والتعددية الثقافية .فكان في هذا مُدافعاعن حقوق الأقليات الدينية (الأقباط – القرءانيين –الشيعة – البهائيين- وعقد لهم مؤتمرات وندوات للتعريف بأدبياتهم ومشاكلهم ) وعن حقوق الأقليات في الوطن العربى فكان مُدافعا عن حقوق (البدون في الخليج )و(الأكراد )في العراق وسوريا وتركيا وإيران (والدروز في لبنان والشام عموما ) وعن (الإيزيدين والمسيحيين في العراق ) وعن (الشيعة في الخليج ) . فسببت له تلك الشجاعة مشاكل مع النظام المصرى ومع بعض أورُبما كل الأنظمة العربية .
وكان رحمة الله عليه داعية سلام بمعنى الكلمة ولا يخشى في الحق لومة لائم ،فكان يدعو للسلام مع إسرائيل من أجل حقن الدماء العربية ،ومن أجل خلق مُستقبل أفضل يعيش فيه المواطن العربى بعيداعن القتال والإقتتال . وكان يدعو للسلام في داخل مصر وذلك بأن تنفتح الحكومة المصرية سياسيا وحقوقيا على كل ألوان الطيف السياسى المصرى . وأذكر أنه إقترح في مؤتمربالأردن عن إمكانية قيام (ملكية دستورية في مصر في مقابل أن ينعم الشعب المصرى بالحرية والديمقراطية والبعد عن الحكم العسكرى ) ثم عاد وكتب هذا في مقال نشره في مصر، فجُن جنون مبارك لأنه أفسد عليه فكرة توريث السلطة والإستبداد والطغيان لإبنه جمال،فإعتقله بسبب هذا المقال ،وبسبب مشروعات (إصلاح التعليم )و(التوعية السياسية ) التي قام بها المركز ،وبسبب (ندوات الرواق وما يُثار فيها من موضوعات إصلاحية) وإعتقل معه مجموعة من الباحثين،ولفق لهم قضية (تمويل ) وسجنهم ما يقرب من 3 سنوات، إلى أن برأتهم محكمة النقض المصرية في حكم تاريخى كتبت وذكرت حيثياته في 27 صفحة ، حللت فيه القضية وبرأت المُتهمين جميعا ،وأدانت الحكومة المصرية إدانة بالغة ، وأمرت بإعادة كتب ومجلات ونشرات ومقتنيات وأجهزة المركز التي إستولت عليها الدخلية المصرية( ولكن الحكومة المصرية لم تُعد شيئا منها حتى اليوم ). ثم عاد مبارك ومنعه من دخول مصر 3 سنوات من 2008 تقريبا إلى أن عاد لمصر قُبيل ثورة يناير .
كثير من تلك الأحداث وأحداث اُخرى كُنت مُشاركا فيها وشاهدا عليها. وللحقيقة أقول أن الدكتور سعد الدين إبراهيم –يرحمه الله –كان مُخلصا لمصر،ولإصلاح مصر بكل صدق ودعى لهذا ،ولم يدّخرجُهدا لتحقيقه .ولم يكن يخشى سطوة مبارك ولا جبروته ، ولا جعجعة خصومه الفكريين ،بل كان يستقبل خصومه الفكريين بكل ترحاب ومودة ويرد على أسئلتهم وإستفسارتهم بكل رحابة صدر .لأنه كان مُتسلحا بالعلم والمنطق والجُرأةوالشجاعة ونظافة اليد في قول الحق دون مواربة أو خداع.
رحم الله الدكتور –سعد الدين إبراهيم – ورزق مصر الكثير من أمثاله المُخلصين لها ولصالحها ولإصلاحها.
وأقول لكارهيه ولمن لا يعرفونه ولم يسمعوا عنه إلا من خلال ما ردده أعداءه عنه . تعلموا ألا تعيشوا على (العنعنة ) ولكن إقرأوا للرجل كتاباته ومؤلفاته ومقالاته ،وشاهدوا ما توفرمن فيديوهات للقاءاته ومناظراته التليفزيونية لتتعرفوا عليه من خلال أعماله وكتاباته هو يرحمكم الله .
أقول شهادتى المُختصرة عنه وعن علاقتى به بعدما توفى يرحمه الله ،ولا أبغى منه ولا من ورائها أي مطلب دنيوى، فقد توفى يرحمه ويرحمنا الله .ولكنها جزء من شهادة حق في حقه وفى الرد على خصومه الفكريين.
اجمالي القراءات
2455
مقالك رائع ، ينبض بالصدق ، وهو شهادة لى ولك للراحل الصديق رفيق النضال وأخى الأكبر د سعد الدين ابراهيم . د سعد صاحب أفضال علينا ، وعلى مصر وعلى العرب . آثاره الايجابية ترفعه فوق مستوى الزعماء والسياسيين والكهنة ومحترفى الثقافة البهلوانات اصحاب الأسماء الرنانة والشهرة الطنّانة . صاغ مصطلحات أصبحت علامات ثقافية ، ودخل فى قضايا شائكة بشجاعة المثقف المفكر ، ولم يأبه بالمخاطر ، ودفع الثمن تشهيرا وإفتراءات وسجنا ، هذا مع قامته العلمية والدولية.
رحم الله جل وعلا استاذنا د سعد الدين ابراهيم . وألهم قرينته د باربا وأولاده الصبر والسلوان .
وشكرا ابنى الحبيب د عثمان ، فقد أثرت فينا المواجع فى وقت مثقل بالمواجع . حفظك الله جل وعلا ابنى الحبيب د عثمان محمد على.