ج2 / ف 3 : من مظاهر إنعدام التقوى فى شهر رمضان ( المملوكى )

آحمد صبحي منصور Ýí 2015-02-27


كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف 

الفصل الثالث: أثر التصوف في الزكاة و والصيام                                          

  رابعاً : الصيام والتصوف فى مصر المملوكية:

المبحث الثانى : من مظاهر إنعدام التقوى فى شهر رمضان ( المملوكى )

بمراجعة الحوليات التاريخية التى تسجل أحداث العصر المملوكى سنويا وبترتيب الأشهر، لا نجد فارقا يُميّز شهر رمضان عن غيره من الأشهر . فى العصر المملوكى كان الظلم هو البطل بينما غابت التقوى ، حيث يحكم العسكر المماليك يحتكرون السلطة والثروة ، يعاونهم شيوخ فى الوظائف الدينية والديوانية ، وبالتالى فإن شهر رمضان لم يكن بدعا بين الأشهر ، إستمر الظلم والسلب والنهب بوجود الصيام وبغيابه أيضا. ونعطى لمحات سريعة :

الملمح الأول : صوم حواء فى العصر المملوكي

1 ــ قبل أن نتعرض لصيام حواء فى العصر المملوكي نتوقف قليلا مع قوام حواء المملوكية . هل ينتمي إلى فصيلة غصن البان ، أم فصيلة الجميز ؟. إن الصور المرسومة للعصر المملوكي على قلتها ـ تظهر فيها بعض الفتيات النحيفات ، ولكن ذلك ليس مقياسا ، المقياس فى نوعية الأكل ، ونتعرف عليه مما أورده الفقيه ابن الحاج فى كتابه " المدخل " الذي ينتقد فيه مظاهر الحياة الاجتماعية فى العصر المملوكي من وجهة نظره كفقيه ناقم . ونأخذ من كتابه إشارة هامة ، إنه ينتقد الجزارين ويقول إن ( بعضهم كان يغش اللحم ، فإذا كانت الذبيحة قليلة الشحم فإنه يجعل معها شحم غيرها لكي يرغب الناس فى شراء اللحم لكثرة الدهن فيه ) ، أى أن المفهوم عند الناس فى العصر المملوكي كان رفض اللحم الأحمر  ( البروتين ) ويفضل عليه اللحم الأبيض السمين .وكان ذلك عاما فى الرجال والنساء. وقد شهدت هذا فى طفولتى ، كانوا يرفضون اللحم الأحمر وحده ، ويقول المشترى للجزار : إنت فاكرنى عيّان ؟!. تفضيل اللحم السمين كان عاما ، وبالتالي فإن القوام الأنثوي كان يميل للسمنة.. وذلك مجرد استنتاج .أما الدليل الحاسم فهو ما أورده ابن الحاج من معلومات غريبة عن حواء المملوكية تحت عنوان عجيب يقول " فصل فيما يتعاطاه بعض النسوة من أسباب السمن ". يقول : ( إن بعضهن اتخذن عادة مذمومة، وهى أنها قبل النوم وبعد طعام العشاء تأخذن لباب الخبز وتجعله ثريدا تضيف إليه أشياء أخرى ولأنها لا تستطيع ابتلاعه بعد شبعها  فترغم نفسها على ابتلاعه بالماء .. وربما تعود إلى تجرع نفس الوصفة بعد النوم وقبل الفجر ..) . ويحكى ابن الحاج أن بعضهن كن يتعاطين وصفة بلدية تجعلهن أكثر سمنة ، وهى أكل الطين والطفلة الطينية مع بعض أدوية من العطار .. حتى يقل شبعها ويكثر التهامها الطعام ويزيد وزنها وتصبح أجمل الجميلات وفق مقياس العصر المملوكي . وقد أدى هذا الشحم الزائد إلى ظهور نماذج فريدة من المرأة المملوكية السمينة ، كانت بعضهن لا تستطيع أن تتوضأ أو تغتسل لأن ذراعيها أقصر من أن تصل إلى مواضع الطهارة ، وكانت إحداهن لا تستطيع الصلاة وهى قائمة فتضطر للصلاة جالسة ..

2 ــ وبالتالي كان صوم رمضان فريضة ثقيلة عليهن لذلك استنكر ابن الحاج أن بعضهن ـ وبعضهم ـ  كان يفطر فى نهار رمضان جهارا لأن البدانة فى العصر المملوكي كانت عادة سيئة للرجل والمرأة . وأصبح من العادات المذمومة ـ فيما يحكيه ابن الحاج ـ أن النساء البدينات يفطرن فى شهر رمضان حتى لا يفقدن بعض سمنهن ، وامتد ذلك إلى الفتيات الأبكار ، إذ كان أهلهن يرغموهن على الإفطار فى نهار رمضان " خيفة على تغير أجسامهن عن الحسن والسمنة " بتعبير ابن الحاج الذي يربط الحسن بالبدانة والسمن .

