البوليس السرى فى عهد أحمد بن طولون

في الجمعة ٢٠ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

أنشأ أحمد بن طولون لنفسه وذريته دولة في مصر هي الدولة الطولونية (254ـ 292هـ)، وواجه مكائد الدولة العباسية وأعوانها داخل مصر وخارجها، واستقامت له الأمور في مصر بوسائل كثيرة أهمها "أصحاب الأخبار" أو جواسيسه السريون الذين أحكم بهم قبضته على مقاليد الأمور. ومن العجيب أن أحمد بن كان مهتما بإقرار العدل ومعروفا بالبر والإصلاح، ولكنه كان حريصا على ألا يدع لأحد الفرصة في أن يمس سلطانه، خصوصاً وهو يواجه المكائد العباسية، ومن هنا كانت حاجته للبوليس السري، وكان أيضاً احتقاره &aacutute;لقائمين على هذا الجهاز والعاملين فيه.

عدل ابن طولون

والذين كتبوا تاريخ ابن طولون بعد موته وانتهاء دولته أظهروا ورعه وأشاروا بعدله، ولقد غضب على صديقه معمر الجوهري حين اشتكته امرأة عجوز ظلمها وكيل معمر الجوهري ، ولم يرض ابن طولون عنه إلا بعد أن أنصفها وزاد في إكرامها.

وكان من مهام البوليس السري لابن طولون ، كتابة التقارير عن كبار الموظفين وصغارهم في الإدارات ، وكانت صرخة المظلوم تصل إلى آذانهم المرهفة، وكان مع ذلك صاحب طبيعة متشككة إذ لا يقبل تقاريرهم إلا بعد تمحيص، ولاسيما أنه صاحب رأي سيء في الجاسوسية والجواسيس.

التجسس على كبار الدولة

ولقد عانى القادة وكبار الدولة من وجود ذلك النظام السري الذي يحصي عليهم أنفاسهم.. سواء كانوا في داخل القصر الرسمي أو في بيوتهم أو حتى في مهام سرية لصالح الدولة..أرسل ابن طولون وفداً إلى الخلافة العباسية ليشكر سيرته لدى الخليفة المعتمد، وأنفذ مع الوفد جواسيس من لدنه من حيث لا يعلمون بهم، يحصون ما يكون من كل واحد منهم، وأدى الوفد المهمة ونجح فيها وجاءت التقارير عنهم إلى ابن طولون مرضية فأكرم رجال الوفد.

على أن ابن طولون لم يكن يتسامح أبداً إذا تأكد من عيونه أن بعضهم يمالئ عليه أو يقول فيه ما يكره، وهنا ينقلب ذلك الرجل الورع الناعم إلى جبار عنيد، فقد جاءه "أصحاب الأخبار" بأن أحمد ألمدائني صاحب موسى بن بغا يبسط لسانه في ابن طولون في مجالسه الخاصة، فاعتقله وعرضه على العذاب فقتله وصادر أمواله، وكان موسى بن بغا خصماً لابن طولون في بغداد..وكان ابن شعرة من أصحاب ابن المدبر خصم ابن طولون. وكان يتندر على ابن طولون في مجلس ابن المدبر،وتجيء أخباره إلى ابن طولون فيحذره، ولم يرتدع ابن شعرة، بل سخر من ابن طولون وقلده في هيئته وفي طريقة كلامه حين حذره، وضحك ابن المدبر مما يحكيه له ابن شعرة، ومع أنها في مجلس خاص، إلا أن الأخبار وصلت إلى ابن طولون، فاعتقل ابن شعرة وضربه خمسمائة سوط وهدم داره وأمر بأن يطاف به في البلد على جمل، وهي طريقة "التجريس" وكانت إحدى العقوبات في القرون الوسطى.

وابن المدبر نفسه كان صاحب الخراج في مصر قبل ولاية ابن طولون عليها، ونجح ابن طولون في عزله عن الخراج، ولكن استمر ابن المدبر في الشام، واستمر يكيد لابن طولون ويكتب إلى بغداد يحذرها من أطماع ابن طولون، وكان ابن طولون قد استمال إليه مخلد صديق ابن المدبر، وجعله عيناً على ابن المدبر، فكان يكتب لابن طولون بكل تحركات ابن المدبر ضده، وأرسل بغداد يقول فيه: " إن ابن طولون قد عزم على أن يقيم بمصر خليفة، أي يستقل تماماً عن الخلافة العباسية، ويرمى ابن طولون بكل قبيح"، فأسرع ابن طولون وأرسل قائده سعد الفرغاني فاعتقل ابن المدبر وجيء به إلى مصر، فحبسه ابن طولون في حجرة مفروشة وأكرمه، فظن ابن المدبر أنه لا يعلم بمكائده ضده فاستطال في كلامه مع ابن طولون فأطلعه ابن طولون على معرفته بكل شيء عنه ، وأهانه ، وظل حبسه حتى مات كفيفاً.

