الفصل الرابع : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية :
علاقة الصوفية بطوائف المجتمع المصرى المملوكى

آحمد صبحي منصور Ýí 2015-08-06


كتاب : أثر التصوف  الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الرابع : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية

مدخــل للفصل الرابع :ــ

الحياة الاجتماعية شديدة التأثر بالنظام السياسى والدين الأرضى إذا ساد وسيطر . وقد عرضنا فى كتاب ( أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية ) للعلاقة بين المجتمع والسلطة المملوكية ودور التصوف والصوفية فى هذه العلاقة . كما عرضنا فى الكتاب الخاص بأثر التصوف فى الانحلال الخلقى لذى ساد المجتمع المصرى المملوكى بتشريعات وعقائد الانحلال الخلقى . وهنا نتوقف مع تأثير التصوف فى المجتمع المصرى فى بقية النواحى الاجتماعية .

ونقول إن التصوف لم ينشىء تأثيرات إجتماعية كثيرة ، فأغلب تأثيراته كانت موجودة ، ولكنه أبرزها وأضفى عليها مسحة دينية صوفية . إن التصوف قائم على الهوى ، وما يهواه الفرد والناس والمجتمع يصبج دينا فى تشريع التصوف السائد والمسيطر . مثلا من يهوى الشذوذ او الحشيش أو الزنا .. يجعله عبادة دينية صوفية . الرضا بالظلم ونفاق الحاكم أصبح دينا . وبالتالى فإن القيم الاجتماعية فى المجتمع الزراعى من التواكل والخضوع والتقليد تكتسب تشريعا دينيا مع انها قيم إجتماعية مصرية . وهكذا العادات . ولا يخلو اى فرد أو شعب من عناصر إيجابية ، ويُتاح لها الظهور أيضا حتى مع غلبة الملامح السيئة . وبسيطرة التصوف وتسيده المجتمع المصرى فى أواخر العصر المملوكى أظهر تأثيرا جديدا فى التركيب الاجتماعى وقتها ، فأظهر طبقات وطوائف إجتماعية لم تكن معروفة من قبل . هذا مُجمل الفصل الرابع عن أثر التصوف فى المجتمع المصرى المملوكى . ونعطى المزيد من التفصيلات . ونبدأ بعلاقة الصوفية بطوائف المجتمع المصرى وقتها.

علاقة الصوفية بطوائف المجتمع المصرى المملوكى

بين العزلة الصوفية والاختلاط بالمجتمع

1 ـ كانت العزلة مما تتميز به المتصوفة الا انهم في العصر المملوكي لم يمارسوا العزلة الكاملة عن المجتمع بحكم احتياجهم له واحتياجه لهم . وزاد اختلاطهم بعناصر المجتمع في أواخر العصر، والشعراني خير من يعبر عن هذه الفترة ، وقد وازن بين مزايا العزلة عن الناس والاختلاط بهم )[1].وافتخر بعدم الانكباب على معاشرة الناس وعدم انقباضه عنهم بالكلية )[2] وان العهود اخذت عليهم بالاعتزال في البيوت وقلة الاسفار والتحرك أيام الفتن )[3]. أى اضافت الاضطرابات السياسية سببا أخر للعزلة والخلوة الصوفية، ولم يمنع ذلك بمقارنتها بالاختلاط .

2 ـ  والواقع أن عزلة الصوفية لم تكن مطلقة وعرف ذلك بعضهم في العصر المملوكي البحري حيث سمحت وثائق الوقف على الخوانق بدخول الآخرين على الصوفية للتشفع بهم لدى الحاكم، [4] وسبق بيان أن بعضهم مارس عمل المواعيد لغير الصوفية العاملين في الخانقاة ، فورد في وثيقة خانقاه جمال الأستادار: ( على أن الشيخ المذكور يتصدر في كل سنة لإسماع الطلبة ومن تيسر حضوره من المسلمين )[5]. وذلك الاتصال بالمجتمع عرفه أيضا من اشتهر من الصوفية بالعزلة والولاية حيث كانت له أوقات معينة للخلوة والأخرى للاجتماع بطالبي زيارتهم من العلماء والوزراء والأمراء..)[6]

