آحمد صبحي منصور Ýí 2015-04-25
أولا : الميزان والتوازن بين شرع الله جل وعلا وخلق الكون والانسان
1 ــ إن الميزان هو أساس الخلق وأساس التشريع، وينبغي أن يكون أساس السلوك البشري، فإذا انحرف ذلك السلوك البشري عن الميزان والقسطاس المستقيم حدثت الكوارث .
2 ــ تفاعل المادة بحساب دقيق أو بتقدير إلاهى مُحكم : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) الفرقان ) إن المخلوقات الحية والمادة وعناصرها والأجرام السماوية مخلوقة بتقدير الاهى غاية فى الدقة والحساب:( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) )الأنعام ) ، يسرى هذا على حركة الذرات والكواكب والنجوم والمجرات ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)) يس) . إنه الميزان أو ما نسميه بالتوازن في حركة الأفلاك "( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5))( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)( الرحمن ). كل ذلك بحساب دقيق أو الميزان هو الذي يحفظ كل شيء في مداره وحركته وبدايته ونهايته ، يسري ذلك على الكون المادى فى ذراته وعلى الانسان فى خلاياه الحية ، وهو الذي جعله الله جل وعلا خليفة في الأرض مطالبا بالحفاظ على هذا التوازن في الكون: ( أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) الرحمن )، وفى التعاملات البشرية : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) الرحمن ) .
3 ــ إذن هناك ميزان ـ أو توازن إلهي ـ في الكون المخلوق أو الطبيعة ، وهناك ميزان إلاهى آخر نزلت به شرائع الرحمن ، يقوم على أساس العدل والقسط.. يقول تعالى في ذلك الميزان التشريعي: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد ) ، فالكتاب السماوي هو الميزان الذي ينبغي أن يقوم عليه القسط في حياة الانسان. ويقول تعالى عن القرآن الكريم آخر كتاب سماوي : ( اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) (17) الشورى).
4 ـ وعندما يختل الميزان يكون الفساد وتقع الكوارث
يقع المرض في جسد الانسان حين لايراعي الميزان أو التوازن في طعامه وشرابه واستمتاعه وحركته، وحين يتدخل عامل خارحى فى جسده يؤثر فى هذا التوازن . ويقع الوهن في مجتمعه حين ينحرف عن الحق والعدل وحين تنتشر المظالم والفساد وما يتبعها من النفعية والسلبية والتواكلية . موظف صغير يسرق المخزن الذى يحرسه ثم يشعل فيه النار ليُخفى سرقته، فتمتد النار لتحرق وتفسد فى الأرض. المترفون الظالمون يحتكرون الثروة والسلطة فيلجأ الفقراء الى السكن فى أحياء عشوائية تنشر المرض والتلوث، وتصبح كوارث مستقرة ومستمرة . يؤجج المترفون الحروب التى تُهلك الزرع والضرع وتدمر البنية الأساسية ، وتنشر الخراب وتلوث البيئة . ويصل التدمير الى درجته القصوى باستعمال أسلحة الدمار الشامل ؛ الذرية والكيماوية و الجرثومية . هذه كلها مظالم مُحرمة شرعيا لأنها تتناقض مع الشرع الالهى القائم على ميزان القسط والعدل ، ويترتب عليها تلوث البيئة وتدميرها .
5 ـ هذا الابتلاء بالكوارث سببه تدخل الانسان بالظلم لأخيه الانسان . ولكن قد يصل ظلم الانسان للبيئة مباشرة فيفسد التوازن الذى أوجده الخالق جل وعلا فيها . الأمثلة كثيرة ، ليس أولها النفايات المُشعّة وليس آخرها ثقب الأوزون. وهناك تجارب علمية مٌهلكة يتعدى فسادها الى البيئة . وفطنت البشرية مؤخرا لما يُحدثه التطور التكنولوجى من كوارث طبيعية ، فتنادت الى عقد مؤتمرات لرعاية ( الأرض ) . ولكن ستظل كوارث الأرض مستمرة ما بقى ظلم الانسان لنفسه ولبيئته .
ثانيا : ظهر الفساد
فى جريدة الاحرار بتاريخ 12ــ 10ــ 1992، ظهر لى هذا المقال بعنوان : ( ظهر الفساد فى البر والبحر !!) قلت فيه :
1 ـ فى طريقى إلى قريتى ( أبوحريز ) بمحافظة الشرقية قال أحدهم أنه يعيش فى قرية يسكنها أكثر من خمسين الفا، وبيوتهم عامرة ، وكل المسئولين فى القرية من أبناء القرية ، وجميعهم يصرفون مياه المجارى فى (البحر) الذى يشربون منه ، لا فارق فى ذلك بين مندوب الصحة أو مسئول الوحدة المحلية أو حتى العمدة وشيخ الخفر ، ويطل على البحر مصنع للطوب ، وقداعتاد صاحب ذلك (التنور) أن يصرف مخلفات المصنع من السولار والقطران فى مياه النهر، وقال ان أهالى القرية المجاورة لهم اعتادوا غسل براميل المبيدات فى نفس النهر، وعندها كان يحدث تسمم عام للاسماك فى النهر فتطفو على السطح ويصطادها الاهالى ويأكلونها ويصاب بعضهم باغماء أو قىء ، ولكن لم تحدث وفيات ..وعندها لم أستطع الصمت فقلت له : " إن الوفيات ربما لم تحدث حتى الآن ، ولكن انتظر بضع سنوات وسنرى نتيجة ذلك الاهمال والتراخى، سنرى كيف سيصاب الجميع بأمراض لا نهاية لها إلا بالموت ، بدءا من الفشل الكلوى إلى السرطان." . وقلت له : " ان ذلك التلوث الذى نصنعه بأيدينا هو المسئول عن انتشار ظاهرة الفشل الكلوى والسرطان فى شرق الدلتا على وجه الخصوص، واذا ذهبت الى معهد السرطان فى القاهرة وجد ت معظم المرضى من الارياف ، وقد استدعت هذه الظاهرة المؤلمة إلى انشاء معهد للسرطان فى محافظة الشرقية لكى يخفف العبء عن معهد الاورام فى القاهرة ، كما أن ذلك المرض اللعين قد بدأ فى الظهور على أجساد الاطفال الابرياء . ومعظم المرضى يزدحمون على المعهد فى القاهرة ، ومن يتمكن من الحصول على سرير فيه سرعان ما يتركه ليكمل العلاج فى بيته ليتيح الفرصة لمريض آخر ينتظر دوره على الرصيف المجاور للمعهد .
كما أن أقسام الكلى فى المستشفيات لم تعد تكفى المترددين عليها فأنشأ أحد أبناء المنصورة العظماء وهو الدكتور غنيم مركزا لعلاج الفشل الكلوى. ومهما بذل فاعلوا الخير فى تدعيم تلك المعاهد والمراكز فإن جهدهم سيضيع هباء طالما ظل المصرى يعيش هذا التبلد والانانية، بصرف مخلفاته فى النيل، وتحملها مياه النيل الى الآخرين ليشربوها، فيتحول الماء الذى هو سبب الحياة الى سبب للموت، لأننا لانجد فارقا بين الكوب الذى نشرب منه والمرحاض الذى نتبول فيه .!!"
2 ـ ماالذى حدث لنا ؟ أهى الرغبة المصرية الدفينة فى مقاومة السلطة الحاكمة ! فاذا كانت السلطة تعاقب من يلوث النهر فإننا بدافع المقاومة والانتقام نعصى الأوامر، وليس مهما أن كنا نحن الضحايا؟ . ولكن القرية التى تصرف مخلفاتها فى النيل ليس لديهم ذلك الخوف من المسئولين لأن المسئولين أنفسهم يفعلون ذلك .أهى الرغبة فى الانتحار البطىء لدى الفقراء بعد أن يئسوا من العلاج؟ ربما قالوا لأنفسهم إن الحيتان الكبيرة ترتع فى الفساد فى البر فلماذا لا نفسد نحن البحر؟ واذا كنا قد عجزنا عن مقاومة أولئك المفسدين المترفين فلنلوث لهم النهر الذى يشربون منه ليذوقوا بعض مانعانيه! ربما يفكرون بهذه الطريقة المضحكة، وإن كانوا لايعلمون أن المترفين لايشربون من النيل بعد أن اتضح لدى المترفين فى الداخل والخارج أن معدل التلوث فى النيل يفوق المسموح به، فأصبحوا يشربون المياه المعدنية، وتركوا النيل للفقراء يشربون منه ويقذفون بفضلاتهم فيه ..!! أهى العادة السيئة المصرية التى تقول " وانا مالى" ؟ هل هى الانانية والاهتمام بالفردية دون النظر للآخرين ؟ ربما.. ففى عصور القهر والاستبداد واتساع الفجوة بين الاثرياء والفقراء ينكب كل انسان على نفسه ولا يعبأ بالآخرين، واذا كان ذلك واضحا بين الصفوة والنخبة فهو أكثر وضوحا بين جموع الشعب ، ونرى ذلك فى حادث فتاة العتبة وفى طريقة الحياة فى اللحظة الحاضرة ، أو المهم أن نعيش اليوم ولاداعى لأن نفكر فى الغد أو أن نفكر فى الغير.
3 ــ ومهما كان السبب فى ذلك التطور السلبى الذى طرأ على الشخصية المصرية فهو أخطر من تلوث ماء النيل ، إن تلوث النفس يظل أفظع من تلوث النهر . ومن السذاجة أن نطالب فقط بتطهير ماء النيل من التلوث ونترك أنفس المصريين مستنقعا لملوثات فكرية ومشاعر سلبية . صحيح أنه يمكن بالدعاية المكثفة فى التليفزيون وأجهزة الاعلام أن ننبه الغافلين الى خطورة التلوث وفظاعة أن نسمم مياه النيل بأيدينا ،لابد أن تتكاتف أجهزة الدولة لحماية النيل وحماية من يعيشون عليه من أنفسهم ، هذا ممكن ومطلوب بشدة وعلى وجه السرعة .. ولكن الاقتصارعلى ذلك سيجعل المشكلة أكثر حدة وأكثر تفجرا ،لأن الذى سيحدث أن تثور ضجة اعلامية وتحدث مواكب وتنطلق الزفة وتصدر الشعارات والتصريحات ثم ينفض المولد الى أن تظهر بدعة جديدة ينشغل بها الناس ، ويعود النيل أكثر تلوثا ، ويزداد الفقراء سلبية ويأسا ومرضا وقرفا .
4 ــ ان الحل الحقيقى هو علاج النفس المصرية من التلوث الذى يهدد حاضرنا ومستقبلنا ، ان المصرى ليس فاسدا بطبعه ، ولكن حين تنهمك أقلية من المصريين فى النهب والفساد فليس من حقك أن تلوم الأكثرية الضائعة الجائعة إذا سارت فى طريق الانتحار البطىء ..
5 ــ فى مصر بالذا ت يبدأ العلاج من فوق . من النخبة والصفوة والقدوة ، إن الله تعالى حين أرسل موسى لم يبعثه الى المصريين وإنما أرسله الى فرعون فقط ، بينما كان كل نبى مبعوثا
الى القوم أجمعين .. ولأن فرعون وآله كانوا من المفسدين فقد دفع المصريون جميعا الثمن .. وذلك مانتعلمه من القرآن والتاريخ .
5 ـ ان الله تعالى يقول : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) الروم ) ، أى أن الفساد نتيجة لما يرتكبه الناس بأيديهم ، وهو أيضا عقوبة لهم.. وبالتالى فانه يمكن أن نحارب الفساد ونمنع أسبابه وظهوره فى البر والبحر ، ذلك اذا صدقت النوايا وآمنا بأننا جميعا فى مركب واحد يسبح فوق مياه النيل ، وأنه اذا غرق المركب غرقنا جميعا.. لافارق بين غنى وفقير أ و حاكم ومحكوم ..
6 ـ إن فساد الأقلية المترفة هو سبب شقاء الأكثرية .. وسبب تلوث النيل ..
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5123 |
اجمالي القراءات | : | 57,058,908 |
تعليقات له | : | 5,452 |
تعليقات عليه | : | 14,828 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
الغزالى حُجّة الشيطان : ف 2 : الغزالى فى الإحياء يرفع التصوف فوق الاسلام ( 1 )
الغزالى حُجّة الشيطان ( 9) الغزالى والاسرائيليات ( جزء 2 )
دعوة للتبرع
الله هو المستعان: دكتور أحمد لاحظت عند قراءة مقالا تك ...
أبو حنيفة: إستم عت للمنا ظرة بين طارق حجي و يوسف...
سؤالان: السؤا ل الأول : هل لا يقبل الله الحج منى إذا...
أذكار الطواف : ماهي الأذك ار التي تختار ها أثناء الطوا ف ؟...
الطلاق بعد اللعان: هل لا بد من التفر يق بين الزوج ين بعد اللعا ن ...
more