وتتبعت عيون ابن طولون كل أصحاب ابن المدبر السابقين ليعرف ابن طولون هل بقوا على ولائهم لابن المدبر أم أصبحوا مخلصين له، فوجدوا رسالة لابن المدبر بعثها له ابن شعيب يعترف له فيها بكراهيته للعمل مع ابن طولون، وكان ابن شعيب يتولى الخراج لابن طولون، فعزله ابن طولون وسجنه في المطبق إلى أن مات فيه.

وكان ابن طولون يشتد في العقاب في أوقات الطوارئ بالذات، وكذلك فعل مع أتباع ابن المدبر أثناء صراعه مع ابن المدبر، وحين اشتد المرض على ابن طولون وخاف من تنـّمر الموفـّق العباسي به اشتد في تتبع المعارضة ضده حتى لا ينقلبوا عليه في ذلك الوقت العصيب، وقد جاء أصحاب الأخبار له بوشاية ضد هرثمة القائد يتهمونه بأنه قال: " توهمنا أنا نخدم إمارة ، ولم ندر أنها خلافة، إلا أنها خلافة ، وسخة مخوفة العاقبة " فاعتقله ابن طولون وصادر أمواله.

وشملت عقوباته نفراً من أنصاره لم يوافقوه على عزل الموفق، مثل القاضي بكار بن قتيبة، واعتقل آخرين لأسباب أخرى مبعثها الوشايات، مثل زياد المعدني وابن رجاء...

وأسرف في إيذاء الناس بالتهم وهو في مرضه الأخير فأضاع ما اشتهر به من العدل والإنصاف، وضاعت معه أسطورة المستبد العادل، لأنه لا يجتمع الاستبداد مع العدل أبداً ..!!.

ونجا بعض المقربين إليه من عقوباته الشديدة، وكانت عيونه تحصي عليهم أنفاسهم.. وكان ابن طولون يرتب شخصاً خفياً كل يوم يكتب كل ما يجري في قصره من أحداث وأقاويل ،ثم يعرضها عليه في آخر النهار، وبذلك يعرف ما يدور حوله، ولا يعرف أحد من المقربين إليه من ذلك الشخص الذي يراقبهم.. وكان الواسطي أقرب رجال القصر إلى قلب ابن طولون، وكان يعامله كأحد أولاده، ويضربه بيده كما يؤدب أولاده، وقد غضب منه مرة فضربه بيده ضرباً شديداً وطرده من مجلسه، فانصرف الواسطي بعد الضرب والإهانة إلى دهليز من دهاليز القصر ونام فيه على حصير صائماً، ولا يجرؤ أحد أن يقترب منه خوفاً من ابن طولون وعاتبه وأكرمه وأعاده إلى منزلته عنده.

ومع هذه الحظوة التي تمتع بها الو اسطي إلا أن ابن طولون كان لا يثق به، وكان قد جعل عيناً عليه يأتيه بكل أخباره، وقد فوجئ الواسطي بأن غلامه الأثير عنده هو جاسوس عليه وعين لابن طولون فازداد فزعه من ابن طولون، يقول الو اسطي "كنت بين يدي الأمير واقفاً أعرض عليه الأعمال إلى أن جاء نصف الليل فرأيته قد تشاغل عني بشيء آثر الانفراد به فتركته وذهبت إلى طرف الزقاق اغتنم استراحة، وكان موضعا مظلما لا يراني فيه أحد، فرأيت غلامي فلانا وهو أوثقهم عندي قد ذهب مع الأمير، وهما يعلمان أنني قد ذهبت إلى بيتي فأخذ الأمير يتكلم معه سراً نحو ساعة، ثم خرج من عنده، فكيف يطيب العيش إذا كان أبرّ غلام عندي يتجسس علىّ..؟

وكان ابن طولون إذا قلّد أحداً وظيفة جعل عليه جاسوساً يحصي عليه أنفاسه، وحين عين أحمد ابن إبراهيم الأطروش على الخراج جعل يتجسس عليه بعيونه فلم يأخذوا عليه مأخذاً. وكان الذي يتولى الخراج قبل الأطروش شخصين هما متولي الخراج أبو أيوب، ثم ابن جمعة الذي كان أميناً عليه، ولم يكتف بذلك بل جعل عليهما جاسوساً هو أبو الذؤيب. وأولئك الجواسيس كانوا ينقلون لابن طولون كل شيء عن أتباعه حتى ولو كان نقاشاً عادياً، وقد ذكروا أن حوارا جرى بين محبوب بن رجاء وحسن بن مهاجر، وقد قال محبوب لابن مهاجر : الصواب لك أن تخاف الأمير، فأسرع ابن مهاجر يقول : والله ما أخافه.. وسرعان ما وصلت الكلمة إلى ابن طولون فاستدعى ابن مهاجر وسأله عن تلك الكلمة، فقال له "هكذا قلت أيها الأمير، لأني قد استغرقت جهدي في نصيحتك وقد أمنت من جورك،فليس عندي خوف منك" فأعجب ابن طولون بإجابته وشكره..

وبعض ما نقله الجواسيس لابن طولون كان يخدم العدل، وقد حدث أن أحد قواده سلب أموال راهب في الأرياف، وجاء الراهب يشكوه عند باب ابن طولون فقابله حاجب القصر وعرف شكواه، وكان الحاجب صديقاً لذلك القائد الذي يتظلم منه الراهب، وخاف على صديقه فدفع للراهب الأموال التي أخذها منه القائد وأرضاه وانصرف الراهب مسروراً، وسرعان ما وصلت الأخبار بذلك لابن طولون فأحضر الحاجب وسأله فاعترف، فاعتقل القائد ووبخ الحاجب، واستحضر الراهب وأمر بعقوبة القائد أمامه وسجنه..

وكان ابن طولون شديداً في مراقبة قواد جيشه بالذات، وكان لا يستريح إذا كان أحدهم يبالغ في طاعته، ويعتقد أن خلفه ما يستوجب الريبة، وقد روى الفارسي ـ وهو من كبار جواسيس ابن طولون ـ أنه قال له عن بعض قواده : ابحث لي أمر فلان فمن العجب أن يضبط نفسه ولا يـُظهر شيئاً من أمره. وذهب ذلك الجاسوس إلى دار القائد فعرف أنه معتكف عن الناس يخرج من بيته إلى المعسكر ، ويعود ويغلق باب داره ولا يدخل إليه أحد، فاستأجر الجاسوس داراً بجواره وأصبح من خلالها يستطيع أن يرى ما يحدث في بيت القائد، وأخذ يتلصص عليه من السطح فرأى مجلسه مع جاريته وطعامه وشرابه، وما يفعله حين يأخذه السكر وتلعب برأسه الخمر فينطق بالحقد على ابن طولون ويتوعده بالقتل، ثم يظل يضرب الحائط بسيفه متوهما أنه ابن طولون، وجاريته تنصحه ألا يفعل وتلهيه بالخمر، وعاد الجاسوس إلى ابن طولون يعلم الغيب، ونطق في دهشة بما رأى، فبعث للقائد وعاتبه وأنبه وأخبره بما يجري منه في عقر داره، فبهت الرجل وظن أن ابن طولون  يعلم الغيب، ونطق في دهشته بما أضحك ابن طولون فعفا عنه وأخرجه إلى طرسوس وبعث بمكافأة إلى جاريته لتداوم على نصحه.

لذا لا تعجب إذا كان قواده وأتباعه على خوف عظيم منه. وقد كان والد المؤرخ ابن الداية من أتباع ابن طولون، واسمه يوسف بن إبراهيم ، وقد كان يتأهب لدخول داره،وإذا بمن يصيح به" أنا عائذ بالله وبك ومستجير من رجل في حاشيتك" فقال له : ومن هو .؟ قال : أذكره في سرِّك، فأدخله الدار واختلى به، فأعطاه الرجل رسالة من موسى بن بغا ـ عدو ابن طولون في العراق ـ وقال له : إنه بعثني إليك وحدك بهذا الكتاب، فصاح به يوسف ليسمع الناس : يا هذا إن جميع ما ادعيت به مائة دينار ونحن نعطيك إياها. وأعطاه مائة دينار ، وصرفه ولم يأخذ منه الكتاب، خوفاً وطلباً للسلامة، وسرعان ما أحضروه إلى ابن طولون، وقال له : ما الذي في كتاب موسى بن بغا ‘ليك؟ فقال له يوسف بن إبراهيم : والله ما قرأت كتابا قط، والذي يجب علي من حق طاعتك فقد عملته، فقال له : فلماذا لم تقبض على الرجل وتجيئني به؟ فقال له : لم يخولني الأمير بذلك لأفعله، ومن أتى شيئاً بدون إذن فهو إلى توقع المكروه أقرب، فاعتقله ابن طولون أياماً ثم أطلقه.. وما فعله يوسف بن إبراهيم دليل على مناخ الرعب الذي ساد وقتها، وربما كان ذلك الرسول الذي جاء ليوسف بن إبراهيم من جواسيس ابن طولون ليختبر ابن طولون ولاءه الحقيقي.

التجسس على المعتقلين السياسيين في السـجـن

 وضحايا ابن طولون وجهازه السري دخل بعضهم السجن المشهور باسم المطبق.. وفي داخل السجن لم يرحمهم من جواسيسه. يروي ابن أيمن أن ابن طولون طلب منه أن يحضر له شخصاً يصلح لمهمة خاصة، فاختار له شاباً ذكياً يصلح ودخل به على الأمير، فتأمله ثم استدناه منه وتكلما في خفوت، ثم دعا المير بالسياط وأمر بضرب الشاب عشرين سوطاً وبعدها أرسله مسجوناً للمطبق، ورجع ابن أيمن حزيناً ولم يجرؤ على الاستفهام ، وأخبر أسرة الشاب بأن الأمير أرسله في مهمة خاصة وأعطاهم خمسين ديناراً من ماله. ثم مر شهر وكان ابن أيمن قي مجلس ابن طولون فجيء بالشاب وقد اتسخت ثيابه وطال شعره ، فتكلم مع الأمير في السر ، ثم أمر ابن طولون ضربه عشرين سوطاً وإعادته للمطبق، فازداد ابن أيمن حيرة وحزناً، وبعدها بشهر قال له الأمير ابن طولون : إن الفتى قد رجع من مهمته فاذهب إلى لقائه، فسافر ابن أيمن وتلقى الشاب عند عين شمس فرآه في مركب هائل ونعمة ظاهرة فسأله عن أمره، فأخبره بأن ابن طولون أسر إليه حين قابله لأول مرة بأنه يريد التجسس على مساجين المطبق، وأنه عزم على إيذائه حتى يكون سبباً وجيهاً، ولذلك ضربه بالسياط ودخل المطبق في صورة ذليلة، وكان الأمير يرسل إليه كل يوم شيخاً على أنه من أقاربه فيتحدث معه ويعطيه تقريراً عن أحوال السجناء، ثم خرج من السجن بعد شهر، فقال له ابن طولون إنه اعتقل قوماً آخرين ويريد أن يعرف حالهم داخل السجن، فأعاده إلى المطبق بنفس الطريقة والهيئة ، ورأى في السجن عشرة من الوافدين كان منهم القائد والعامل والكاتب و الصاحب، فأتى بخبرهم لابن طولون ثم كانت مكافأته أن أعطاه عشرة آلاف درهم وألفي دينار وأحمالاً من الثياب والأفراس، وأمر بأن يسافر إلى عين شمس ويعود منها بهذه الهدايا كالمسافر العائد..

التجسس على المعارضة من الناس

كان المصريين الأقباط بعيدين عن شئون السياسة والحكم منشغلين بأمور معاشهم، فانحصر الاهتمام بالسياسة بين العرب والفرس والترك، سواء منهم من استوطن مصر أو من قدم إليها في معية الولاة، وإذا كان بعض أولئك قد انخرط في سلك الوظائف مع ابن طولون وسايره أو خادعه، فإن البعض الآخر انصرف إلى أمور معاشه طلباً لراحة البال، ولكن كانت عيون ابن طولون تحصي عليه أنفاسه، فإذا صدر منه قول أو خيف منه كانت العقوبة من ابن طولون أسرع، وكانت أيضاً أعنف وأقسى..

وقد كان بعضهم ممن يؤثر السلامة يعمل بالتجارة ، وقد اشترى أحدهم خادما من تركة ابن مفضل بعد مصادرة أمواله، وحصل التاجر على جواز سفر للخادم الذي اشتراه، وخرج به إلى الشام ليبيعه هناك ، فلما بلغ العريش لم يسمح الوالي فيها بمرور الخادم لأن الجواز الخاص به ليس فيه ما يدل على هيئته بصورة كاملة، فاعتقل التاجر والخادم وبعث الوالى إلى ابن طولون يستأمره فأمره ابن طولون بان يبعث بهما إليه في الفسطاط وجيء بهما إليه وحقق معهما ابن طولون فأمر بأن يكتبوا للخادم جواز سفر جديداً، وتبرم التاجر من أنه تكلف السفر عودة وذهاباً للعريش بدون جريرة، فأمر له ابن طولون بعشرة دنانير تعويضاً ، فأخذها دون أن يشكر ابن طولون ، وتمتم أثناء ذهابه ببعض الاحتجاج ، وسرعان ما وصلت إلى ابن طولون فاعتقله في المطبق، ثم أمر بعدها بإطلاق سراحه.

وحين وافاه المرض الأخير أحجم الناس عن الكلام خوفا من شدة المراقبة السرية، وحدث أن سرت إشاعة بموته في السوق ، فقال أحد التجار "فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين" وسرعان ما قام رجل كان يجلس معه وغاب ثم عاد ومعه خمسة رجال أخذوا التاجر إلى القصر حيث تلقى الإهانات ثم عرضوه على ابن طولون، وكان في لحظة خشوع وخوف من الله ، فسأل التاجر : هل أسأت اليك .؟ فاعتذر له التاجر بأنها فلتة لسان، فعفا عنه.