وبعض النساء كن يحافظن على صيام رمضان ، ومع ذلك فلم يسلمن من انتقاد ابن الحاج .. فبعضهن كانت إذا أتتها العادة الشهرية فى رمضان فإنها تصوم ولا تفطر ، ثم لا تقضى تلك الأيام التى كانت فيها حائض ، ويعللن ذلك بأنهن يصعب عليهن الصوم أو قضاء الصوم فى غير رمضان فى أيام الإفطار فيأكل الناس وهن يصمن .وبعضهن فى أيام الدورة يفطرن ثلاثة أيام فقط ، ويصمن المدة الباقية حتى مع استمرار الدورة ، بل إن ابن الحاج ينتقد النساء اللائي يصمن مدة الحيض ويقضين المدة صياما أيضا . ويراهن آثمات ومنهن من يفطرن فى تلك الأيام ولكن يكتفين فى الإفطار بتمرة أو أقل القليل من الطعام ، أى كأنها صائمة ، وذلك تجويع وتعذيب لا مبرر له .

3 ــ ومن المفيد أن نذكر أن التشريع فى الدين السُّنّى جرى على اعتبار الحيض من الأسباب التى توجب الإفطار فى رمضان ، وهذا خطأ يتناقض مع الاسلام . لأن القرآن يحصر الأعذار التى تبيح الفطر فى رمضان فى شيئين فقط ، وهما  السفر والمرض: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)) البقرة )   وللمريض والمسافر أن يصوم إذا استطاع لأنها مجرد رخصة ، والله تعالى يقول " (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ). زعمهم أن الحيض يقطع الصوم مردود عليه بقوله جل وعلا فى تشريع دية المؤمن المقتول خطأ :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) النساء ). فالقاتل هنا عليه تحرير رقبة مؤمنة فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين . فإن كان القاتل إمرأة فعليها صيام شهرين متتابعين ، وهذا تشريه إلاهى أنزله الخالق جل وعلا ، وهو الأعلم بمخلوقاته ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) الملك ). وقد خلق المرأة وجعلها تحيض ، فلو كان فى شرعه جل وعلا أن الحيض يقطع الصوم ويُبطله ما قال بوجوب أن يصوم القاتل أو القاتلة بالخطأ شهرين متتابعين ، لأن الدورة الشهرية لا بد أن تأتى حتما خلال هذين الشهرين المتتابعين . إن الحيض يحرّم فقط الالتقاء الجنسى بين الزوجين : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223)  البقرة ).

إن الطهارة شرط فى الصلاة، : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) النساء ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) المائدة ). وعندما ينزل المحيض فهو يدخل ضمن ما تتطهر منه المرأة عند خروجه كالبول والبراز الموجود أصلا داخل الجسد ، ولو فاجأها المحيض وهى تصلى فإن الحيض يقطع الصلاة ، ولا بد من الوضوء والتطهر، والعودة للصلاة بعدها . أما الصيام وباقي فرائض الإسلام من حج وزكاة فليست الطهارة شرطا فيها ولا يقطعها الحيض ، وعليه فإن الحائض ـ وفقا لتشريع القرآن ـ عليها أن تصوم .

4 ــ ونعود إلى ابن الحاج وانتقاده لصيام حواء فى العصر المملوكي . وهو يستنكر قيام بعضهن بالصوم فى رمضان ولكنهن يتركن الصلوات الخمس بدون عذر شرعي ، ويقول : إن بعضهن اعتدن ترك الصلاة ويعتقدن أن الصلاة لا تجب إلا على النساء المتقدمات فى السن ، فإذا نصحتهن أحد بالصلاة تقول : أعجوز رأيتني !! يقول ابن الحاج " فكأن الصلاة ليست بواجبة على الشابة .." ولأنّ صوم رمضان فى العصر المملوكي كان ـ ولا يزال ـ عادة اجتماعية مرتبطة بالسهر والمواسم الدينية وإحياء الليالي فى الأضرحة ولدى الأولياء مع الأطعمة المشهرة والسحور ومدفع الإفطار ورؤية الهلال ، لذلك فإن من اعتاد إهمال الصلاة نراه متمسكا بعادة الصوم فى رمضان .. وذلك ما استنكره الفقيه ابن الحاج على من يصوم ولا يصلى .

الملمح الثانى : الإحتكار في رمضان !!

1 ــ لم يكن شيطان الإحتكار ومصادرة أموال الناس يهدأ فى رمضان فى العصر المملوكي . والإحتكار والمصادرة سياسة مستقرة ثابتة فى عصر العسكر المملوكي ، وكان المنتظر أن يكون لرمضان أثره فى تخفيف الظلم فى شهر الصيام ، ولكن العقلية المملوكية وجدت حلا يتيح لها أن تستمر فى تيار الظلم هو أقتران الظلم بعمل الخيرات على مذهب القائل هذه نقرة وهذه نقرة ، إذا يصادرون الأموال ويبيحون شراء المناصب والرشوة ويحتكرون التجارة ، ثم تراهم من ذلك السحت يقيمون المؤسسات الدينية وينفقون على الطلبة والفقهاء والصوفية والأيتام . وكأنهم لم يعرفوا أن الله تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان من مال حلال ، يقول تعالى "( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) البقرة ) . فالله تعالى يأمرنا بالتصدق من الرزق الطيب الحلال ويحذرنا من الأنفاق من المال الخبيث الآتي عن طريق الظلم ..

الظلم المملوكي فى مصر والشام :

وأتخذ الظلم المملوكي من سكوت الناس وخضوعهم عاملا آخر ساعده على الانتشار ، وكان يحدث أحيانا أن يثور الناس على الظلم كما حدث فى رمضان 807 حين كثرت المصادرات والمظالم فى الشام ودمشق وقت اندلاع الخلاف بين الأمراء المماليك ، وفى ذلك الوقت فرض الأمير حسن نائب القدس على أهلها مالا فرفضوا دفعه فتركهم حتى اجتمعوا بالمسجد الأقصى وأغلق عليهم الأبواب وألزمهم بدفع الأموال ، فأبوا ، وحدثت معركة بينهم وبينه وقتل منهم بضعة عشر رجلا ،  ولكنهم تكاثروا عليه،  ففر منهم . فلما بلغ الخبر الأمير شيخ نائب الشام عزله وولى غيره. وأمير الشام وقتها – أو نائب الشام – الأمير شيخ هو الذي أصبح سلطانا فيما بعد تحت اسم المؤيد شيخ ، وكان كثير البر والصدقات ولكنه كان أيضا على شاكلة المماليك لا يخلوا من الظلم ولا يرى تعارضا بين هذا وذاك .

وفي رمضان 813 أفتتحه المماليك بمصادرة أموال الناس في دمشق فأخذوا من الخانات والحمامات والطواحين والحوانيت والبساتين أجرتها مقدما عن ثلاثة أشهر سوى ما أخذ قبل ذلك ، واتهموا بعض الناس بأن لديهم ودائع أودعها لديهم المماليك الشيخية من أتباع الأمير شيخ نائب الشام ، فأخذوا أولئك الناس وعاقبوهم بالضرب ليعترفوا بما لديهم من أموال مزعومة ، وفتشوا بيوتهم ..وفى نفس الوقت كانت القاهرة تئن من مظالم الأمير بكتمر جلق الذي ألزم المحتسب ابن الدميري بأن يجمع له ألفي دينار من الناس فى نظير أن يلزم الناس بشراء قمح بالسعر الذي يحدده ، وأغتصب أموالا من بعض تجار الشام بالقاهرة ، وأخذ من الأمير منقلي الأستادار ألف دينار ..والمفروض بعدها أن هذا الأمير بكتمر جلق كان صائما فى رمضان ويفطر على مظالم الناس ومصادرة أموالهم .!!

السلطان يحتكر الفلفل فى رمضان !!

والسلطان الأشرف برسباي الذي أقام الخانقاه الأشرفية على أنها من أعمال البر والذي فتح قبرص على أنها جهاد فى سبيل الله ، هو نفسه الذي عانى الناس في عهده من الإحتكار ومن شراهته للأموال . قال عنه المقريزي الذي عاش عصره ( كان له فى الشح والبخل والطمع من الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب فى الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها. وشمل بلاد مصر والشام فى أيامه الخراب وقلة الأموال ..).                                                              

هذا السلطان لم يمنعه شهر رمضان من مصادرة الفلفل على أمل بيعه لتجار أوروبا ، وكان الفلفل الأسود والبهارات من أثمن الأشياء ، وكانت تستوردها  أوروبا عبر الدولة المملوكية التى تحتكر استيرادها من الهند وأسيا . وقد قامت الكشوف الجغرافية وضمن أهدافها التخلص من إحتكار المسلمين لتلك التجارة بالوصول إلى الهند من طريق بعيد ، وبذلك أكتشفوا أمريكا ورأس الرجاء الصالح ..

ونعود إلى رمضان 835 وفيه صادر السلطان الأشرف برسباى فلفل التجار وأرغمهم على أن يبيعوه له بخمسين دينارا للحمل . وكان السلطان قد أرغمهم من قبل على أن يشتروا منه الفلفل فى أول السنة بسبعين دينارا للحمل . وأمر بأن تحتكر متاجر السلطان استيراد الفلفل الوارد من ميناء جده وغيره ، وأن لا يبيعه لتجار الفرنجة القادمين للإسكندرية غيره ، وبذلك أستخدم نفوذه فى أكل أموال التجار ، يقول المقريزى ( فنزل بالتجار من ذلك بلاء كبير) وجدير بالذكر أن رمضان فى العام بعد التالي 837 شهد ردود فعل غاضبة على جشع السلطان ، فقد أرسل ملك الفرنجة الكتيلان خطابا شديد اللهجة للسلطان برسباي لأنه ألزم التجار الفرنجة بأن يشتروا منه الفلفل من خلال المتجر السلطانى لا من التجار العاديين مما سبب لهم خسارة وقد غضب برسباى من تلك الرسالة ومزقها ..

ومن العادات السيئة للحكم العسكرى المملوكى وغير المملوكى أن المستبد العسكرى يستخدم نفوذه فى جمع المال بالتدخل فى الاقتصاد . لذا فإن ثقافة العسكر المملوكى لا تزال سائدة فى مصر منذ أن حكمها العسكر المصريون من عام 1952 ميلادية . أليس كذلك ؟ هو كذلك .!!

الملمح الثالث : تجارة العملة فى رمضان المملوكي

 1 ــ لم تختلف النقود المملوكية عن غيرها من حيث التقسيم الثلاثى المعهود : الدنانير الذهب ، والدراهم الفضة والفلوس النحاس . إلا أن النقود المملوكية تختلف عن غيرها فى أنها شهدت متغيرات شتى فى العيار والوزن والحجم خصوصا في الدينار الذهبي الذي هو قاعدة النقد ، بالإضافة إلى تعويم الدينار وخضوعه للعرض والطلب ، والأخطر من ذلك هو فوضى النقد التي أحدثها جشع المماليك ورغبتهم في الربح على حساب ثبات سعر العملة ثم دخول المزيفين أو ( الزغلية ) إلى ميدان سك النقود ، ومع أن السلطات المملوكية كانت تقف بالمرصاد لأولئك الزغلية وتقطع أيديهم أحيانا – إلا أن بعض المماليك كان يشارك في عملية التزييف ابتغاء الربح .

ولم يلحق التغيير فى الوزن والعيار والحجم الدينار الذهبي المملوكي وحده وإنما تعدى ذلك إلى الدرهم الفضى الذي لم يعد يدل على النقود الفضية الخالصة وإنما وصل به التغيير إلى أنه أصبح مدلولا هلاميا بين الفضة والنحاس ، ولحقته شتى الأسماء حسب اسم السلطان أو الأمير الذي يصدره أو مكان السك أو طبيعة الدرهم وحالته وقيمته . وأصبح ذلك التغير سمة أساسية فى الدراهم التى ظهرت فى الدولة المملوكية البرجية التى بدأت بالسلطان برقوق ، حيث التضخم والغلاء وجشع المماليك والاضطرابات الاقتصادية والمجاعات والأوبئة .

وقد ضرب السلطان برقوق " الذى أسس دولة المماليك البرجية" (الدراهم الظاهرية) سنة 789 كما ضرب الأمير نوروز دراهم ( نوروزيه ) في دمشق سنة 815 وضرب السلطان المؤيد شيخ الدراهم (المؤيدية) سنة 818 وضرب منها أجزاء أهمها النصف المؤيدي ، ثم ما لبث أن أصبح الدرهم المؤيدي نصف مؤيدي سنة 825 ، وكانت قيمة الدرهم المؤيدى 18 درهما من الفلوس ، وأصبح النصف المؤيدى يساوى تسعة من الدراهم الفلوس ، إذ أصبح هناك خلط بين الدرهم الفضة والدرهم الفلوس ، وتتغير قيمة أحدهما بالنسبة للآخر تبعا لاضطراب العملة واضطراب الحياة الاقتصادية فى ذلك الوقت . لذا أصبح من الضروري على كل من يبيع شيئا أن يحمل ميزانا لوزن النقود عند بيع العملات ، وأصبح من الألفاظ والمصطلحات المعهودة فى الحوليات التاريخية المملوكية أن يقال أن ( فلانا وزن كذا ) أى دفع كذا .. أي لجأوا للميزان حيث انعدمت الثقة فى العملة ..

والمؤسف أن تجارة العملة فى الدراهم الفضية شهدت نوعا من التناقص بسبب غلبة الدراهم النحاسية عليها حتى أصبحت الدراهم الفضة في معرض المزايدات بينما امتلأت الأسواق بالدنانير والفلوس النحاسية أو الدراهم النحاسية .

وفي الوقت الذي عانى فيه الدينار المملوكي من التغير فى الوزن والعيار والحجم مع عدم الدقة فى الصنع فان الدينار الأفرنتي كان أفضل منه فى جميع الحالات وكان سيد العملات الأجنبية فى الأسواق المملوكية ، والدينار الأفرنتي هو تلك العملة الذهبية التى قرر مجلس شيوخ البندقية إصدارها فى 31 أكتوبر سنة 1284 أي فى عهد السلطان قلاوون ، وانتشرت فى أوروبا باسم الدوكات (Ducat) بينما عرفت فى الدولة المملوكية بأسماء شتى منها : ( البندقي )، الدنانير( المشخصة) لما عليها من صور ، والأفرنتى وهو أشهر أسمائها ، ويشير المقريزي فى تاريخه السلوك إلى انه منذ سنه 800 هـ كثر تداول الدينار الأفرنتى وأصبح هو الدينار المطلوب فى التعامل ، مما ترتب عليه أن تسربت كميات من الذهب من الدولة المملوكية إلى البندقية لتسك منها تلك العملة الأفرنتية . وكان من الطبيعى أن تفوز الدنانير البندقية فى الأسواق المملوكية بما فيها من دقة الصنع والوزن الثابت (3.45 جراما ) والعيار المرتفع ، وذلك فى مقابل دينار مملوكى هزيل ليس له عيار ثابت  أو قطر محدد ، ثم هو دائم التغير فى الوزن ، لذا كان من السهل على التجار فى سوق العملة استلام الدينار الأفرنتى بالعدد دون حاجة إلى وزن ، أما الدنانير المملوكية فكان لابد من وزنها ، ثم قد يضطر أحدهم إلى إضافة قطع ذهبية أخرى لعلاج النقص فيها .

وكان من المعتاد أن تسك النقود النحاسية ( الفلوس ) لتقوم مقام ( الفكة) الصغيرة فى نفقات البيوت وشراء الخضروات وغير ذلك . وكان الدرهم يساوى 24 فلسا فى بداية الدولة المملوكية . ثم ضرب السلطان كتبغا فلوسا خفيفة الوزن ، وزنة الفلس الواحد يساوى وزن الدرهم الفضى ، والرطل من هذه الفلوس يساوى قيمة الدرهمين من الفضة ، وبدأت بذلك حكاية الوزن فى العملات . ولم يتقبل الباعة فكرة الوزن مما جعل الدولة تعاقب بعضهم لترغمهم على قبول تلك الفكرة ، ثم ضرب السلطان الناصر محمد فلوسا جديدة وقد حلت محل الفلوس الخفيفة التي أصدرها كتبغا التي تم جمعها من السوق .

وبعد موت آخر سلطان من المماليك البحرية من ذرية الناصر محمد بن قلاوون وقيام الدولة البرجية أنتشر الفساد فى سك الفلوس النحاسية أسوة بمنظومة الفساد الذى استشرى فى كل شىء برعاية السلطان برقوق أول سلطان برجى. وقد عهد برقوق إلى محمود الأستادار ضرب الفلوس فخلط النحاس بالحديد والرصاص ليحصل على المزيد من الربح ، وتكاثرت تلك الفلوس وسيطرت على الأسواق وطردت العملات الجيدة ، وكانت الدولة تستورد النحاس من أوروبا لتسكة عملات فلوسا ، بل وكانت ترغم الناس على بيع ما بأيديهم من العملات النحاسية السابقة والتى تحتوى على النسبة الأكبر من النحاس ، وتشتريها منهم بسعر رخيص ، ثم تدخلها دار السك فتخرج عملة جديدة أقل قيمة ولكن أعلى سعرا ويستفيد السلطان والأستادار من ذلك الفرق بينما يخسر الناس .

2 ــ كان ذلك هو حال العملة المملوكية . فهل كان لرمضان تأثيرة الإيجابى على مسئولى الدولة بحيث يجعلهم يرجعون للحق والعدل خلال شهر واحد فقط !؟ والجواب بالنفى . فالمماليك كانت لهم فلسفتهم الخاصة فى إعتياد الظلم مع بناء المؤسسات الدينية التي لا تزال شامخة حتى الآن وهم يرون أن ذلك يكفر عنهم مظالمهم . ومن هنا فقد أستمرت سياستهم النقدية فى رمضان أسوة بغيرة من الأشهر ، ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة ..

يذكر المقريزي أنه في يوم الأربعاء 6 رمضان 811 صدر النداء بالقاهرة ألا يتعامل أحد بالذهب وهددوا من يبيع بالذهب، وأستدعى الأمير جمال الدين جميع التجار وكتب عليهم تعهدات بذلك فنزل بالناس ضرر عظيم – على حد قول المقريزي – لأن النقد الرابح هو الذهب وبه كان يتعامل جميع الناس ، وصدر النداء أيضا بمنع المصنوعات الذهبية والمصوغات فأستمر الحال على ذلك أياما. ثم نودى فى 21 رمضان بأن يتعامل الناس على أن يكون كل مثقال بمائة وعشرين درهما وأن يكون الدينار المشخص ( البندقى ) بمأئة درهم ، وترتب على ذلك أن أحتفظ الناس بالذهب فأرتفعت الأسعار إرتفاعا كبيرا

فالدولة المملوكية كانت تعانى من نقص فى الذهب بسبب إحتكار السلاطين لتجارة التوابل لأنفسهم ــ وسبق التعرض لذلك – مما أدى إلى ظهور نظام المقايضة فى التجارة بين المماليك والبندقية ، ولتعويض هذا النقص فى الذهب – فى الداخل ــ كانت تلك المحاولة التى حكاها المقريزي .

وقد تكرر ذلك يوم الخميس 15 رمضان 829 فى عصر السلطان برسباي أثناء زيادة الصراع الحربى مع القراصنة الفرنجة ، إذ نودي بمنع الناس من التعامل بالدنانير الافرنتية ولا بد من إحضارها إلى دار الضرب حتى يعاد سبكها وتهدد من يخالف ذلك ، يقول المقريزي إن الناس لم يأبهوا لهذا النداء لقلة ثبات الولاة على قرارتهم ، وكثرة القرارات المتضاربة .

ونتعرف على أسعار العملات في رمضان المملوكي في سنوات مختلفة : ففي رمضان سنة 803 ( فى بداية الدولة البرجية ) يحكى المقريزي أن أحوال الناس توقفت بسبب الذهب حيث بلغ سعر الدينار البندقى الأفرنتى 39 درهما من الفلوس فى السعر الرسمى عند الصيارفة بينما هو عند الناس 38 درهما فتناقص حتى وصل 35 درهما ، أى أن الدولة كانت تجمع دنانير البندقية بأعلى سعر . وإذا وصلنا إلى رمضان 806 وجدنا سعر الدينار الأفرنتى قد وصل إلى 70 درهما ، ثم إذا قفزنا إلى 9 رمضان سنة 819 فى سلطنة المؤيد شيخ وجدنا الدينار الأفرنتى قد وصل إلى 230 درهما وصدر النداء بعدم الزيادة فى سعره بعد أن أكتسح الدينار البندقى إمامه الدرهم المؤيدي الذي أصدره السلطان ، وهدد السلطان من يعصى هذا النداء ، ويقول المقريزى انه كثر الغبن من انحطاط النقود وتغيرها مع ثبات السعر ، أى التضخم ، فالعملة الأجنبية يزداد سعرها كل يوم والأسعار تتضاعف والعملات المحلية تتناقص قيمتها ( كما يحدث الآن تحت حكم العسكر المصرى ).!!..

وكان الحال فى الفلوس النحاسية أسوأ وهى العملة السائدة فى ذلك العصر ، ففى رمضان 807 تنازع المماليك فى دمشق فكثرت بها مصادرة الأموال وغلت الأسعار بسبب كثرة التغيير فى النقود النحاسية التى كثرت وصغر حجمها ، وتأخذ الدولة الفلوس القديمة بأرخص الأسعار ويعاد ضربها مزيفة بأغلى الأسعار ، وفى ذلك الوقت بلغ سعر الدينار البندقى 70 درهما .

وفى رمضان 811 كان الأمير شيخ واليا على الشام فأصدر فلوسا كل 6 منها بثمن درهم وترتب عليها كما يقول المقريزى أن شمل الضرر أهل مصر والشام ...

وفى 28 رمضان 826 جمع السلطان برسباى التجار والصيارفة بسبب الفلوس النحاس. فقد صدر سعر جديد للفلوس النحاسية كان منخفضا عن قيمة النحاس الموجود بها فجمعها التجار من أيدي الناس وصهروها وصنعوا منها الأوانى النحاسية وفصلوا منها بقية المعادن كل منها على حدة وأستعملوها فيما تصلح له ، وبعضهم صدرها إلى الحجاز واليمن والمغرب .. وبلغ سعر القنطار من تلك الفلوس 800 درهما .وربحوا منها كثيرا ، لذلك عزف الناس عن التعامل بها وفضلوا بيعها للتجار الذين يجمعونها بأعلى من سعرها الرسمى الذى حددته الدولة . وترتب على ذلك أن توقفت أحوال الناس ، فلما أجتمع السلطان بالتجار والصيارفة أستقر الرأي على أن تكون الفلوس المنقاة بتسعة دراهم الرطل بدلا من سبعة . وصدر النداء بعدم التعامل بغير ذلك ، ومن صدر شيئا منها للخارج عوقب ...!!!

ألا يذكرنا هذا بتدهور الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى ؟ قبل حكم العسكر كان الجنيه المصرى يساوى عشرة من الدولار الأمريكى ..فكيف أصبح اليوم ؟ 

الملمح الأخير : السخرة والإصلاحات المعمارية فى رمضان المملوكي

1 ــ كانت الإصلاحات المعمارية وإقامة الجسور والكباري لا تنقطع فى شهر رمضان فى العصر المملوكي .. ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة ..

فى  27 رمضان 722 يذكر المؤرخ ابن كثير أنه اكتملت عمارة الحمام الذي بناه بهاء الدين بن عليم بزقاق الماحية من جبل قاسيون بدمشق بالقرب من مسكنه ، وقد أنتفع به أهل الناحية ومن جاورهم .وفى يوم الاثنين 11 رمضان 811 شرع الأمير شيخ فى تعمير عدة مواضع داخل مدينة دمشق وكانت قد خربتها حروب تيمورلنك ، وألزم الأمير شيخ بعض السكان بتعمير بيوتهم المهدمة وشجعهم على بدء حركة تعمير في دمشق. وقام بعضهم فى رمضان 835 ببعض إصلاحات فى مكة المكرمة ـــ حيث كان الحجاز تابعا للسلطة المملوكية ــ إذا أجرى العين حتى دخلت مكة بعد ما ملأت البرك داخل باب المعلاة ومرت على سوق الليل إلى الصفا وأنتهت إلى باب إبراهيم وساحت من هناك فعم النفع بها وكثر الخير لشدة احتياج الناس بمكة وقتها إلى الماء وقلته أحيانا وغلاء سعره ، والسبب هو عدم صيانة البئر والعناية بها ، وأنتهى ذلك بتلك الإصلاحات التي أقامها بمكة تاجر محب للخير والإنفاق فى سبيل الله تعالى وهو سراج الدين عمر بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقي .. وبذلك خلد اسمه فى التاريخ .

2 ــ ولا نتصور أن مثل هذا التاجر المحسن قد أرغم الناس على العمل لديه سخرة فى ذلك العمل الخيري ، ولكن تسخير الناس فى الأعمال الخيرية وعمليات الإصلاح كان سياسة مملوكية ، إذ كان المماليك لا يستريحون لفكرة دفع أجور للعمال " والحرافيش " والأسهل لديهم أن يأكلوا أموال الرعية وحقوق العمال ، حتى لو كان ذلك فى شهر الخير والثواب؛ شهر رمضان .

ففي رمضان 738: أنشأ الناصر محمد بن قلاوون جسرا على النيل فيما بين بولاق والزمالك حاليا ، وربما يكون موضعه الآن هو موضع كوبري أبو العلا. وكان ذلك المكان الذي أقيم فيه جسر الناصر محمد يسمى حكر ابن الأثير . وقد سماه المؤرخ أبو المحاسن فيما بعد جسر ابن الأثير . والسبب فى بناء هذا الجسر أن فيضان النيل وأمواجه كانت تفيض على شاطىء بولاق وتحدث أضرارا فى بيوت بولاق المطلة على النيل ، إلى درجة أنها هدمت جامع الخطيري فاحتيج إلى تجديده ، بل وأمر السلطان الناصر سكان بولاق الذين يطلون على النيل بعمل ( الزرابي). والزرابي هي حوائط ومصدات للماء يقيمها أصحاب البيوت القريبة من النيل، ومنها سلالم تصل ساكني تلك البيوت بالنيل . وأقام السكان تلك الزرابي تجاه بيوتهم . ولكن ذلك لم يفد شيئا.  وفي النهاية أمر السلطان بإحضار المهندسين من الصعيد والوجه البحري . وركب السلطان معهم مركبا فى النيل فى تلك المنطقة وتشاوروا فى الحل ثم أتفقوا على حفر خليج فى الجزيرة المقابلة لبولاق – حيث توجد الزمالك الآن – ويمتلىء ذلك الخليج بماء النيل ثم يقام جسر فى وسط النيل يكون سدا يتصل بالجزيرة ، فإذا زاد النيل جرى ماؤه فى الخليج وصده السد وجعله يتراجع إلى الشط الآخر ناحية إمبابة المقابلة لبولاق .

وأقتنع السلطان بالفكرة ولم يبق إلا التنفيذ . فأرسل السلطان من الغد إلى ( المشد) فى كل منطقة يجمع الرجال المسخرين بلا أجرة للعمل. و( المشد) هو الذى يتولى بالعنف والضرب تنفيذ الأوامر الرسمية . وجمعهم المشدون فقطعوا الحجارة من الجبل ، وقام آخرون بالسخرة  ــ أيضا ــ بحمل تلك الحجارة ويملأون بها المراكب ، وتأتي المراكب المحملة بالحجارة فيغرقونها بحمولتها فى المنطقة المراد ردمها حيث الجسر ، وعمل الجميع فى ذلك الجسر سخرة تحت يد الأميرين أقبغا عبد الواحد وبرسبغا الحاجب . وأمر السلطان والى القاهرة ( الوالى فى ذلك الوقت هو رئيس الشرطة ) بتسخير عوام القاهرة أيضا فى العمل . فكان المماليك يقبضون على الناس من الشوارع والأسواق والمساجد والجوامع ويأخذونهم للعمل تحت لهيب الأسواط وفى نهار رمضان. وهرب من أستطاع وأختفى من أستطاع .. يقول المقريزي يصف تلك السخرة : (  ووقع الإجتهاد فى العمل ، وأشتد الاستحثاث فيه حتى أن الرجل كان يخر إلى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة فتردم عليه رفقته الرمال فيموت من ساعته ، وأتفق حدوث هذا لخلائق كثيرة جدا ، وأقبغا راكب فى الحراقة- وهى سفينة حربية – يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة ، والسلطان ينزل إليهم ويباشرهم ويغلظ على أقبغا ويحمله على السرعة واستنهاض العمل حتى أكمل فى مدة شهرين . ).  وأورد المقريزي عدد المراكب التي أغرقت بحمولتها فى النيل لبناء ذلك الجسر ، وأورد حمولتها من الحجارة ، ولكن لم يكن لديه حصر بأعداد الرجال الذين ماتوا فى تلك السخرة ، ولم يكن لديه عدد لأولئك الذين خرجوا أحياء بعد هذه السخرة ..!!

3       ــ وبالمناسبة كانت للماليك حيل عجيبة فى القبض على الناس واستخدامهم فى التسخير والعمل بلا أجرة .. ففي شهر ربيع الأول سنة 877 وفي سلطنة قايتباي كان المماليك يقومون ببناء جسر على النيل عند الجيزة وكانوا كالعادة يريدون الانتهاء منه بسرعة ، وأعوزتهم اليد العاملة ولجأوا إلى حيلة خبيثة لتوفير اليد العاملة بأسهل طريق ، وكانت القاهرة المملوكية وقتها تعج بآلاف العاطلين وآلاف الفلاحين الهاربين من القرى بسبب ظلم شيخ الخفر والعمدة و( المشد ) والخولى والكاشف ( مدير الاقليم ).ولكي يحشدوهم جميعا ليسخروهم في الحفر تفننوا فى حيلة شيطانية : جاءوا بشخص بريء وصلبوه على خشبه ودقوا المسامير فى أطرافه الأربعة وطافوا به فى شوارع القاهرة ينادون عليه : هذا جزاء من يقتل النفس التي حرمها الله ، فأجتمع الناس للتفرج عليه وساروا خلفه بالآلاف إلى موضع الحفر. وعندئذ كان العدد المطلوب قد تكامل فى نهاية الرحلة ، فقبض المماليك على الجمهور وسخروهم في العمل ..

4 ــ       ألا لعنة الله على الظالمين ..!!

اجمالي القراءات 7504

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5123
اجمالي القراءات : 57,056,383
تعليقات له : 5,452
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي