مصر بحاجة لنموذج تونسي عاجل
منذ سنوات وأقول بأن مصر لا يمكن معها التنوير أو التحديث والعصرنة إلا بقوانين حاسمة تفض الاشتباك بين التدين الشعبي ومصالح الناس، فالشعب هنا يظن أن تدينه مصلحة خاصة وعامة..وهذا غير صحيح، التدين الشخصي مصلحة فردية فقط وليست جماعية ، فالإنسان العابد سيفعل الخير ويحصل على الرضا الإلهي في الآخرة..أما علاقة الفرد بالمجتمع فيجري تنظيمها على أسس أخلاقية بشرية تضع مصالح الناس فوق كل اعتبار.
كان من نتيجة الخلط بين التدين والمصلحة هو تحول المجتمع المصري إلى مجتمع.."ثيوقراطي"..فالحاكم لو لم يتحدث باسم الله يسقط شعبيا، وبالقياس على كل المسئولين لو لم يتدينوا يتم اتهامهم فورا بالحرب على الإسلام، ونموذج السادات فاضح..هو قدم نفسه على أنه الرئيس المؤمن ودولته للعلم والإيمان فقط لإيجاد بديل شعبي عن الجماعات الإسلامية ، ولكي يقطع الطريق على تلك الجماعات بعدم اتهامه بالكفر، ولكي يفصل بين مشروع التكفيريين ومشروعه الشخصي، والنتيجة جاءت سريعة بحالة جنون ديني وهَوَس طغت على الشعب حتى استفحل المرض وأصبح كل من يتدين يصبح له الأولوية في الترقي الاجتماعي.
نفس الشئ فعله السيسي، تقرب للأزهر ومكّنه من مفاصل الدولة ومن الإعلام لكي يقطع الطريق على الإخوان ويثبت أنه .."رئيس مؤمن"..فهو يستمد إيمانه في الحقيقة من أحمد الطيب..وليس من أفعال وسلوكيات وقرارات تنشر العدل، فالرئيس مفترض أنه المسئول الأول عن العدالة، ولكي يصبح عادلا يجب أن يفكر من خارج الصندوق بسبب تنوع المصريين فكريا وتأثرهم بالنهضة الفلسفية أوائل القرن العشرين، والنتيجة الطبيعية لهذا التحالف السيساوي الأزهري سجن المتنورين فورا وقمع أي حركة فكرية أو فلسفية أو سياسية في مهدها تطالب بالنقد الذاتي كسبيل لإنجاز العدالة.
الأزهر لم ينجز شئ بعد إنشائه منذ ألف عام، هذه حقيقة تاريخية فلم يثبت أن تلك المؤسسة رعت وأنشأت مذهب جديد أو غيرت من منظومة الفكر للأحسن، بل قلدت القديم وسارت عليه حتى الآن، أي أن كل فقهاء الأزهر ليسوا فقهاء في الحقيقة إنما مقلدين ومبرمجين مذهبيا وسياسيا، لذلك فعندما تحالف معهم السيسي ومكّنهم من مفاصل الدولة انحطت الدولة فورا وسجنت مبدعيها بكثرة لم تحدث في التاريخ
منذ أيام أعلن الرئيس التونسي.."السبسي"..مجموعة قرارات إصلاحية تهدف إلى تحسين وضع المرأة في تونس، ومن بينها مساواة الذكر بالأنثى في الميراث وحرية زواج المسلمة من غير المسلم، إضافة لمنع تعدد الزوجات، وقد وافقت دار الإفتاء التونسية على ذلك وقالت أن تطبيق هذه القرارات هو من روح الإسلام، بينما أثارت هذه المشروعات حفيظة الأزهر والتيار الأصولي في مصر باعتبارهم مقلدين وليسوا فقهاء، فالمقلد منهم يريد العودة إلى رمزه القديم في المذهب ويرفض تماما البحث الجاد والعصرنة في كل شئ.
ولكي لا يقال القول أن هذه القرارات استبدادية أقول أن العلمانية في تونس (شعبية) وليست (نخبوية) فمبادئ التنوير هي رأي عام لديهم منذ عدة عقود وحصلت على قبول من كل مؤسسات الدولة ، فارق بسيط: وهو أن التنوير التونسي لم يهتم بنقد الموروث وتعامل مع قضايا الفكر بحقوق الإنسان وليس بالنقد والعرض والتفصيل، وهذا ما اشتبه على من يقول أن علمانية تونس هي نخبوية، بالعكس..منذ أيام بورقيبة وهناك صعود كبير لليسار التونسي وأفكاره التقدمية، في وقت كانت مصر تستقبل أفكار السلفية من الخليج على أيدي الإخوان والعمال.
تنوير تونس لو اهتم بنقد الموروث ما صعد الإخوان وما كان هناك حركة نهضة، ولتم حصار السلفية التونسية والقضاء عليها شعبيا، لكن إهمال النقد الديني والتركيز على حقوق الإنسان سمح بصعود الأصوليين شعبيا لكن تحت مظلة كل المبادئ التنويرية التي أشاعها بو رقيبة، والقارئ في تاريخ الإخوان سيجد خلاف (جذري) بين الغنوشي وسيد قطب، وغالبا إخوان تونس انفصلوا عن أشقائهم في مصر منذ صعود القطبيين مع محمد بديع، والسبب أن إخوان تونس معارضين لفكرة الغزو والتكفير التي جاء بها الوهابيون والقطبيون، لكن لديهم مشروع أصولي في النهاية يصل بالمجتمع إلى الأسلمة ، أي أن التغيير في فكر الغنوشي هو تغيير سلمي ولديه موقف جيد من العلمانية.
من يشك في هذا الكلام فليتذكر أحداث اغتيال الشهيد.."شكري بليعد"..والثورة الشعبية التي أشعلتها الجماهير، وزارة الداخلية قالت أن مليون و400 ألف تونسي كانوا في الشوارع ثائرين لبلعيد..ومبادئه اليسارية العلمانية كانت مكتحسة، كذلك أنا عضو في منتديات تونسية منذ 2007 وأحاور البعض منهم، الشعب هناك علماني للنخاع ويكره السلفية والأمراء العرب، حتى الإسلاميين هناك لديهم نسخة تدين مختلفة عن الشائعة في منطقة الخليج، صحيح عدد منتسبي داعش منهم كُثُر..لكن على الجانب الآخر توجد تركيا وبريطانيا في مقدمة دول أوروبا تصديرا للجهاديين، حتى السويد والنرويج وألمانيا وفرنسا، هناك غزو فكري وهابي حدث عن طريق الفضائيات والإنترنت صنع متعاطفين وجنود عبر الحدود.
هامش: يوجد فارق بين التدين و (الهوس الديني) الأول يحدث في كل الدول العربية والإسلامية، أما الهوس فهو حالة نفاق وتظاهر بالتدين من أجل السمعة، وهذه الحالة في تقديري لم تصل إليها تونس، هناك تدين خاص على المذهب المالكي في القيروان والزيتونة، وقصة تصعيد المتدين المهووس لم تحدث هناك، في المقابل هي حدثت في مصر، كلما كان الشخص يدعي التدين والتقوى والخشوع ويظهره بشكل مبالغ فيه كلما يترقى أعلى المناصب ويصل بسهولة إلى الإعلام، والنموذج الذي أرساه الرئيس السادات - وشرحته أعلاه - يؤكد ذلك، الخلاصة: أن التونسيين تم تخييرهم منذ عقود بين الدولة الدينية والمدنية فاختاروا الثانية، وهو اختيار أثر على مفهومهم لليبرالية فاستوعبوها بنسخة أقرب للفرنسيين وليس للعرب، والسبب أن ليبراليي العرب ما زالوا جَهَلة وعايشين في أحلام التغيير الأفلاطونية..التي لو دققت النظر فيها ستجد أنها تشبه أحلام الأصوليين بالضبط.
لكن يبقى السؤال: لماذا تطالب بنموذج تونسي في مصر؟
الجواب: مصر مجتمع ثيوقراطي..هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، وفرصة الترقي من هذه الحالة صعبة جدا إذا لم تتخذ الدولة على الأقل موقفا محايدا، لكن الثابت أن الدولة تتدخل لصالح الظلاميين والأصوليين كموقف الدولة مثلا من المادة الثانية من الدستور، فهذه المادة ما زالت عقبة أمام التنوير والاعتراف بحقوق الفكر والأقليات، إذ أنها تضع الدولة بالكامل رهنا لتفاسير المشايخ للإسلام باعتبارهم حالة ثيوقراطية منذ عدة قرون ويستحيل القضاء عليها طالما حرص الشيوخ على التودد إلى السلطة.
فنموذج الأزهر الثيوقراطي لا يمكن هزيمته شعبيا إلا بالفصل بينه وبين الحاكم، ومنع أي مصلحة بين الطرفين، إذا يظل ممثلا للدين في نظر الدولة حتى لو لم يحصل على تلك المكانة شعبيا، فحصوله عليها سلطويا كاف جدا للبقاء بل واستغلال هذه القوة في التمدد والانتشار ، أي عمليا الأزهر يقوم بنفس الدور التي قامت به مرجعية قم في إيران مع الخوميني، وهو كهنوت واضح ضد مبادئ الدولة الحديثة وقيم الديموقراطية وهادم لكل نظريات وتجارب العدالة.
كذلك فوق إن مصر مجتمع ثيوقراطي هي أيضا مجتمع.."بيروقراطي"..أي مجتمع جامد مستسلم تماما للقوانين وللسلطة دون إعمال العقل ومحاولة ترشيد أو إصلاح هذه الأشياء، فالثابت أن القانون يفقد معناه إذ فقد مسبباته، لكن 90% من قوانين مصر لم تُحدّث منذ عقود، أي أن مسببات قوانين مصر اختفت منذ زمن ومع ذلك ظلت باقية تحكم في إطار غير واقعي، حتى مواد الدستور متضاربة لا يفهم منها شئ، وبسبب هذا التخبط أصبح حق التفسير الحصري للقوانين موكل للقاضي أو للرئيس، وهذا يعني أن مصر يحكمها أشخاص منذ زمن وليست مؤسسة بمعنى الكلمة.
كذلك فالمجتمع البيروقراطي يهتم بالمصلحة العليا له، ومصلحة البيروقراطيين دائما مع السلطة، لذلك تجد معظم موظفي الدولة ضد رؤى الإصلاح أو الثورات أو المظاهرات بحجة تعطيل العمل العام، وهو في الحقيقة تعطيل لمصالحهم الشخصية وليس للدولة، لكن ولأن الدولة بيروقراطية خلطوا بين الاثنين، وإشارة لطيفة هنا أن البيروقراطيين لديهم قدرة على التكيف مع كل أشكال السلطة، قديما كانوا مع مبارك ثم المجلس العسكري ثم الإخوان والآن مع السيسي، ولو تمكن الإخوان من السلطة ستنقلب مصر إلى دولة دينية في غضون سنوات..وكل ذلك بفضل البيروقراطيين أحد أهم عناصر الفساد ، والمتسببين الأول في تعطيل أي إصلاح مفترض.
الخلاصة: مصر بحاجة لنموذج تونسي عاجل.. ولكن هذه المرة ليس ثوريا ولكن إصلاحيا يهتم بوضع المرأة والأقليات، وبسبب ضعف التنويريين في مصر أيضا، فهم برغم كثرة عددهم ونشاطهم الألكتروني ولكن ليسوا مُنظّمين أو لديهم قيادات قوية فاعلة – زعامات مثلا – وكل ما يملكونه نشاطا على الإنترنت وبعض القنوات التي لا يشاهدها مصريون، كذلك فالسلطة المصرية مستبدة ورجعية لا تؤمن بالتنوير وعملها يصب في خدمة الكهنوت الديني، ولو كانت هذه السلطة مستنيرة لقلت أنه يمكنها التحديث بتجربة ونموذج محلي على الأقل يضمن الحريات ومدافعة الأفكار.
كذلك فربما الوضع المصري يخدع البعض ويعتقد بأن الإخوان والسلفيين أصبحوا ضعفاء في مصر..هذا غير صحيح، هم مجرد (فاقدين للزعامة) الآن بأثر التجارب السيئة والفاشلة، أي فور ظهور زعماء جدد سينتفضون ويكتسحوا المجتمع مرة أخرى، وميزة فرض قوانين تنويرية الآن ستضع أي محاولاتهم في المستقبل في صدام مع ثقافة الشعب، فالقانون عمليا يحصل على ضمير الشعب بالاعتياد، من منا كان يتوقع أن يصبح ختان الإناث مرفوض جماهيريا؟..هذا حدث بفضل قانون منعه في البرلمان منذ 10 سنوات، كذلك أي قانون يتم وضعه الآن سيحصل على ضمير ورضا الشعب في المستقبل.
لكن الأهم هي طريقة تقديم تلك القوانين للناس، فالنظام المصري الحالي غير قادر على ذلك، لأنه يحبس المفكرين القادرين على تقريب وشرح هذه القوانين للجمهور وإصباغها بلون الاستنارة وإقناع الشعب أنها لا تتصادم مع الدين، تونس أصبحت مجتمع متمدن بفضل هذه القوانين، والسبب في وجودها كإطار عام يحكم علاقة الأحزاب والجماعات الوطنية، وقتها الحزب يراها شئ مفيد طالما حفظت حقوقه، والأحزاب هي المفترض أنها تقوم بحلقة الوصل بين الدولة والشعب، أي عمليا الحزب سيساهم مع المفكرين في تقريب هذه القوانين للجمهور، أما لو كان القادة الحزبيون مستنيرون فسيتم إنجاز مشروع التحديث في زمن قصير وتوفر الدولة مجهود عدة عقود أو ربما قرون تحتاجها لدخول عصر الحضارة.
اجمالي القراءات
9597
فى عصر ثورة الإتصالات وسهولة أن اصبح العالم كله عبارة عن قرية صغيرة تتبادل المعلومات والخبراتفيما بينها فى أقل من ساعة واحدة .فأنا مع إحترامى الشديد لأصحاب الإطروحات التى تقول يجب أن نأخذ تجربة دولة كذا أو كذا من العالم الثالث كتونس ، والمكسيك وماليزيا سابقا ، وإحترامى الشديد ايضا لتلك البلدان .
أقول ===
ولماذا لا نطلع على تجارب بلاد العالم الأول( السويد النرويج كندا سويسرا المانيا سنغافورا ) فى أمور المعاملات وحقوق الإنسان وكل ما لن يُكلفنا تكلفة إقتصادية عالية مثل التشريعات والقوانين والمعاملات البنكية ،والمحاسبة والقضاء وهكذا وهكذا وننقلها ونبدأ فى إختيار الأفضل فيها ونُطبقها مباشرة . أم نحن مكتوب علينا نمر بكل التجارب من الصفر ويضيع على اولادنا واحفادنا مئات السنين فى التجارب ونحن امامنا نماذج تشريعات وقوانين ومعاملات مُطبقة وناجحة تماما ؟؟؟
نريد لمصر أن تعبر إلى الشط المقابل لها من البحر المتوسط وكفاها شرقا وغربا وجنوبا .