3 ـ  وهـذا التوازن بين عزلة الصوفية المقيدة واختلاطهم المتحفظ بالناس ساعد على تأثيرهم في المجتمع ، فالعزلة أضفت عليهم نوعا من الغموض والقدسية زاد من الاعتقاد فيهم فكان لكلامهم قدسية ولتصرفاتهم تأثير ، كما كانت العزلة مظنة للإلهام والوحي. ومن ناحية أخرى  كان الاختلاط المتجدد فرصة للتعرف عليهم والتأثر بهم.  ثم ان العزلة تعنى خفوت التعامل المباشر بين الصوفية والشعب ، والتعامل قمين بأن يُظهر الصوفي على حقيقته بشرا ضعيفا يتعرض للمرض من زكام واسهال وإمساك شأن بقية البشر ممن يعتقد فى كراماته ويتوسل به  ،فكفتهم العزلة شر هذا الاعتقاد فيهم ، خاصة وقد عاشوا عالة على الناس من حكام ومحكومين . ولهذا إستمر الصوفية حتى اليوم على العزلة غير الدائمة .

4 ــ ونعرض لعلاقة الصوفية بطوائف المجتمع من تجار وفلاحين وحرفيين وغيرهم. والشعراني مرجعنا الأساسي نظرا لكتابته الكثيرة وعمق تعايشه مع عصره الذى شهد تسيد التصوف وتشعب  وتعمق علاقة الصوفية بالناس..

عــــــلاقة الصوفية بالتجــــــــــــار

1 ـ تمثلت في طبقة التجار القوة الاقتصادية للشعب المصري في العصر المملوكي ، حتى ان التاجر كان يمثل الفتى " الأرستقراطي"  في حكايات ألف ليلة وليلة . وثراء التجار أطمع فيهم أولياء التصوف في نهاية العصر ، فتنافسوا على تحويل التجار الميسورين الى مريدين طلبا للهدايا والعطايا والنذور والنقوط .

2 ــ الا ان حرفة التجارة وما تلتزمه من حرص على جمع المال وسعة في الأفق  لدى التاجر ومعرفة لديه بطرق الخداع ــ قد فرض بعض الصعوبات في تعامل الصوفية مع التجار ، وأحسّ الشعراني بذلك وخشى أن يتطور الأمر من إنكار بعض التجار على الصوفية الى إنكار لدين التصوف نفسه والخروج التام منه ، لذا نراه يحرص على استمالة المنكرين من التجار على بعض الصوفية ويدعوهم  إلى الاعتقاد في الصوفية )[7] كما ينصّب نفسه ناصحا للتجار فيدعوهم للفضائل ويضع لهم أداب الجلوس في السوق [8]  . ومع ذلك فإنه يتهم التجار بطاعة الزوجات وأنهماكهم في الشهوات ، ففي حديثه عن المرأة وتحكمها فى الزوج يستشهد بالتجار فيقول : ( وان كانت تحكم عليه أي الزوج فهو تحت حكمها كما هو شأن من استرقتهم شهواتهم من التجار والمباشرين وغيرهم ، فلا يقدر احدهم على مخالفة زوجته أيضا )[9]. وإنتقد الشعرانى تفاخر التجار في اللباس حين دعى للتواضع في الحج بلبس الثياب اللائقة  ، وقال ( لا كما يفعل التجار )[10] ودعا للإكثار من الصلاة في الحرم فى تأدية فريضة الحج ، والّا يفعل ( كالتجار الذين يبيعون في الموسم القماش ، ولا يستمتع أحدهم بالطواف والصلاة في جماعة ، فيصير في النهار غافلا وبالليل نائما )[11]..

3 ـ والواقع أن كثرة المتصوفة في عصر الشعراني وتكالبهم على أموال التجار وتنافسهم على تحويل التجار الى مريدين و ( مُمولين ) قد أرهق طبقة التجار، فتبرموا بكثرة مطالب شيوخ الصوفية بأخذ التبرعات من التجار بحجة عمل الموالد والولائم . وحتى لا يتطور الأمر الى الى كفر التجار بالتصوف نرى الشعراني يحاول ان يصلح الحال حماية للطريق الصوفي ، ونلمح ذلك من التمعن في قوله :  ( أُخذ علينا العهود ما دمنا فقراء من المال ان لا نعمل مولدا لطفل ولا طهورا ولا سبوعا ولا وليمة واسعة ولا عزومة كبيرة ولا غير ذلك حفظا لديننا ، ورحمة بإخواننا التجار الذين لا يهون على احدهم كسرة ليتيم ، فانهم اذا رأونا  في مُهمّ (يعني حفل) ربما تخوفوا في مساعدتنا رياء وسمعة او غصبا في عمل الطاعم أو في النقوط  للمداحين ،ونحو ذلك. ويقولون فيما بينهم :ـ" ما بقى في هذه المسألة إلا سدّها" .  وأكثر اخوان الفقير (يعنى اتباع الصوفى ) الان في هذا الزمان على علاله في صحبته ( يعنى متحرج متثاقل ومثقل بصحبته ) لأمور يطول شرحها من جانبه ومن جانبهم . وربما يقولون فيما بينهم : "بلغنا ان سيدي الشيخ ناوى يعمل مولدا أو طهورا أو عرسا لولده وما نعرف والله نساعده بايش.! وأيش قام على الفقير (يعنى الشيخ الصوفي) أن يعمل له مولدا او غيره ويكلف الناس ؟!" . فاذا قال بعضهم : "انا ناوى لا أساعده ولا احضره" يقول له بعضهم : " فضيحة من الشيخ ويبقى يعتبك وجماعته. " فيحتاج ان يحضر بغير نية صافية خوفا من العتب وإظهارا للتخوف كالمكره .!.)[12].

4 ــ وقد فهم الشعراني نفسة التجار في عصره فحاول اجتذاب بعضهم الى صفة خاصة أولئك المنكرين.  وقد روى الشعرانى أن احد التجار كان ينكر عليه، فاستماله الشعراني بأن رفض أن يشترى منه جبة بثمن قليل ، ودفع فيها الشعراى سعرا زائدا ، فاعتقد التاجر من وقتها في أن الشعراني من الأولياء وصار مريدا له [13]. وبهذه الحيلة خسر الشعراى بضع دراهم وكسب مريدا ثريا من التجار .

5 ــ والواقع ان القرن التاسع شهد دخول الكثيرين من التجار الى دائرة التصوف او الاعتقاد في الصوفية مع عدم التخلي عن التجارة،  فقال المؤرخ السخاوي عن ابن عليه التاجر أنه  رزق من التجارة لإخلاصه ومحبته للفقراء واعتقاده فيهم ، وأنه صحب الشيخ محمد الغمري وغيره من المسلكين الذين يعطون العهود لمن يسلك فى دين التصوف ويكون مريدا ، ويقول السخاوى عنه أن بيته صار بيته موردا للصالحين .... بل محلا لإقامة غيرهم بعيالهم [14]. وقال السخاوى عن تاجر آخر غيره أنه نزل صوفيا في الخانقاه الجمالية واقتصر على التكسب مع التعبد والتلاوة ... )[15].  

أصـحــــــاب الحـــــــــــرف :ــــ

1 ــ  كانوا طبقة فقيرة اقترن ذكرهم بذكر الفقر والاحتياج ، ولم يتركهم الشعرانى فى بؤسهم فتصدى لهم بالنصيحة [16]ولم يمنعه التظاهر بالإشفاق عليهم من اباحته أكل الصوفية لطعامهم بدعوى امداده بالبركة الخفية .! . وما أسهل هذا الادعاء من أولياء التصوف وبه يمتصون دماء الفقراء والأثرياء . ونلمح خُبث الشعراني واستحلاله أكل الصوفية المُتخمين لطعام اولئك الفقراء الجائعين  في قوله : ( أخذ علينا العهود ألا نمد يدنا على طعام فقير او صنايعي ،  إلا إن كنا نمده بالبركة الخفية في الرزق . فإن علمنا من انفسنا عدم القدرة على ان نمده فالأولى لنا تركه ولا نلتفت إلى جبر خاطره . فإن السلامة مقدمة على الغنيمة . والفقير لقمته تقع بكُلفة ، ولا سيما ان كان ضعيف البصر عاجزا عن الصنعة ، فسلامتنا من منة ذلك الفقير أولى لنا من جبر خاطره )[17].

ويبدو من حديث الشعراني عن (جبر الخاطر) أن أولئك الحرفيين الفقراء كانوا صادقى النية في دعوة الصوفية لأكل طعامهم ، وكان أولى بالشعراني أن يحرم ذلك على الأولياء  المتخمين بالولائم ، لا أن يبيحه لهم بحجة إدّعاء ( البركة الخفية في الرزق ) مع أن مرجع ذلك كله لله وحده . ويدل على خطئه أن أولئك الأولياء الصوفية الذين أكلوا أموال الحرفيين ( الصنايعية ) الفقراء استهانوا بهم واحتقروهم في نفس الوقت. وهذا باعتراف الشعراني نفسه في رسالته .. (ردع الفقراء) يقول عن مدح النقباء لشيخهم عند ذوى الجاه ابتغاء الرزق والاعتقاد فيه : ( وتأمل مدحهم لشيخهم انما يكون دائما عند الامراء وكبراء البلاد ونحوهم .... فما ترى منهم أحدا يمدح شيخه عند صنايعي فقير أبدا، ولا عند فقير صعلوك لعلهم ان هؤلاء ليس عندهم شيء يأخذه لهم ولا لشيخهم )[18]...

علاقتهم بالفلاحين :ــ

 1ــ كانوا اغلبية السكان وأقلهم شانا وأكثرهم حرمانا إلى درجة صورها ابن الحاج الفقيه المغربي الأصل بأن الفلاح المصرى عند المماليك ( صار كالأسير الذليل الحقير وكأنه لا بال له عندهم ولا روح) )[19] . واتفق هذا مع نظرة بعض المؤرخين  مثل عبد الباسط بن خليل الذي اعتبر مشافهة السلطان قايتباي لأحد الفلاحين أمرا حقيرا وضربا من النوادر )[20] وقد سبق التعرض للظلم الذي حاق بالفلاحين في بلادهم من التزامات عليه ان يدفعها للسلطة ، والجديد هنا هو تلك الزيارات التي كان يقوم بها السلاطين ونوابهم إلى القرى المصرية ينهبونها ويصادرون رزق الفلاحين )[21]. وقد استولى المماليك على غالبية الأراضي المصرية وفق نظام الاقطاع العسكري وأصبح الفلاح أداة زراعية عليه مسخرة ،وعليه أن يدفع من قوته الضئيل الضرائب والمغارم والمصادرات ،ومُنع بعد ذلك من الفرار من قريته ،وأعيد كثير من الفارين للأرض بعد توقيع العقوبات الصارمة عليهم . بالاضافة الى هذا ، قاسى الفلاح من تسلط العُربان عليه يسلبون وينهبون ويقتلون ، فأصبحت القرى المصرية ميدانا للقتال بين قوات المماليك والعربان .  وفي مصائب المجاعات وانخفاض النيل تدخلت السلطات لنجدة القاهريين وأرباب الخوانق والزوايا بينما ترك الفلاح في قريته بعيدا مع المجاعات فهلك معظم الفلاحين !!..[22]

2 ـــ وبعد هذا العرض السريع للفلاح المصري في العصر نحاول أن نكشف علاقته بالصوفية من خلال كتابات الشعراني. ويؤسفنا هنا أنه مع اعترافه بسوء حال الفلاحين في عصره فإنه لم يتخذ موقفا حاسما كعادته بالنسبة لأكل الصوفية في عصره لأموالهم يقول مثلا:ــ (ولا ينبغي للشيخ ان يأكل من ضيافة فلاحي الوقف لضيق حالهم وماهم فيه من المغارم ، وليس على الشيخ لوم في ردها ، إذا جاءت فإنها خاصة به في العادة )[23]. والحقيقة أن الصوفية خصوصا في أواخر العصر تطفلوا على الفلاحين فى الارياف ، وأرهقوهم بزيارات للقرى على منوال زيارات المماليك ، وإن كانت زيارات المماليك بسيف القوة فإن زيارات الصوفية كانت تتم (بسيف الحياء ) كما يقولون . وقد ذكر الشعراني أن أصحاب الطرق البرهامية كانت تنزل الريف [24] ، وان أبا العباس الحريثي سار إلى الغربية فسار معه مائة من أتباعه بسبب كرم الفلاحين هناك وكانوا  يقدمونه له ولهم من الدجاج والغنم . وحدث أن سافر مره الى البلاد الشرقية بأصحابه فأطعموه الشعير والفول الأخضر والدبس فتفرق عنه اتباعه [25].

3 ــ وكانت للصوفية حيلهم في أكل مال الفلاحين . فكان لكل شيخ صوفى أتباع في القرى ( يدعون ان أهل قريتهم في انتظاره ويصحبونه في الولائم ويهونون الأمر على الفلاح) صاحب الضيافة بقولهم (حصلت لك البركة بأكل سيدي الشيخ عندك )[26]. وكان من طقوسهم عند دخول الصوفية بلدا أنهم ينخرطون في الذكر بصوت مرتفع ليتلقاهم الفلاحون ويتعاونوا  في ضيافتهم وفي إعطائهم الفتوح ( أي الهدايا) للشيخ وأصحابه وخدمه ، وعلف دوابه) . هذا ما يذكره الفقيه ابن الحاج ، الذى يسجل أيضا أن بعض الفلاحين كان يهرب من قريته عند قدوم ( الغزو الصوفى ) لعجزه عن القيام بالضيافة فلا يرحمه الصوفية بل يدخلون بيته في غيبته وينهبون ما به [27].

4 ــ واعتقد الفلاحون في بعض الصوفية فكانوا يقومون بزيارتهم في القاهرة حاملين معهم للشيخ ما لذ وطاب . وربما يرد الشيخ هدية الفلاح اذا استقلها [28]. ومع ان الشعراني اعتبر الأكل عند الفلاحين حراما  [29] إلا انه افتخر بكثرة الفلاحين المعتقدين فيه [30]وقد أباح للمتصوفة ان يستضيفهم القادرون اذا سافروا إلى بلاد الريف [31]..

5 ــ ولكن : هـــل رد المتصوفة إحسان الفلاحين لهم ...؟؟ان الاحتقار هو أنسب ما يعبر عنه شعور المتصوفة تجاه الفلاحين ..فالشعراني عدّ من منن الله عليه ان هاجر من بلاد الريف الى القاهرة ، ونقله من أرض الجفاء والجهل والفقر إلى اللطف والعلم )[32] وقال ان العهود اخذت عليه ( الا ننكر انسابنا إلى أبينا أو أهلنا إذا رفع الله قدرنا ولو كان من أراذل الناس، كفلاح وحجام وكنّاس) ، فجعل الفلاح من أراذل الناس . ولا شك أنه يعبر عن عصره ونظرته للفلاح المصرى . وكان خليقا به أن يرتفع عن هذا لأنه أصلا من الريف المصرى وأعرف بمعاناة أهله ، ولكنه  لم يفعل ، بل ان لهجته في نصح الفلاحين يبدو فيها الاستعلاء بالمقارنة بالتجار ، فيجعل ــ مثلا من العهود عليه أن (يرغّب الفلاحين وأهل الغيط في الزرع وغرس الأشجار ، وأن يبين لتارك الصلاة من الفلاحين والعوام وسائر الجهال ما جاء فى فضل الصلاة )[33]وحين هاجم خصومه  المنافسين له من الشيوخ الصوفية وصفهم بأن (الفلاحين احسن حالا منهم )[34]. وهكذا لم يجد في الفلاح إلا ممثلا لأراذل الناس واجهلهم وأسوئهم . وقد شاركه في ذلك الشيخ يوسف العجمي الصوفي الذي كان يتفنن في إذلال مريده ، الأمير شيخون المشهور فكان (يأمره بأن يلبس لبس فلاح ويدخل الزاوية فيفعل )[35]..

علاقتهم بقطاع الطرق :ـــ

   1ــ تفنن الحكم المملوكي العسكري في تعذيب قطاع الطرق قبل قتلهم ، وتشدد في إرهابهم وتتعبهم ومطاردتهم . ومع ازدهار التصوف ودخول الناس فيه أفواجا ــ  كان من المنطقي ان يلجأ الكثيرون من قطاع الطرق للدخول ضمن الصوفية بحجة التوبة ، حيث يجدون الأمن والرزق الوفير مع الراحة والمكانة ، هذا بالإضافة إلى ما أوجده التصوف في نهاية العصر من طوائف الزوالق ــ والتي سيرد الحديث عنها بعد ـــ وهم أصلا قطاع طرق سابقين استخدمهم بعض الشيوخ للحماية ولفرض الهيبة أمام المنافسين والمنكرين .

2 ــ ولقد حرصت الروايات الصوفية على تغليف توبة أولئك اللصوص بالهاتف او الكرامات المسندة للأشياخ الذين قطعوا الطريق عليهم. اما المراجع التاريخية المحايدة فقد ذكرت الأمور على حقيقتها ، كما فعل الصفدى في تأريخه ( أعيان العصر ) الذى يؤرخ فيه لعصره ، وقد ذكر ( نجم الدين  الحطينى ) أحد المجرمين المشهورين في عصر الصفدي وقد كان : ( يفتك نهارا وملأ الدنيا فجورا .. وكان شيطانا من الشياطين وإبليسا من الأباليس. وقد اتصل بخدمة الشيخ شمس الدين بن ابى طالب ، فقتل ضيفا في الخانقاه وسلبه ماله  وهرب بعد ذلك إلى الصعيد . وجرت له جرائم أخرى من هذا النمط )[36]. أى إن هذا المجرم أعلن توبته وتصوف ولحق بالشيخ شمس الدين بن أبى طالب فى خانقاته ، ولكنه لم يستطع كبت نوازع الاجرام فى نفسه ، فما لبث أن قتل ضيفا فى الخانقاة وسلب ماله وهرب .

3 ــ وقد كان الآخرون أكثر دهاءا ومكرا منه ، فتظاهروا بالتوبة وأخذوا بالتصوف طواعية ما كانوا يحصلون عليه بالنهب قسرا ، وكوفئوا على هذا بأن رويت أعمالهم في المناقب ، بعد أن إعتبرهم الناس أولياء ، ومنهم حسن الحماقى (الذي كان يقطع الطريق ، فتاب على يد النبي ) بزعمه ، وتصوف. وكانت الكرامات المنسوبة له كلها قتل وسلخ ، ووصفها المناوى فى مناقبه فى ( الطبقات الكبرى ) بأنها (تقشعر منها الجلود )[37] . ومنهم أبوبكر البطائحي الذي كان في ابتداء امره قاطع طريق فتصوف حين ناداه الهاتف )[38] بزعمه . ومنهم عثمان الحطاب ، يقول عنه المناوى إنه كان (على زي اهل الشطارة ) أى اللصوص (  ثم أدركته العناية الإلهية فأقلع عن ذلك وسلك  طريق التصوف )[39]. ويذكر المقريزى فى تاريخه ( السلوك ) أن الشيخ المعتقد مسلم المسلمي شيخ الطائفة المسلمية كان في ابتداء امره قاطع طريق )[40]. ثم أصبح شيخا لطائفة تحمل إسمه . وكان بعض اتباع الطريقة الوفائية  الشاذلية من قطاع الطرق،واستعرض معهم ( على وفا )  كراماته فتابوا وتصوفوا واشتغلوا بالطريق ففتح عليهم وظهرت على أيديهم الخوارق )[41]ــ على حد زعمهم .!

4 ـ  وقد كانت السياحة الصوفية من عوامل التلاقي بين الصوفية وقطاع الطرق ، فترددت فى الكرامات الصوفية عقوبات لمن يتعرض لهم فى سياحتهم مثل التسمير ( أى شل الحركة للجسد كله ) او تيبيس اليد بمعنى شل حركتها جزئيا ، وعندها يتوب قاطع الطريق ( الضحية ) ويصبح مريدا للشيخ الذى سمّره أو شلّ يده . وبهذه الوسيلة برّر الصوفية وجود الكثير من قطاع الطرق ضمن اتباعهم . وقيل عن الشيخ الصوفى المشهور محمد الشناوي أنه (كان ينظر على قاطع الطريق وهو مارُّ عليه،  فيتبعه في الحال، فلا يستطيع رد نفسه عن الشيخ ) ورأي الشعراني  جماعة منهم صاروا من اعيان جماعته [42].

وحيكت روايات أخرى عن لصوص آخرين خرجوا يقطعون الطريق على أشياخ وتنتهى الرواية بتوبتهم واتباعهم للشيخ )[43]. وفي الكرامات التي أضيفت للشاذلي بعد موته ان اللصوص كانوا يتوبون على يديه في طريقه للحج ويتبعونه )[44]، وأن زروق الفاسي في طريقه من فاس إلى مصر أظهر كرامات مع قطاع الطريق فاتبعوه (وصاروا معه لم يتخلف منهم احد ، وصاروا خدام الزاوية الزروقية ، بل ظل نسلهم يخدمون الزاوية )[45]..وترسب هذا في الأمثال الشعبية فتقول ( الطريقة تجيب العاصي )[46]..

عــلاقــــة الصــــوفــيــة بمشايخ العـــــرب

  1ــ ثاروا على الحكم العسكرى المملوكى بزعامة حصن الدين ثعلب فى بداية الدولة المملوكية ، وتتابعث ثوراتهم بعدها يغيرون على أطراف العمران المصرى ، ومن حواف الصحراء التى تحيط بالوادى ، فى الدلتا والصعيد. وتعاظمت ثوراتهم فى أواخر العصر اللملوكى ( الدولة المملوكية البرجية ) ،وكانت تصل هجماتهم الى اسوار القاهرة نفسها . وهم المسئولون عن خراب العمران المصرى الذى كان يمتد من الاسكندرية الى طبرق . واضطرت الدولة المملوكية أخيرا بعدما ضعفت ــ إلى الاعتراف بهم كمراكز قوى داخل البلاد تجنبا لشرهم ، فأصبحوا قطاع طرق رسميين ينافسون أسيادهم المماليك فى سلب الفلاحين وظلمهم ، وبالتالى حلوا محل قطاع الطرق السابقين فيما يخص علاقة الصوفية بهم . وأكثر الشعراني من ذكرهم حيث قرنهم بالحكام واستعمل معهم أسلوب التهديد بالكرامات ، فادعى مثلا أن المتبولي دعى على بنى حرام فأضعف شانهم واذلهم بعد عزّ. )[47].

2 ــ وتنافس الصوفية فيما بينهم على مصاحبة مشايخ العرب مع علم أولئك الصوفية بإجرام ومظالم مشايخ العرب ومالهم السُّحت . وكان بعض الصوفية يسافر لأولئك الأعراب يتسول منهم ، مما أثار ضيق مشايخ العرب فقال بعضهم : (قد عجزنا في رضا هؤلاء المشايخ من كثرة ما يشحذون منا .! وكيف تطيب نفوسهم ان يأكلوا من طعامان ويقبلوا صدقاتنا  مع علمهم بأن اموالنا لا تسلم من الحرام )[48].!! .. وقد بلغ تنافس  الصوفية حول مشايخ العرب الى درجة الصراع فيما بينهم ، فيذهب أتباع شيخ صوفى إلى بعض مشايخ العرب ( يرغّبونه في الاجتماع بالقطب الغوث الفرد الجامع صاحب التصريف ، ولا يزالون به حتى يأخذ عليه العهد) ثم يحذرونه من الاجتماع بشيخ أخر ينقصون من قدره . ويقول الشعرانى أن بعض مشايخ العرب ثار على ذلك وقال :  ( أنا لا أقدر على التحجير ( اى التحكم ) ولا اطلب أن أكون شيخا ، وان كان  لهم عندي رزق فهو يصل  اليهم بلا هذا التحجير )[49]



[1]
ــ الجوهر والدرر 267: 268

[2]ــ لطائف المنن 344

[3]ــ البحر المورود 187

[4]ــ وثيقة بيبرس الجاشتكير ..

[5]ــ وثيقة جمال الاستادار

[6]ــ تراجم مختلفة ترجمة القبارى في زبدة الفكر مخطوط 9 / 89 ، ترجمة نصر المنبجى في تاريخ ابن الوردى 2 / 368 ، ترجمة ابن سلطان في النجوم الزاهرة 15 / 542 ..

[7]ــ لطائف المنن 172

[8]ــ لطائف المنن 353 : 354  لواقح الأنوار 25 : 26 ، 133 ، 134 ، البحر المورود 130 ، 134 ، 72 ، 2731 ، 320

[9]ــ لواقح الأنوار : 288

[10]ــلواقح الأنوار 105 ، 94 ، 106

[11]ــ لواقح الأنوار 106

[12]ــ البحر المورود 304

[13]ــ لطائف المنن 172

[14]ــ الضوء اللامع 1 / 41 : 42

[15]ــ الضوع اللامع 1 / 13 ..

[16]ــ البحر المورود 233 ، 237

[17]ــ البحر المورود 116 : 117

[18]ــ ردع الفقراء 15

[19]ــ المدخل 4 / 8

[20]ــ عبد الباسط بن خليل الروض الباسم .. مخطوط 3 / 171 حوادث 872

[21]ــ الروض الباسم .. نفس المرجع 4 / 98 : 100 حوادث 873 حوادث الدهور 710 : 712

[22]ــ  المقريزى : إغاثة الأمة بكشف الغمة : 74 : 75

[23]ــ البحر المورود 333

[24]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 99 : 100

[25]ــ لطائف المنن 511 : 512

[26]ــ ردع الفقراء للشعرانى صــ11  

[27]ــ المدخل 2 / 204

[28]ــ لطائف المنن 176 ، المنن الصغرى مخطوط 50

[29]ــ لطائف المنن 249

[30]ــ لواقح الأنوار 193

[31]ــ البحر المورود 53

[32]ــ لطائف المنن 6 ، 43

[33]ــ لواقح الأنوار 28 ، 194

[34]ــ رسالة في مدعى الولاية 3 ، 6

[35]ــ لطائف المنن 391

[36]ــ الصفدى أعيان العصر 7 / 2 / 222 : 223

[37]ــ الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط 385

[38]ــ الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط 264 ب

[39]ــ الطبقات الكبرى للمناوى 355

[40]ــ السلوك للمقريزي 1 / 2 / 572

[41]ــ الطبقات الكبرى للمناوى 352

[42]ــ الطبقات الكبرى للشوافى 2 / 116

[43]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى  2 / 86 ، والكواكب السيارة لابن الزيات 140 ، 229

[44]ــ النويري الإلمام مخطوط 2ر 78 : 79 ، تعطير الأنفاس 50 : 51

[45]ــ طبقات الشاذلية 125

[46]ــ الأمثال الشعبية لتيمور 180 ، شعلان الشعب المصري 324

[47]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 75

[48]ــ لطائف المنن للشعرانى 233 ، 236

[49]ــ لطائف المنن 277 : 278

اجمالي القراءات 8630

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5118
اجمالي القراءات : 56,905,043
تعليقات له : 5,451
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي