ج1 ب1 ف 2 : ازدهار التصوف بعد الغزالي فى القرن السادس قبيل عصر ابن عربى

آحمد صبحي منصور Ýí 2014-12-07


 كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .

الباب الأول :  مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية  من خلال الصراع السنى الصوفى                  

 الفصل الثانى : ( المرحلة الثانية للعقيدة الصوفية  من بعد الغزالي ( 505 ) إلى ابن عربي ت 638 هـ: )

ازدهار التصوف بعد الغزالي فى القرن السادس قبيل عصر ابن عربى

1 ــ ـ شهدت هذه المرحلة الإنتقال من ( أسلمة التصوف ) والتخفف من ( نفاق الجنيد) ومن مغالطات الغزالى ومحاولاته تمرير عقائد التصوف فى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود الى مرحلة التصوف الشعبى حيث دخل العوام فى دين التصوف أفواجا فى القرن السادس ، وكان المؤرخ الفقيه الحنبلى ابن الجوزى شاهدا على هذه المرحلة ، وجاءت بعدها مرحلة جديدة جريئة فى القرن السابع قبيل بداية العصر المملوكى تعلن عقيدة الصوفية صراحة في وحدة الوجود . وهذا ما فعله ابن عربي وابن الفارض .

2 ــ وكان منتظراً أن يواجه الفقهاء هذا التطور بالإنكار والاحتجاج ولكنه إنكار انتهى إلى أثر عكسي ، في النهاية ، إذ أصبح الصوفية هم الذين يحاكمون ويضطهدون الفقهاء المنكرين ، مع أن أولئك الفقهاء المنكرين صاروا على نهج الغزالي في تقرير مبدأ التصوف وقصر الاحتجاج على صرحاء الصوفية وشطحاتهم ، ولكن المسرح السياسي والاجتماعي أختلف ، فالحكام الجدد مع الصوفية ويدينون بالتصوف السنى ، والطرق الصوفية بدأت تتغلغل في الشارع والمجتمع ، والأولياء الصوفية أحياءً وأمواتاً صاروا مقصداً للتقديس والتوسل والتبرك ، ثم إن الفقهاء في أغلبهم كانوا من العوام أيضا ، كانوا كثيرين ولكن كغثاء السيل ، أصبحوا صرعى للجهل والتقليد وأصبحوا فقهاء مذاهب ، يتبعون الأئمة السابقين دون أن يظهر بينهم مجتهد كالأئمة السابقين ، أي أصبحوا أسرى لدعوة الغزالي في قفل باب الاجتهاد وفي التدين بالتصوف . وبالتالي كانوا أسرى لشيوخ التصوف ، فإذا احتجوا عليهم وثاروا كان سهلاً أن يقفوا أمامهم في قفص الاتهام ليقوم فقهاء آخرون من القضاة بمحاكمتهم بتهمة العيب في الذات الصوفية ، باختصار أصبح التصوف هو التدين السائد منذ العصر المملوكي ، ذلك العصر الذي بدأ  بعد موت ابن عربي بعشر سنوات .

3 ــ  وشهدت هذه الفترة أيضا الحروب الصليبية التي أنهكت العالم السُّنى ، حيث كان الأتراك السلاجقة ــ وهم سنيون متعصبون ـ يسيطرون على الشام والعراق وآسيا الصغرى وفارس شرقا . وقد إضطهد السلاجقة الحجاج الأوربيين القادمين الى القدس ، فإتخذتها البابوية حجة للحروب الصليبية وتحرير القدس من المسلمين ، فى وقت كان فيه الخليفة العباسى لا يتعدى نفوذه ضواحى بغداد . وأتاحت هذه الظروف الفرصة لظهور تيار التصوف متحرراً من الضغط القوي الذي اعتاده قبلاً ،  وقد استفاد بجهد الغزالي كما استفاد الغزالي به ، وقد رأينا كيف أن عقيدة الصوفية قد استشرت حتى وصلت إلى الفلاحين والعوام فاعتنقوها، ووصل تأثيرها إلى درجة يمكن معها اعتبار الغزالي معبراً عنها وعن معتنقيها من الخاصة والعامة . وبديهي أن يستثمر الصوفية جهد الغزالي والاضطراب الذي خلقته الحروب الصليبية في المنطقة مع ضعف الحكام واشتداد ظلمهم واستبدادهم وحاجتهم إلى شيخ مؤيد منافق لا إلى شيخ فقيه حنبلى متعصب يتدخل فى السلطة بحجة تغيير المنكر . وتهيأ الصوفية لوراثة المكان الذي أحتله الفقهاء قبلاً في عصور الخلفاء من بني العباس . وابتدأت الصلات تتوثق بين الحكام الجدد والصوفية . وتجسد ذلك في انتشار الأربطة والخوانق للصوفية يقيمها لهم الأمراء والحكام .. ومرجعنا في التأريخ لهذه الفترة هو ابن الجوزي ت 597 ، الذي عاصر الصوفية فيما بعد الغزالي وصب عليهم أكثر نقمته في كتابه ( تلبيس إبليس )..

4 ــ ابن الجوزى يقول بحسن نية مقارناً الصوفية السابقين وصوفية عصره فى القرن السادس  ( كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين فصاروا أصدقاء ) [1]وابن الجوزي يحسن الظن بأوائل الصوفية ويرى في تباعدهم عن الحكام ورعا ، ولا يدرى أنه الخوف من الاضطهاد .. ثم يصف معيشة الصوفية الهانئة في عصره فى البيوت التي أقامها لهم الحكام الظالمون ، فيقول ( رأينا جمهور المتأخرين منهم مستريحين في الأربطة من كد المعاش متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص ، يطلبون الدنيا من كل ظالم ولا يتورعون عن عطاء ماكس ، وأكثر أربطتهم قد بناها الظلمة وأوقفوا عليها الأموال الخبيثة ، وأكثر زمانهم ينقضي في التفكه بالحديث أو زيارة أبناء الدنيا ، فإذا أفلح أحدهم أدخل رأسه في زرمانقته ( يعني ياقته من الداخل ) فغلبت عليه السوداء فيقول : حدثني قلبي عن ربي )[2]، أى يزعم أنه يتلقى الوحى مباشرة من رب العزة ، بلا حاجة الى صناعة أحاديث بالاسناد والعنعنة كما يفعل السنيون حين يزعم أحدهم : حدثنى فلان عن فلان عن فلان عن فلان عن فلان عن النبى .

5 ــ ولجذب العوام للدخول فى دين التصوف جعل أرباب التصوف إعتناق التصوف سهلا للغاية بالمقارنة بالحنبلية السنية . قبلها ،ولكى يصير العامى سنيا حنبليا كان عليه أن يشترى قلما ومحبرة وألواحا يكتب فيها ، وبالطبع لا بد أن يكون كاتبا قارئا . ثم يلتحق بحلقة شيخ من رواة الحديث ، الذى يملى الأحاديث على المستملين ، فيكون هذا العامى طالبا للحديث يكتب كل ما يقوله شيخه من أحاديث يخترعها الشيخ ويخترع لها إسنادا وعنعنة ( حدثنى / أخبرنا فلان عن فلان ..الخ عن النبى أنه قال ) . فإذا حفظ هذا العامى بضع آلاف من تلك الأحاديث صار شيخا حنبليا يستطيل على الناس بما يحفظ ، واصبح من حقه أن يخترع أحاديث أخرى تزداد بها حصيلته ، فإذا حفظ عشرات الألوف من تلك الأحاديث صار ( حافظا ) ، وصارت له حلقة من الطلبة تكتب عنه .

بدأ الصوفية بالهجوم على هذه الطريقة بكسر الأقلام وإلقاء المحابر وغسل الألواح بالماء ، وإعتبروا ( العلم ) اى ( علم الحديث ) حاجبا يعوق العلم اللدنى الالهى ، وقال قائلهم للحنابلة ( أخذتم علمكم من ميت عن ميت ، ونحن نأخذ علمنا من الحى الذى لا يموت وبلا واسطة ) . اى يكفى أن يزعم أحدهم أنه ( ولى الله )، وانه ( يجلس مع الله فى الحضرة ) وأن الحواجز البشرية زالت فى نفسه وإتّحد بالله ( تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا )، وانه يتلقى العلم اللدنى مشافهة ومباشرة من الله ، ويجد من البشر من يصدقه فلا حاجة له للطريق الشاق فى إستملاء ما كان يعرف بعلم الحديث . غاية ما هنالك أن الإسناد الذى هو اساس (الكذب ) فى علم الحديث ــ أى نسبة الحديث للنبى عبر الرواة والعنعنة ـ إستعملها الصوفية فى إعتناق دينهم فى سلاسل ( الخرقة والعهد والتلقين . )، فالمريد الصوفى يأخذ ( العهد ) و ( التلقين ) عن شيخه . وهذا الشيخ يتميز عن غيره من الشيوخ والأولياء بمرقعة أى ( خرقة ) من قماش لها لون خاص ، وهو يجعل تلك الخرقة أو تلك المرقعة بطاقة شخصية له تحدد ديانته أو إنتماءه لهذا الشيخ دون غيره ، والشيخ نفسه يزعم إنه أخذ تلك الخرقة عن الشيخ فلان عن فلان بنفس العنعنة والاسناد الى أن يصل الى ( الجنيد ) وهو ( سيد الطائفة ) الذى تنتهى اليه كل الطرق الصوفية بالخرقة ، ثم يرتفعون بالخرقة الى آل البيت والنبى وجبريل ورب العزة . اى صار الكذب ( بالخرقة) أسهل كثيرا من الكذب (بالاسناد ) فى الحديث لدى السنيين . وصار الشيخ الصوفى يحرص على تسلسل الخرقة بنفس حرص المريد على أخذ ( العهد والتلقين ولبس الخرقة ) من شيخه . و( لبس الخرقة والتلقين ) أضحى من طقوس التصوف لدى أصحاب الطرق الصوفية ، ولا يزال .  أى إستفاد الصوفية من منهج الاسناد والعنعنة لدى الدين السنى فحولوه الى عنعنة واسناد للخرقة أو المرقعة .

6 ــ  واستفاد الصوفية أيضا من أساطير الشفاعة التى نشرها السنيون . وتوسع الصوفية فى الشفاعة جاعلين أنفسهم أبطال الشفاعة يوم الدين باعتبارهم الأولياء الشفعاء أصحاب الحظوة فى الحضرة الالهية . ولم يجرؤ معظم أئمة الدين السًنى ُعلى التصريح بهذا، فوجد أرباب التصوف الطريق مُتاحا لهم دون منافسة من الفقهاء السنيين . وكالعادة تم تحويل الشفاعة الى تجارة فى عصر إشتد فيه ظُلم الحكام ، وإحتاج فيه الحاكم الظالم الفاسد لأن يستمر فى ظلمه متمتعا بالحصانة من النار وأن يدخل الجنة بشفاعة وبدعاء الصوفية الأولياء أصحاب الكرامات . ولهذا أقام أولئك الحكام الظالمون مؤسسات للصوفية ليدخلوا الجنة ببركة الأولياء . و لم يحدث من قبل أن أقام الحكام بيوتا لاعالة وإعاشة الفقهاء تبركا بهم . حدث هذا مع الصوفية ، الذين تمتعوا شيوخا ومريدين بزوايا وأربطة ( جمع رباط ) وخوانق ( جمع خانقاة ) يقيم فيها الصوفية فى راحة وكسل ينفق عليهم الحكام وأعوانهم من المال السُّحت المسلوب من الناس .  وخارج الأربطة والزوايا والخوانق عاش الصوفية عالة على أموال الحكام الظلمة فى عصر إستشرى فيه ظلم الأمراء من الأتراك السلاجقة ، يقول ابن الجوزي: ( ولقد بلغنا أن بعض الصوفية دخل على بعض الأمراء الظلمة ،  فوعظه، فأعطاه ( الأمير ) شيئاً ، فقبله . فقال الأمير : " كلنا صيادون وإنما الشباك تختلف" ) فالأمير يصطاد المال السُّحت بالسلب والنهب ، وهذا الشيخ الصوفى يصطاد المال السُّحت من الأمير بالوعظ ، وهو يعرف أن الأمير لن يتعظ ، وأنه سيستمر فى أكل المال السُّحت .  ويقول ابن الجوزى : (  وقد دخلت بعض الأربطة فسألت عن شيخه فقيل لي:" قد مضى إلى الأمير فلان يهنئه بخلعة قد خلعت عليه "، وكان ذلك الأمير من كبار الظلمة فقلت : ويحكم ما كفاكم أن فتحتم الدكان حتى تطوفون على رءوسكم بالسلع ..) [3].ـ وقد شهد عصر الغزالي تأسيس بيوت للصوفية عالة على المجتمع ، وتردد ذلك في الإحياء ، ومنها قوله الذي أوردناه عن الفلاحين أصحاب الشطحات ( .. فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة عن الأعمال)  [4]  . وقد كانت للغزالى نفسه خانقاه خاصة به . إلا أن بيوت الصوفية انتشرت بعد الغزالي ورعاها الحكام والمياسير. ولا ريب أن معيشة الصوفية الهانئة في الخوانق – دون عمل أو تعرض للظلم – كان أكبر دافع للعامة في انخراطهم في سلك التصوف ، إلا أن الخوانق لم تكن الإغراء الوحيد الذي قدمه الصوفية للعامة ..  

7 ــ فالسماعات الصوفية ( أى حفلات الغناء الدينى ) وما فيها من رقص ولهو اجتذبت طائفة من العوام تعشق هذا اللون : يقول ابن الجوزي ( التصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ، ثم ترخص المنتسبون إليها  بالسماع والرقص فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد ، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب ) [5].

8 ــ ثم تمثل الإغراء الأكبر فى إسقاط العبادات الاسلامية من الصلاة والصوم والحج وسائر التكاليف التى تعوق الصوفى عن ( الوصول الى الله ) بزعمهم . وفى نفس الوقت التشجيع على الانحلال الخلقى وجعله شعيرة دينية إذ يزعم الصوفى بأنه ( يتحقق بالحق ) حين يرتكب الزنا والشذوذ . لذا تخصص شيوخ من الصوفية بإغراء النساء والصبيان على الالتحاق بطوائف التصوف والطرق الصوفية وحضور السماعات أو الاحتفالات الصوفية والموالد الصوفية ــ فيما بعد . يقول ابن الجوزى عما كانوا يفعلون فى القرن السادس الهجرى : ( واستمالوا النسوة والمردان بتصنع الصور واللباس ، فما دخلوا بيتاً فيه نسوة فخرجوا إلا عن فساد قلوب النسوة على أزواجهن ) ( ثم يقبلون الطعام والنفقات من الظلمة والفجار وغاصبي الأموال .. ويستصحبون المردان في السماعات .. ويجمّلونهم ( عمل مكياج لهم ) في الجموع مع ضوء الشموع ، ويخالطون النسوة الأجانب ينصبون لذلك حجة إلباسهن الخرقة ) " إلباس الخرقة يعنى الدخول فى الطريقة الصوفية ". بالاضافة الى أنه صنعوا مصطلحات دينية جديدة يبررون ويشرعون فيها طقوسهم فى الانحلال الخلقى ، أو بتعبير ابن الجوزى : ( وأولوا المحرمات بغير أسمائها فنطق الكفر يسمى شطحاً )، ( وأن قبَّل امرداً قيل رحمة ، وإن خلا بأجنبية قيل بنته وقد لبست الخرقة ) ، وفي النهاية فالشيخ ( لا يُعترض عليه ) [6]. وفي هذا الجو الإباحي أسرع العامة على اختلاف طوائفهم إلى اعتناق التصوف .يقول ابن الجوزي ( وقد اندس في الصوفية أهل الإباحة فتشبهوا بهم حفظاً لدمائهم وهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : كفار لم يجدوا شيئاً يحقنون به دماءهم ويستترون به وينالون فيه أغراض النفوس كمذهب التصوف ، فدخلوا فيه ظاهراً ، وهم في الباطن كفرة ..)[7].

9 ـ ونلمح في قوله السابق تأثراً بالوضع الجديد الذي خلقه الغزالي حين جعل التصوف ( مذهباً إسلامياً ). حتى أن ابن الجوزي رغم كثرة إنكاره على صوفية عصره يخاطبهم كمسلمين ، فحين يحتج عليهم تسولهم من الظلمة يقول لهم ( والله إنكم أضر على الإسلام من كل مضُر ) [8]. أي أنهم طائفة إسلامية منحرفة يضر بالإسلام انحرافها .

10 ــ  وقد كان هناك إنكار على أولئك الصوفية في عصر ما بعد الغزالي ، مجرد إنكار على شيوخ الصوفية المعاصرين ، مع الإشادة بمناقب الصوفية السابقين ، وينصح اللاحقين بالتأسي بهم ، حتى أن ابن الجوزي كان يستشعر الحرج في تعرضه لأشياخ التصوف السابقين والرد عليها يقول ( نحن نذكر ما بلغنا من أغلاط القوم ، والله يعلم أننا لم نقصد ببيان غلط الغالط إلا تنزيه الشريعة والغيرة عليها من الدخل ، وما علينا من القائل والفاعل وإنما نؤدي بذلك أمانة العلم .. ولا اعتبار بقول جاهل يقول: كيف يرد على فلان الزاهد المتبرك به ، لأن الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة لا إلى الأشخاص ، قد يكون الرجل من الأولياء ، وأهل الجنة ، وله غلطات تمنع منزلته بيان زللـه أي أخطاؤه ) [9].ومعنى ذلك أن ابن الجوزي متأثر بما شاع في عصره من تقدير للصوفية الأوائل بلغ درجة التقديس واعتبارهم أولياء لله يُتبرك بهم ويُعتقد فيهم العصمة ..

11 ــ وهذا الانقلاب الغزالي في النظرة للتصوف والصوفية و ( التصوف السُّنّى ) أحدث هزة نفسية للفقهاء الحنابلة المخضرمين الذين شهدوا عصر التسلط الحنبلى وعصر خفوت الحنبلية وإنتشار التصوف بديلا عن الحنبلية السنية .  وقد حكي ابن الجوزي أن بعض الفقهاء الحنابلة جلس في بعض الأربطة الصوفية للعزاء في فقيه مات فأقبل الشيخ " أبو الخطاب الكلوذاني " الفقيه وقد أسنّ وهو يتوكأ على ذراع الراوي للحكاية فقال ( يعزُّ على لو رآني بعض أصحابنا ومشايخنا القدماء وأنا أدخل هذا الرباط ) ، وعلق ابن الجوزي بقوله ( قلت وعلى هذا كان أشياخنا ، فإنا في زماننا هذا اصطلح الذئب والغنم ) [10]. أى إصطلح الذئب الحنبلى الذى كان يفترس الصوفية من قبل ، إصطلح مع الصوفية .

12ــ وأتيح للصوفية في وضعهم الجديد أن يزاولوا عقائدهم بحرية فمنعوا قراءة القرآن في الأربطة ، ومنعوا فيها قراءة الحديث النبوي [11]. بل أنهم حاولوا الثأر لمقتل " الحلاج " يقول ابن الجوزي ( وقد تعصب للحلاج جماعة من الصوفية جهلاً منهم وقلة مبالاة بإجماع الفقهاء .. وعلى هذا أكثر قصٌاص زماننا وصوفية وقتنا جهلاً من الكل بالشرع وبُعداً عن معرفة النقل ، وقد جمعت في أخبار الحلاج كتاباً بينت فيه حيله ومخاريقه ، وما قال العلماء فيه ، والله المعين على قمع الجهال ) [12]  .

13ــ أي أن التصوف اجتذب إلى جانبه طائفة القصاص وهم أخطر فئة تحترف الدعاية وتتحكم في مشاعر العامة في عصر بدأ طريقه نحو التدهور العلمي ، فازدادت فيه مكانة القصاص على حساب العالم والمفكر ، ومهما يكن في كتاب ابن الجوزي من علم واستدلال على كفر الحلاج فإن تأثيره لن يصل إلى جهد قصاص يحكي ويروي ويأخذ بألباب العامة وتنتشر رواياته محشوة بالأساطير والكرامات ، وأكثر روايات القُصاص تحولت فيما بعد إلى أحاديث لها أسانيد ..

14ــ وهكذا أشرفنا على عصر ابن عربي فى القرن السابع الهجرى ، وقد أصبحت للتصوف دولته التى تتكون من شيخ صوفى معتقد ( بفتح القاف ) وجماهير تلتفّ حوله ، وحكام يقيمون له الأربطة ( جمع رباط ) وزوايا وخوانق ومؤسسات صوفية . وزادها أن الخطر المغولي قد بدأ يطرق أبواب الدول السنية  من الشرق ليضيف مع الاستعمار الصليبي في المنطقة اضطراباً جديداً ، وليساعد بدوره ( إبن عربى ) زعيم الصوفية الجديد على إعلان العقيدة الأساسية للتصوف بكل صراحة ووضوح ، وليدعوهم في ذات الوقت للاتحاد معاً للتبشير بدينهم الجديد ، ولعله الوحيد القائل للصوفية ( العصي والقضبان إذ تفرقت انكسرت وإذا اجتمعت لم تقووا على كسرها ، فاجتمعوا ولا تتفرقوا ) [13].



[1]
تلبيس إبليس 161 .

[2] تلبيس إبليس 169: 170 .

[3] تلبيس إبليس 179 : 180 .

[4] إحياء جـ1/ 32 .

[5] تلبيس إبليس 155: 156 .

[6] تلبيس إبليس 360 : 361 .

[7] تلبيس إبليس 352 .

[8] تلبيس إبليس 180 .

[9] تلبيس إبليس 163 .

[10] تلبيس إبليس 359 .

[11] تلبيس إبليس 170 .

[12] تلبيس إبليس 166 : 167 .

[13] رسائل ابن عربي ( كتاب التراحم 31) حيدر أباد 1948 .

اجمالي القراءات 11354

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5123
اجمالي القراءات : 57,059,110
تعليقات له : 5,452
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي