آحمد صبحي منصور Ýí 2013-10-28
النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )
الباب الثالث : تتبع موضوع الشفاعة فى تاريخ المسلمين الدينى
الفصل الخامس: الأرضية التاريخية التى نبتت فيها أساطير الشفاعة :
(1 ) : إتّخاذ الأحاديث دينا
مقدمة
1 ـ دين الله جل وعلا ينزل رسلات سماوية لاصلاح البشر ، فيقوم البشر بتصنيع أديان أرضية تحقق أهواءهم . وأهم أهوائهم أن يجعلوا عصيانهم فريضة دينية ، وأن يدخلوا الجنة مهما إقترفوا من آثام . ولهذا يجعلون من مهام آلهتهم المصنوعة القدرة على الشفاعة أو ( الخلاص ) فى الآخرة . حدث هذا قبل نزول الرسالة السماوية الخاتمة ، وحدث بعهدها بقرنين . وأدت عوامل سياسية الى تمهيد التربة التى نبتت فيها أساطير الشفاعة ، ثم ترعرعت وأثمرت ثمارها السّامة فى إفساد أخلاق ( أمة محمد )أو(المحمديين ). .. ولا تزال .
2 ـ و البخارى هو رائد التصنيع لأساطير الشفاعة . وبعده استخدمها أئمة المحمديين فيما يعرف بالتفسير ، ودخلت هذه الأساطير فى الجدل الدينى بين أصحاب الملل والنحل التى تأسست فى العصر العباسى ، وأصبحت أساطير البخارى من أُسس الأديان الأرضية للمحمديين حتى الآن . وبها صار كتاب ( البخارى ) الكتاب المقدس عندهم جميعا ، بحيث غذا تعارض حديث واحد مع مئات الآيات القرآنية فإنه يتم الانتصار للبخارى على القرآن . المحمديون يقولون بأفواههم إن البخارى هو أصح كتاب بعد القرآن ، ولكنهم فى قلوبهم يؤمنون بأن البخارى يعلو ولا يُعلى عليه . وإيمانهم بالقرآن مرتبط بمدى إتفاقه مع ( صحيح البخارى ) .
3 ـ ونعطى لمحة تاريخية موجزة عن الأرضية التاريخية التى مهّدت لأساطير الشفاعة من خلال علاقة المثقفين المسلمين سياسيا بالخلفاء من عصر الراشدين الى العصر العباسى الأول .
ونقصد بالمثقفين المسلمين المنشغلين بالعلم . وقد تنوّعت ألقابهم حسب الأجيال ، من ( القُرّاء ) الى ( الزهّاد ) الى ( الفقهاء ) و( الحُفّاظ ). ونتعرض لهم هنا لأنهم دائما مخترعو الأديان الأرضية ، وتدفعهم الظروف السياسية لهذا . وهذا موضوع تاريخى غاية فى التعقيد نحاول تبسيطه بايجاز قدر المستطاع .
أولا : إضطهاد الموالى قبل العصر العباسى وأثرها فى ظهور حركتى البكائين والزُّهّاد
1 ـ أرسى عمر بن الخطاب إضطهاد سكان الأمم المفتوحة،( راجع مقال : المسكوت عنه من تاريخ عمر ) ثم اصبح سياسة ثابتة فى العصر الأموى. ومع إنشغال الأمويين بالفتوحات الخارجية حتى وصلوا تخوم الهند والصين شرقا وجنوب فرنسا غربا فقد دخلوا فى نفس الوقت فى حروب طاحنة داخلية مع العلويين والشيعة والخوارج وواجهوا ثورات الأقباط والبربر. وإنضم موالى العراق وايران الى كل ثائر على الأمويين خصوصا الثورات الشيعية . وعومل الموالى فى الدولة الأموية بإحتقار شديد ، ولم ينج من هذا من تخصّص فى العلم منهم ، والموالى كانوا روّاد الحركة العلمية فى العصر الأموى بسبب خلفيتهم الثقافية وتفرغهم للعلم وخدمتهم لكبار الصحابة ورغبتهم فى التفوق والنبوغ تعويضا لشعورهم بالنقص فى مجتمع ظالم يضطهدهم لأنهم من غير العرب.
2 ـ واشتهر الحجاج بن يوسف بالقسوة المفرطة فى قتل المعارضين بمجرد الريب والشّك ، وكان معظمهم من المثقفين ، كما إشتهر الحجاج بإضطهاد الموالى ، وهم الأكثرية الساحقة للسكان فى العراق وفارس . ولم تفلح سياسته فى كسر شوكة معارضية فأراد التخلص منهم ( بالجهاد ) فى المشرق ، فأرسل جيشا للفتوحات فى الشرق يقوده عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث . وهو حفيد الأشعث بن قيس زعيم قبائل كندة الذى تقلب فى ولاءاته من الاسلام الى الردة الى الفتوحات، ومن الانضمام لعلى الى التآمر عليه. ثم سار ابنه محمد بن الأشعث على سيرة أبيه ، فكان زعيم الشيعة ، وممّن استجلب الحسين ثم غدر به وانضم للأمويين . وحافظ بهذا محمد بن الأشعث على زعامته ومكانته فى العراق فى الدولة الأموية. وبعث الحجاج ( عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ) قائدا لهذا الجيش، وتطوع معه آلاف مؤلفة من الكارهين للأمويين والحجاج ، من الشيعة والخوارج والموالى والقرّاء (أى المثقفين العلماء )، على أمل أن يؤثروا فى القائد المتقلب ( عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ) لينقلب على سيده ( الحجاج ) فيستدير بالجيش لحرب الحجاج . وهذا ما حدث فعلا . وكانت معركة دير الجماجم عام 83 التى كانت نقطة تحول فى تاريخ الدولة الأموية . وانتصر الحجاج فأسرف فى قتل الأسرى حتى لقد أقام اهرامات من رءوسهم فسميت المعركة بدير الجماجم .وانتصار الحجاج وتنكيله بالأسرى أدّى الى خيبة أمل المثقفين فى التغيير، فكان تلك أكبر فرصة تمكنوا فيها من السيطرة على جيش كبير يقاتلون به الدولة الأموية فلم يفلحوا .
4 ـ أدت خيبة الأمل هذه الى يأس أنتج بدوره حركتى الزهد والبكائين بين المثقفين الحالمين مع الأمل فى ظهور شخص من عالم الغيب (المسيا أو المسيح المنتظر أو المهدى المنتظر) يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا.هى أحلام يقظة للشعوب المقهورة ، تأتى ردّ فعل لظلم هائل ، فتصنع دينا أرضيا يكون لها ( حائط مبكى ) يعينها على معايشة القهر . ذلك القهر الذى بدأ قبل البيزنطيين والأكاسرة واستمر الى ما بعد الأمويين والعباسيين ..ولا يزال . ولقد تعرضنا هنا فى بحث رائد عن ( البكائين والزُّهّاد ).
5 ـ إستثمر الدعاة العباسيون السّريون حاجة المقهورين الى (المهدى المنتظر ) فأسهموا فى سبك ونشر الأحاديث الخاصة به وقامت ( للمهدى المنتظر ) دعوة سرية تتحرك بثبات فى خراسان تحمل الدعوة الى (الرضى من آل محمد ) بدون تحديد لصاحب الدعوة سوى أنه من آل بيت النبى محمد عليه السلام. وانضم الكثيرون للدعوة الجديدة ، خصوصا من الشيعة ، فخرجت فى خراسان الى الدور العلنى المسلح بقيادة (أبو مسلم الخراسانى ) الذى نجح فى تدمير الدولة الأموية سريعا وإقامة الدولة العباسية عام 132 هجرية . وفوجىء الشيعة أن الدعوة ليست لذرية على بن أبى طالب ولكن لبنى عمومتهم العباسيين ، وكانت المفاجأة الكبرى أن أولئك العباسيين أشد قسوة من الأمويين ، وان أول ضحاياهم كانوا من أنصارهم الطامعين فى المشاركة فى السلطة ، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور ، فهو الذى قضى على أبى مسلم الخراسانى ، وهو الذى قضى على الرواندية . وهو الذى حارب أتباع أبى مسلم الخراسانى فى أقاصى الشرق ، وهو الذى عذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه ، وهو الذى كان يرتكب كل تلك الجرائم بفتاوى دينية يصدرها له أتباعه من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد فى الدين على الخليفة . وحين امتعض ابو حنيفة ورفض أن يفتى له بما يريد قام ابو جعفر المنصور بسجنه وتعذيبه وقتله بالسم .
6 ـ كانت خيبة أمل المثقفين شديدة ، فقد جاء الظلم اشد ، وجاء متوشحا بفتاوى دينية وأحاديث نبوية ، وخليفة يعلن أنه سلطان الله فى أرضه . هذه الخيبة الشديدة كان التعبير عنها هائلا أيضا، وتمثل في الرفض الكامل ليس للدولة فحسب وإنما للدنيا أيضا التي يئسوا منها فأقاموا لهم دولة بديلة صنعوها من آمالهم المحبطة وأحلامهم التي لم يكن لها أن تحقق إلا في دنيا الخيال والأقاصيص ، واكتفي أولئك بدنياهم تلك وابتدعوا لهم طقوسا دينية جديدة غلفوها بالبكاء والمنامات وأقاصيص الكرامات. وهذه هى ملامح حركة البكائين فى العصر العباسى الأول . ثم ورثتها حركة جديدة مختلفة هى ( حركة السنيين المتشددين : أو الحنابلة ) فى العصر العباسى الثانى ، كان قوامها أحبار الديانة المُزدكية الفارسية .
ثانيا : قيام الدولة العباسية بالتحالف مع أحبار المّزدكية
1 ـ كان تغلغل الديانة المزدكية الفارسية أكبر خطر تعرضت له الدولة الأموية بعد فتح فارس وتحولها إلى مسرح لمقاومة الحكم الأموي ، إذ إرتبط الشعور القومى الفارسى الوطنى بالدين الفارسى المُزدكى . والاضطهاد العربى للفرس ( الموالى ) قابله الفُرس بالتمسك بالمزدكية واللغة اللفارسية وآدابها وثقافتها ومدارسها العلمية. والاضطهاد الأموى جعل المزدكية تنتشر أكثر وسرا لتصبح حافزا للمقاومة ، بل وتتخفّى فى أشكال مختلفة للتهرب من القسوة الأموية فى معاملة خصومها .
2 ـ وبسبب قسوة الأمويين فى قمع ثورات آل البيت ( بدءا من الحسين فى كربلاء 61 الى حفيده زيد بن على زين العابدين 121 / 122 ثم ابنه يحيى 125 ) وبسببب مراقبتهم الشديدة لذرية ( على ) من ( فاطمة الزهراء ) فقد نشأت حركة شيعية جديدة ومختلفة ، تتشدّد فى السّرية والكتمان بتنظيم عنقودى ، تدعو لامام مجهول الاسم والعنوان من ذرية محمد بن على ( ابن الحنفية ) وليس ابنا لفاطمة الزهراء ، تحت شعار( الرضى من آل محمد )، لا يعرف شخصيته إلا كبار الدعاة . هذه هى ( الكيسانية ) التى تنتسب الى ( كيسان ) الفارسى خادم ( على بن أبى طالب ). وهذه الكيسانية تؤله الامام ( العلوى ) وتُضفى عليه عقائد المّزدكية لتوثيق التحالف السياسى بين المُزدكية والشيعة. تحالفت الكيسانية مع أحبار المّزدكية فى نشر دعوتهم السرية بين الفُرس لاسقاط الدولة الأموية .
3 ـ وقتها عاش أبناء ( عبد الله بن عباس ) مكرمين فى الدولة الأموية لابتعادهم عن العمل السياسى ، ثم جاءتهم الفرصة بموت الزعيم السرى للدعوة السرية مسموما بمؤامرة أموية عشوائية ، وكان على مقربة من بيت محمد ابن على بن عبد الله بن العباس فى منطقة الأردن ، فمات بين يديه بعد أن أفضى اليه بأسرار الدعوة والتنظيم ، فركب العباسيون هذا التنظيم العنقودى ووصلوا به الى إقامة الدولة العباسية .
ثالثا : الصراع العسكرى بين العباسيين والمُزدكيين الفُرس
1 ـ لم يهتم زعماء المزدكية بأن يصل العباسيون للخلافة بدلا من العلويين طالما أن الدولة التى أسهموا بالجهد الأكبرفى إقامتها ستؤسس لهم نفوذا يساوى جهدهم فى تأسيسها . وكان نفوذ أبى مسلم الخراسانى طاغيا فى خلافة السفّاح أول خليفة عباسى،وأحسّ ابوجعفر المنصور بخطورة أبى مسلم الخراسانى فقتله سنة 137 هجرية. وبهذا تحطّمت أمنيات زعماء القومية الفارسية فى أن يعيدوا مجدهم القديم من خلال تحكمهم فى الخلافة العباسية ،وكانت أكثرية الفرس الذين مع أبي مسلم الخرساني يتمنون إعادة الديانة المزدكية ، وقد فجعهم مصرع قائدهم أبي مسلم الخرساني فقاموا بثورة على العباسيين للطلب بدم أبي مسلم ، وتزعمهم سيناذ وقد استولى على خزائن أبي مسلم وورثه في أتباعه ، واستطاع العباسيون هزيمته وقتلوا ستين ألفاً من أتباعه،وكان سيناذ مجوسياً كما يذكر الطبري ( تاريخ الطبري 7/ 495. المقدسي : البدء والتاريخ 6/ 82 ، 83 )
2 ـ ويلاحظ أن بعض الفرس تعجل في استغلال الدعوة العباسية في إرجاع الدين المزدكي الفارسي حتى قبل أن تنجح الدعوة العباسية في إقامة الدولة لبني العباس ،وذلك يدلنا على عمق الدوافع الدينية القومية لدى الفرس عندما تحالفوا مع العباسيين ضد الأمويين ، ويذكر المقديسى أن أحد المجوس من المزاد كية وهو (عمار بن بديل ) استطاع أن يخدع بكير بن ماهان كبير الدعاة العباسيين في العراق ، فأرسله إلى خراسان ليدعو إلى الرضى من آل محمد وأعطاه أسرار الدعوة وفي خراسان غيّر ّ (عمار بن بديل) اسمه إلى اسم فارسي هو(خداش) ونشر المزدكية بين مسلمي فارس ،والمقدسي يقول عنه : (ومثّل لهم الباطل في صورة الحق فرخص لبعضهم في نساء بعض ،وأخبرهم أنها تعاليم الرضى من آل محمد ،وقد انتهى أمره بالقتل.( المقدسى : البدء والتاريخ 6/60 : 61 )
3 ـ وبعد قيام الدولة العباسية وفجيعة الفرس فيها ظهر التحدي واضحا ًباكتساب الثورات الفارسية ضد الدولة العباسية طابعاً دينياً مزدكياً صريحاً، وقد كان أبو مسلم في حياته وأثناء قيادته للجيوش العباسية يمنع أتباعه من إظهار المزدكية، وبعد أن قتله العباسيون ثاروا على الدولة العباسية وسموا أنفسهم " الأبو مسلمية" وأعلنوا ألوهية أبي مسلم الخرساني ثم ألوهية ابنته فاطمة ويزعمون أنه يخرج من نسلها رجل يستولي على الأرض كلها( المقدسي : البدء والتاريخ 6/ 95.).وبعد إخماد ثورة سيناذ التي أشرنا إليها قامت ثورة أخرى بقيادة (استاذيس) المجوسي المزدكي الذي ادعى النبوة ـ وبعث إليه الخليفة المنصور العباسي بجيش فقتله(تاريخ اليعقوبي 3/ 104 ،115.)
4 ـ واستمرت ثورات الفرس الدينية العسكرية في خراسان وما حولها وأرهقت الدولة العباسية ، وكان أهمها ثورة المقنع الخرساني الذي ادعى الألوهية وأباح جميع النساء والأموال ، وأتعب الدولة العباسية حتى قضت عليه،ثم قام الفرس بثورات أخرى في عهد هارون الرشيد وأولاده ، وكانت أقوى ثوراتهم في خلافة المعتصم بقيادة بابك الخرمي الذي كاد يقضي على الدولة العباسية ، واستمرت الحرب عشرين عاماً ، حتى قضى عليه الأفشين قائد المعتصم سنة 220هـ ، وكان الأفشين نفسه مزدكياً فقتله المعتصم ، مما يدل على تغلغل عقيدة المزدكية في البلاط العباسي . ولذلك كانت الدولة العباسية تطارد عملاء المزدكية في بغداد والعراق بتهمة الزندقة وتهمة الزنا ، واخترع العباسيون لذلك حد الردة وحد الرجم ، وكلاهما ليسا من تشريعات الإسلام ، ولم يعرفه عصر النبي محمدعليه السلام .
رابعا : الصراع بين العباسيين والمزدكيين الفُرس بالأحاديث
1 ـ وما يهمنا من ذلك كله أن الفرس قسموا أنفسهم قسمين في حرب الدولة العباسية ،قسم أعلن الحرب وأظهر معتقداته المزدكية ،وكان لهم في بلادهم البعيدة عن مركز الخلافة ما مكنهم من الثورة، ثم قسم آخر كان يعيش في بغداد وقصور الخلافة ينافق السلطات ويكيد لها .وبينما حارب العباسيون القسم الأول بإرسال الجيوش فإنهم واجهوا عملاء عدوهم في الداخل بالقتل بمبرّر دينى مصنوع. ولأن الفرس متهمون بالكفر والانحلال الخلقي وإباحة النساء كلهن فقد كان سهلاً أن يخترع لهم الكهنوت العباسي عقوبات جديدة ما لبثت أن أضيفت للإسلام مع أنها تناقض القرآن،وتلك العقوبات هي ما اصطلح على تسميته بحد الردة وحد الرجم وحد تارك الصلاة . وبينما انهمك أبو جعفر المنصور في حرب الفرس الثائرين عليه عسكريا ، فإن ابنه ( المهدي ) انهمك بعدها في حرب الزنادقة في بغداد نفسها . وسار أبناؤه على نهجه يتلقبون بألقاب دينية ( المهدي الهادي . الرشيد . المعتصم .) ويقتلون خصومهم بشعارات دينية وفقا لنصوص أضيفت لشريعة الإسلام وأخذت لقبا جديدا هو سنة النبي. وبهذا قام الدين السنى فى أحضان السلطة العباسية يقتل خصومه فى الدين والفكر بتهمة الزندقة .
2 ـ وجدير بالذكر أن الدعوة العباسية كانت تصطنع الأحاديث لإقامة دولتها ثم لتدعيم خلافتها ، وتعلم المزدكية على أيديهم هذه الحرفة حين كانوا متحالفين معا، فلما حدث الشقاق بينهما تفرغ بعض أحبار المزدكية في حرب الإسلام عن طرق صناعةالأحاديث . وفطنت الدولة العباسية أبان قوتها لهذا الأسلوب، وإكشفت أحدهم ، وهوعبد الكريم بن أبي العوجاء أكبر راوية للأحاديث في عصر الخليفة أبي جعفر المنصور ، والذي كان يصنع الأحاديث ويخترع لها أسانيد قوية ، وقد قتله محمد بن سليمان والي الكوفة سنة 155 هـ ، وقد قال قبيل عبد الكريم هذا قبيل مقتله بأنه وضع أربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحل بها الحرام .(تاريخ المنتظم لابن الجوزي8 /184 ) ولم يتعرف أحد على تلك الأحاديث ، كما لم يتعرف أحد على باقي أعوان ذلك الشيخ المزدكي .
خامسا : الأحاديث وسيلة العباسيين فى تأسيس دولة دينية كهنوتية
1 ـ والواقع، فإنّ تبنّى الأحاديث والسّنة دينا للدولة بدأ عمليا فى العصر العباسى ، وهنا يظهر الاختلاف بين الأمويين والعباسيين . قدم الأمويين لنا فى عصر الرواية الشفهية أبا هريرة أقل الصحابة صحبة للنبي فجعلوه أكثر الصحابة رواية عن رسول الله ، وكذلك فعل العباسيون مع جدهم عبد الله بن عباس . يقول ابن القيم الجوزية فى كتابه ( الوابل الصيب 77 ص 77 ) أن ابن عباس لم يبلغ ما سمعه من النبي عشرين حديثا ،ويرى الأمدي في كتاب الأحكام (2/ 78، 180 ) أن ابن عباس لم يسمع من النبي سوى أربعة أحاديث . وفعلا فإن ابن عباس لم يدرك النبي إلا وهو دون الحلم ، وقد قضى طفولته في مكة في حين كان النبي يومئذ بالمدينة . ولكن شاءت الدولة العباسية أن ترفع من شان جدها ابن عباس، فجعلته أكثر الصحابة علما ، وتبارى الفقهاء العباسيون في نسبة الأقوال والاجتهادات إليه في الحديث والتفسير والفرق المذهبية والفقه والأحكام .
2 ـ وتميّز العباسيون بصناعة الأحاديث لتأسيس ملكهم ولتأسيس كهنوتهم الدينى . قام بهذا الفقهاء والخلفاء على حد سواء ، فأضافوا لابن عباس وغيره ما لم يكن معروفا من قبل من الأحاديث المصنوعة التي تتحدث عن ملك بني العباس وخلافتهم التي ستظل في أيديهم إلى يوم القيامة ، بل تتحدث عن الخلفاء العباسيين بالاسم واللقب. وظلت هذه الأحاديث تحظى بالتصديق حتى لقد عقد السيوطي فى اواخر العصر المملوكى في كتابه " تاريخ الخلفاء" فصلا بعنوان ( فصل في الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس ) وقد تمت نسبتها لصحابة ماتوا دون أن يعرفوا شيئا عن الدولة العباسية وخلفائها ، منها : أحاديث يرويها أبو هريرة أن النبي قال للعباس: " فيكم النبوة والملك " . أي أن العباسيين انتقموا من أبي هريرة بعد موته فوضعوا عليه ذلك الحديث رغم أنفه . وحديث آخر نسبوه لأبي هريرة أن النبي قال للعباس إن الله افتتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه " وحديث آخر " يكون من ولد العباس ملوك تكون أمراء أمتي" . ثم حديث ابن عباس يروي فيه أن أمه كانت حاملا فيه وقد أمرها النبي أن تأتي به إليه إذا ولدت ــ هذا مع أن ابن عباس ولد بمكة ولم يكن بمقدور النبي ـــ أن يدخلها ـــ وتمضي الرواية فتقول إن الأم جاءت بابنها عبد الله فأعطاه النبي الاسم وباركه وقال إنه سيكون أب الخلفاء حتى يكون منهم السفاح وحتى يكون منه المهدي ويكون منهم من يصلي بعيسى بن مريم .. وهذه بشرى بأنهم سيظلون في الحكم إلى أن تقوم الساعة . وهناك حديث يرويه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يقول : حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس أن النبي قال للعباس إذا سكن بنوك السواد لم يزل الأمر لهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم . وحديث آخر " الخلافة في ولد عمي أخو أبي حتى يسلموها إلى المسيح "، وحديث فيه مدح الخليفة المهدي ــ قاتل الزنادقة ــ يقول إن النبي دعا ثلاثا تقول اللهم انصر العباس ، ثم قال ياعم أما شعرت أن المهدي من ولدك سيكون موفقا مرضيا ." . ووضعوا في السفاح أول الخلفاء العباسيين حديثاً يقول : "يخرج رجل من العباسيين بعد انقطاع من الزمان وظهور الفتن يقال له السفاح ..." . وقالوا إن ابن عباس روى عن النبي حديث "منا السفاح ومنا المنصور ومنا المهدى.." أي يفخر النبي بأولئك الخلفاء. وهناك أحاديث كثيرة عن الخليفة المهدى منها " المهدى من ولد العباس عمى " و "المهدى يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبى ".
3 ـ ولاستكمال الصبغة الكهنوتية فقد تعدى الأمر ليصل الى أن الخليفة بالاختيار الإلهي وأن الله يخلق الخلفاء بصورة الاهية متميزة عن باقي الخلق ، فيقول حديث مصنوع منسوب إلى ابن العباس وأبى هريرة وأنس " إذا أراد الله أن يخلق خلقاً للخلافة مسح على ناصيته بيمينه ". ومن الطبيعي بعد ذلك أن الاعتراض على الخليفة المنصوص على اسمه ولقبه إنما يكون اعتراض على مشيئة الله وقراره الذي لابد من طاعته.. ومن هنا تقترن الجبرية السياسية بالأحاديث التي نسبوها للنبي عليه السلام.
4 ـ وقد حرص الخلفاء العباسيون على تحصين الأحاديث بسياج من الإرهاب والتقديس حتى لا ينالها النقد واستعمال العقل ، يروي أبو معاوية الضرير أن رجلا من قريش استمع إلى حديث " احتج آدم وموسى " وذلك في مجلس الرشيد فتعجب القرشي قائلا: أين التقى موسى بآدم ؟! ، فغضب الرشيد من ذلك التعليق وقال :النُّطع والسيف.. زنديق يطعن في حديث النبي.. وما زالوا بالرشيد حتى عفا عن الرجل من القتل .. والسبب واضح فإن باب الاعتراض على الأحاديث سيجر مشاكل كثيرة للملك العباسي القائم على صناعة الأحاديث لتأسيس الكهنوت الديني.
5 ـ بل تعدى الأمر الى تقديس قريش ، يروي الصولي أن رجلا شتم قريشا فجيء به للخليفة الهادي فقال سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه محمد عن أبيه على عن أبيه عبد الله بن عباس أنه قال : من أراد هوان قريش أهانه الله ، وأمر بقتل الرجل .. أي أن الخلافة العباسية امتدت بكهنوتها لتشمل قريشا كلها.
6 ـ وقريش تشمل الأمويين أيضا أعداء العباسيين، وحرص العباسيون على الكهنوت الأموي فيما يخص الخلافة حتى لا يصل التطاول على مقام الخلافة الأموية إلي الخلافة العباسية ،وقد كان الخليفة الأموي الوليد بن يزيد مشهورا بالمجون والزندقة، وقد ذكروا سيرته أمام الخليفة المهدى ، فقال بعض الحاضرين عنه إنه كان زنديقا ،فقال المهدي : " مه ــ خلافة الله عنده أجل من أن يضعها في زنديق " : فنسب الخلافة لله وجعلها باختيار الله تعالى لشخص الخليفة ومن هنا تكون للخلافة قدسية وللخليفة عصمة ومكانة بحيث لا يتطاول أحد على مقامه ، والمهدي العباسى لا يهتم بالخليفة الأموي الوليد بن يزيد ولكن يهتم بمقام الخلافة الذي يحتله وبالكهنوت الذي أصبح يحيط به .
وجدير بالذكر أن تلك الدعاية العباسية القائمة على ختراع الأحاديث قد آتت أكلها فظل الناس يعتقدون أن ملك بني العباس سيظل إلى يوم القيامة كما أشاعوا في الأحاديث، وبلغ بهم ذلك مبلغ الإيمان حتى أن هولاكو والمغول تأثروا بالأساطير التي تجعل الهلاك من نصيب الذي يتعرض للخلافة العباسية ، وعقد هولاكو مجلسا عسكريا لبحث هذا الأمر كما يذكر الهمداني في تاريخ المغول ، وأخيرا تشجع هولاكو بنبوءة نصير الدين الطوسي الفلكي وهجم على بغداد . فأنهى الكهنوت العباسي وما أغنت عنهم الأحاديث التي اخترعوها .
خاتمة
نخلص من هذا أن إختراع الأحاديث كان مجالا سياسيا تخصص فيه العباسيون وأحبار المزدكية ، وأن الدولة العباسية استعملت الأحاديث فى تأسيس سلطانها وكهنوتها الدينى والسياسى ، وايضا فى مواجهة خصومها السياسيين بما يعرف بحد الردة وحد الرجم ، وبالتالى كان منتظرا أن تدوم شهور العسل أو سنوات العسل بين السلطة العباسية والفقهاء صانعى الأحاديث ومنشئى الدين السّنى ، لولا أن وقع الصدام بين العباسيين وجانب هام من هؤلاء الفقهاء . إستفاد من هذا الصراع أحبار المّزدكية بعد فشل حركاتهم العسكرية فى فارس . إستغلوه فى نشر المزدكية تحت شعارات ( اسلامية محمدية ) ، وهذا يستلزم التوقف فى لمحة سريعة مع الحركة العلمية فى العصر العباسى وعلاقتها بالسلطة العباسية .
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5123 |
اجمالي القراءات | : | 57,058,899 |
تعليقات له | : | 5,452 |
تعليقات عليه | : | 14,828 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
الغزالى حُجّة الشيطان : ف 2 : الغزالى فى الإحياء يرفع التصوف فوق الاسلام ( 1 )
الغزالى حُجّة الشيطان ( 9) الغزالى والاسرائيليات ( جزء 2 )
دعوة للتبرع
الفضل لله وحده: هل إذا قلت : الفضل لله ثم لفلان .. هذا يجوز ؟...
طهارة الثياب: هل من شروطِ الصحّ ةِ الصّل وةِ ...
أسهو فى الصلاة: أسهو فى الصلا ة دائما فأنا باحث يمتلى ء عقلى...
العدة والمتعة : قال تعالي " والذي ن يتوفو ن منكم ويذرو ن ...
المسجد الأقصى: هل صحيح ان المسل مون توجهو ا في الصلا ه الى...
more