على أن تلك النهاية السعيدة لذلك التاجر تخالف ما حدث لجماعة من المعارضة السياسية كانوا يجتمعون على بغض ابن طولون وكراهيته، وعلم ابن طولون بخبرهم وأراد أن يستوثق منه، وأراد في نفس الوقت أن يستوثق من إخلاص أحمد بن محمد الكاتب فأرسله جاسوساً عليهم وهو يعرف أنه يكره هذه المهمة، ونترك ذلك الكاتب يحكي تجربته لنعايش معه جوّ الإرهاب في ذلك الوقت، يقول : " أتاني رسول أحمد ابن طولون وقد مضى من الليل أكثره وأنا نائم في فراشي فقرع بابي قرعاً عنيفاً، فأشرف عليهم عيالي فإذا جماعة من الغلمان بالشمع والمشاعل، فراعهم ذلك وعرفوني فأشرفت عليهم، فعلمت أنه لم يستدع حضوري في ذلك الوقت لخير، فأيست من الحياة فدخلت المستراح(المرحاض) وتطهرت وتطيبت كمن يفارق الدنيا ولبست ثياباً نظيفة، وقلت : تكون مشيئة الله ، وودعت أهلي وقد كثر بكاؤهم وضجيجهم، ونزلت إليهم فركبت معهم، فمضوا بي حتى دخلت إلى أحمد ابن طولون".. ثم يتحدث الكاتب عن المهمة التي كلفه بها  ابن طولون وقوله له " أنت غداً في  دعوة فلان، ومعك في الدعوة فلان وفلان" ويقول الكاتب " وأسمى لي جميع من كان قد وقع الاتفاق على حضوره وقال : امض واحذر أن يفوتك شيءٍ مما جرى حتى تبينه وتنصرف به إلى تـُعَرِّفْنِيه، فقلت السمع والطاعة لأمر الأمير أيده الله.." وخرج الكاتب متحيراً يقول لنفسه "أَبَعَد هذا السن أركب الآثام وأسعى بقوم بيني وبينهم مودة وعشرة وأخوة وأكون السبب في قتلهم وإتلاف نعمتهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، وتأملت الحال فإذا بي إذا خالفت أمره قتلني وأيتمت ولدي وأرملت زوجتي وإني غير مختار، ثم فكرت في وقوفه على الدعوة وعلى حالها وعلى من يحضرها فازداد خوفي منه وحذرني ، وعدت إلى منزلي وقد يئسوا مني فلما رأوني تباشروا بي وحمدوا الله. ورأوني رجعت إليهم من الآخرة ووهبني لهم هبة جديدة، فلما أصبحت وتعالى النهار جاءني رقعة صديقي صاحب الدعوة يسألني أن أقدم إليه، ففعلت وأظهرت أن بي عسر البول، وحضرت الجماعة التي أسماهم لي ابن طولون، فكنت كلما سمعت شيئاً يجب أن أثبته أريهم أني أقوم إلى المستراح(المرحاض) فإذا حصلت فيه كتبت كل ما جرى ، ولم يكن للقوم منذ وقت حضورهم إلى وقت انصرافهم حديث إلا ذكر أحمد ابن طولون بكل قبيحة وعظيمة والابتهال إلى الله جل اسمه بالدعاء عليه وتمكين الموفق(العباسي) منه، كل ذلك لأمن بعضهم من بعض والثقة بهم، ولما في قلب كل واحد منهم منه، فلم أزل أكتب كل ما يقوله واحد واحد، ـ وفي قلبي من ذلك ما قد علمه الله عز وجل ـ إلى بعد العتمة، وانصرفت الجماعة وكنت آخر من انصرف، فجئت من توي إلى أحمد ابن طولون كما أمرني ، فأخذت إليه فأصبته على تلك الحال وهو كالمنتظر لي.. فقال : هات ما معك. فلما استوفى قراءتها، قال لي بارك الله عليك خذ ما تحت المصلى فمددت يدي وأنا أرتعد وأقدر أنها أفعى وقد أعدها لي تضرب يدي فتأتي على نفسي، فأصبت رقعة فقال لي : اقرأها، فقرأتها فإذا فيها جميع ما كتبته، ما غادرت منه حرفاً واحداً، وإذا به قد بعث معي واحداً من القوم الذين كانوا معنا في الدعوة لا أعرفه، فعرفت بعد ذلك أنه كان بعض أصحاب صديقي ، وأراد أحمد ابن طولون معرفة أينا أصدق وأنصح فيما يرويه له فكانت نسختانا واحدة، فحمدت الله جل اسمه إذ لم أدع شيئاً قلّ أو جلّ حتى كتبته، وتيقنت أني لو تركت شيئاً لاستحل قتلي، فلما قرأتها قال لي : دعها وامض، وأمر لي بألف دينار فأخذتها وانصرفت، وليس لي فكر ولا عقل إلا في أصدقائي وما أتخوفه عليهم، فلما كان من غد ركبت إلى دار صديقي صاحب الدعوة لأعرف خبره فلما صرت إلى السكة التي يسكن فيها لم أر للدار التي كان فيها أثراً، ورأيت موضعها رحبة مكنوسة مرشوشة واسعة نظيفة لا أعرفها ولا رأيتها قط،وأقبلت أطلب الدار فلا أراها بوجه ولا سبب، فتحيرت ووقفت أتأمل الرحبة والموضع فرآني بعض شيوخ الناحية ، فتقدم إلى وقال : أراك ـ أعزك الله ـ متحيراً ، فقلت له : نعم ، أعزك الله ـ أنا أطلب دار صديق وما أراها ، ولولا معرفتي بهذا الموضع لقلت غلطت موضعها، فأخذ بعنان لجامي وقدمني ناحية وخلا بي وقال لي : امض يا حبيبي في حفظ الله، فرحم الله صديقك.. فقلت له : عرفني ما وقفت عليه لأعمله،فقال : أما خبره فما أدري كيف جرى، سعوا به إلى أحمد ابن طولون وبجماعة كانوا عنده البارحة في دعوة فلما كان في أول الليل وافى إلى هنا أكثر من خمسمائة رجل وأكثر من ثلاثمائة بغل عليها المزابل، فأنزلت الدار إلى الأرض بأسرها ونقل جميعها إلى البحر فما أصبح الصباح حتى صارت رحبة كما ترى مكنوسة مرشوشة كأنه ما كانت ها هنا دار، وغُرِّقَ صاحبها والجماعة الذين كانوا عنده، وكانوا يخرجون كل واحد منهم من منزله فيغرقونه وتؤخذ نعمته كلها، فاذهب في حفظ الله..."!!.

كراهيته لعمل الجواسيس

كانت أم عقبة الأعرابية تتمتع بحظوة عند احمد ابن طولون، وقد عرضت عليه أن يولي ابنها عملا فقلده القيام على البريد في إحدى النواحي، والبريد كان من وسائل التجسس وقتها، وبعد مدة جاءت الأعرابية إلى أحمد ابن طولون تحتج عليه أن أوكل لابنها هذا العمل، ووصفت الجاسوسية بأنها نميمة وهتك للأسرار ومقت وسب، فضحك ابن طولون، وأمر بأن يأخذ ابنها مرتبه دون أن يعمل.. ولو كان ابن طولون يرى رأياً آخر في تلك المهنة لما وافق الأعرابية على قولها وموقفها .

وقد حدث أن احدهم وشى بأبيه واتهمه بان شقير الخادم ـ عدو ابن طولون ـ قد أودع عنده وديعة مالية، ومع خطورة الأمر فلم يتخذ ابن طولون إجراء ضد الأب، وسكت عنه حتى مات، فطالب الابن بالوديعة التي ادعاها على أبيه، فلم يجد عنده شيئاً، فأمر بضربه ومات تحت الضرب، وقصد بذلك أن يعاقبه على عقوقه بأبيه، ولو كان مستريحاً لفعلته لأخذ الأب بوشاية ابنه...

وقد كان نسيم الخادم هو الذي تأتيه تقارير أصحاب الأخبار التي تتضمن الوشايات ونتج عنها القتل والمصادرة، وكان نسيم يكره أولئك الجواسيس ويلعنهم في وجوههم، وبعد أن يوصل التقرير إلى ابن طولون ويقرؤه يأمره ابن طولون بحرق التقرير بعد أن يأمر بقتل المشكو في حقه، وكان ابن طولون يثق في خادمه نسيم لذلك أوكل له مهمة حرق التقارير أولاً بأول ، وأراد أصحاب الأخبار الإيقاع به عند ابن طولون فأوهموه بأنه لم يحرق التقارير، إذ كانوا يرفعون له نسخة أخرى من التقرير على أنها الأصلية التي لم تحرق، فحقق معه ابن طولون فحلف له نسيم أنه حرق كل تقرير، فقال له ابن طولون : صدقت وقد علمت ذلك، وإنها حيلة منهم عليك في الرقاع التي أمرك بتحريقها ، لأن لي فيها علامة.. ثم قال له عن الجاسوسية وأصحاب الأخبار "وهذه يا بني صناعة رديئة ليس يصلح لها غير الشرار ومن ليس فيه خير..!!

الجهاز السري في دولة الاستبداد

ومهما يكن فقد شدد ابن طولون قبضته على مصر بواسطة البوليس العلني والبوليس السري وأجهزته على الحدود وأطراف البلاد وأبواب المدن، بحيث لم يكن يستطيع أحد اجتياز الحدود بدون جواز سفر، وقد هرب منه واحد من جهازه السري ، وخاف ابن طولون أن يهرب خارج البلد فيفشي أسراره، فبعث خلفه العيون، فأخذوا عليه كل طريق، ولم يستطع الرجل الخروج من البلد إلا بحيلة نادرة، إذ خبأ نفسه في نعش على أنه امرأة ميتة وحمل النعش بعض أعوانه، وساروا به إلى الصحراء، ولكن بسبب سوء حظه صادف ابن طولون تلك الجنازة الوهمية فاستراب فيها، وكشف النعش فإذا بالهارب فيه..

وهرب أبو الذؤيب، أحد أصحاب الأخبار، فأرسل ابن طولون خلفه الشرطة وقال لهم : لا تطلبوه في داره بالفسطاط ولا في ضيعته ولا عند أحد من إخوانه ولكن اطلبوه في الأديرة فستجدونه في زى راهب لأنه يعرب القبطية ـ لغة أهل مصر وقتها ـ ووجدوه كما وصف ابن طولون، ومعنى ذلك أن جواسيسه أنفسهم كانوا لا يستطيعون الهروب من قبضته، فكيف بالآخرين..

صحيح أن ابن طولون قد برع في استخدام ذلك النظام السري واشتدت به قبضته، ولكن ليس بالبوليس السري وحده يعيش المستبد في راحة من المكائد حتى لو كان محباً للعدل، ذلك أن العادة أن الذي يرضى لنفسه بهذا العمل يكون من شرار الناس كما اعترف ابن طولون، ولأنهم أشرار فلن يتورعوا عن الفساد إذا أتيحت لهم الفرصة، والاستبداد قرين الفساد، والذين هربوا من شرطة ابن طولون السرية استغلوا نفوذهم في الإثراء الحرام فلما انكشف أمرهم هربوا، لأنهم يعرفون أن ابن طولون لا يسمح بالفساد وإن كان يرضى لنفسه بالاستبداد، ولذلك نجح الجهاز السري نفسه في الكيد لابن طولون، حين جعلوا ابنه العباس يثور على أبيه ويخرج إلى برقة ومعه الأموال والجنود حين كان أبوه يحارب خصومه في الشام،وأخمد ابن طولون ثورة ابنه بصعوبة هائلة وقتل أتباعه، ولكن الجهاز السري ما لبث أن جعل أحب غلمان ابن طولون ينقلب عليه، وهو لؤلؤ قائد جيشه بالشام..وإن كانت قوة ابن طولون جعلته يتمكن من القضاء على تلك النوازل ويتخطاها إلا أن أولاده كانوا أقل منه كفاءة فاندثرت دولتهم، وبقي لنا منها الدرس ، فالنظام السري للحاكم المستبد لابد أن يكون مركز قوة يشارك الحاكم المستبد في السلطة والثروة، والحل هو في الديمقراطية والعدل.  

هذه المقالة تمت قرائتها 3946 مرة

التعليقات (3)
[51020]   تعليق بواسطة  ميرفت عبدالله     - 2010-09-08
أسطورة المستبد العادل

يصعب أن نجد مستبدا ويتسم بالعدل فالعفو والتسامح من شيم العدول , ولكن أحمد بن طولون من خلال ما قرأنا عنه وعن هذا الكم الهائل من الجواسيس التي كان يزرعها على كل من يعمل معه وعلى كل أصدقائه ومعارفه يصعب أن نطلق على هذا الرجل المستبد العادل >


فمن خلال هذه الفقرة على سبيل المثال نستنتج بعض.من خصاله التي تنافي ما كان يعرف عنه من عدل"على أن ابن طولون لم يكن يتسامح أبداً إذا تأكد من عيونه أن بعضهم يمالئ عليه أو يقول فيه ما يكره، وهنا ينقلب ذلك الرجل الورع الناعم إلى جبار عنيد، فقد جاءه "أصحاب الأخبار" بأن أحمد ألمدائني صاحب موسى بن بغا يبسط لسانه في ابن طولون في مجالسه الخاصة، فاعتقله وعرضه على العذاب فقتله وصادر أمواله"، انتهى


فأين العدل وهو يعتقل ويحكم بالقتل على من يبلغه عنه أنه تهاون أو قال فيه ما يكره أوسمح بأن يذكر ابن طولون في مجلسه بطريقة لا ترضيه 

 

 

[51033]   تعليق بواسطة  نورا الحسيني     - 2010-09-09
الغنى يحتاج لتدرج وإلا قتل صاحبه

هذه الحكمة الطولونية التي قالها أحمد بن طولون وهى من الأقوال المشهورة عنه في مصر .


فقد ورد في سيرة أحمد بن طولون لابن الدَّاية أنه ركب ذات يوم قاربه ‏فاجتاز به شاطئ النيل فوجد شيخًا صيادًا عليه ثوب خلق لا ‏يواريه، ومعه صبي في مثل حاله من العُرْي وقد رمى الشبكة في ‏البحر.‏ فرثى لهما أحمد بن طولون، وقال لنسيم الخادم: ‏" ‏ يا ‏نسيم، ادفع إلى هذا الصياد عشرين دينارًا". ثم رجع ابن طولون عن الجهة التي كان قصدها واجتاز موضع ‏الصياد (في رحلة العودة) فوجده ملقى على الأرض وقد فارق الدنيا ‏والصبي يبكي ويصيح. فظن ابن طولون أن شخصًا قتله وأخذ ‏الدنانير منه، فوقف بنفسه عليه وسأل الصبي عن خبره فقال ‏الصبي: ‏"هذا الرجل ـ وأشار إلى نسيم الخادم ـ وضع في يد أبي ‏شيئا ومضى، فلم يزل أبي يقلبه من يمينه إلى شماله ومن شماله إلى ‏يمينه حتى سقط ميتًا". ‏‏فقال ابن طولون لغلمانه:" فتشوا الشيخ".‏ ففتشوه فوجدوا الدنانير ‏معه، وأراد ابن طولون أن يعطي الدنانير إلي الصبي فأبى، وقال: "‏ أخاف أن تقتلني كما قتلت أبي".‏ فقال أحمد بن طولون ‏لمن معه:" الحق معه، فالغِنَى يحتاج إلى تدريج وإلا قَتَل صاحبَه".


فهل في عصرنا يحدث من الممكن أن تحدث مثل هذه القصة ،


أعتقد أن الأحوال تغيرت ولم يعد للعملة هذا القدر من الخوف والتقدير و التوقير إلا في حالة من يعبدون المال ويعتبرونه غاية في حد ذاته .


 

 

[51042]   تعليق بواسطة  محمد عبدالرحمن محمد     - 2010-09-09
بين عزب شو وابن شعرة ....

  1.  الشكر والتقدير للدكتور صبحي منصور على هذا  البحث التاريخي  المتنكر في صور مقال عن شخصية ابن طولون  ذلك الحاكم المصري الذي حكم مصر هو واسرته خمس وثلاثين سنة وتعتبر هذه الفترة وجيزة جدا بالنسبة للدول التي حكمت مصر كالأيويبية والفاطمية والمملوكية  الخ .. لكننا نتعلم مع الدكتور منصور المقارنات  بين الأحداث والشخصيات وربما ذلك يجعل المستبدين غاضبين و غير مبسوطين !

  2.  ومع القراءة  والمتعة والمقارنة نجد ان شخصية ابن شعرة صديق ابن المدبر الذي كان يكره ابن طولون وهو بالعراق  وعلى نهجه صار ابن شعرة ذلك المعارض المرح الفكاهي الذي يسخر من الحاكم المستبد بطرقه الخاصة من الكوميديا والفكاهة والهزل وهذه  طرق المعارضة والنقد التي تعجب الكثير من الجماهير في مختلف الأمكنة والأزمنة .

  3.  ونجد اليوم عندنا موهبة في السخرية وتقليد الشخصيات العامة وهو ( الفنان ( عزب شو) هذا الفنان الهزلي الذي يقلد كبار رجال الفن والفكر والاعلام بطريقة  مبتكرة وهادفة وناقدة في العمق بل يحتاج الى كاتب ساخر مثل لينين الرملي أو على سالم  لصقل الموهبة .

  4.  لكن المدهش أن عزب شو أكثر حرصا من ابن شعرة فقد اقترب ابن شعرة من عش الدبور الأكبر ابن طولون وقلده وسخر منه ونقده فكان ما كان من ابن طولون من ألقاء القبض على ابن شعرة وجلده خمسمائة جلدة وتجريسه فوق جمل يطوف به مصر وقتها ..

  5.  كان ابن شعرة أكثر صدقا في استغلال موهبته في نقد الحاكم المستيد العادل  ابن طولون  كما يظهر من سيرته المؤرخة!

  6.  أم ابن عزب المعاصر المعروف ب (عزب شو) فهو حريص أقرب الى الجبن منه الى الحذر  لم يخطر بباله أن يقلد  الفرعون المعاصر ويلبس باروكة تعطينا المزيد عن شخصه الهزلي الديكتاتوري ! وابن عزب يعلم ما يمكن أن يحيق به في ظل هذا الدكتاتور الناعم على يد بوليسه السياسي أو بوليسه السري _ جواسيس أمن الدولة_  ولذلك هو لم يقع مثل ما وقع فيه ابن شعرة .