لست كذلك

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٤ - أغسطس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

نص السؤال
اسمح لى بكلمة موجزة أقولها - أتمنى أن تجد لها صدى فى نفسك . أولا: لو سألنا - من هو فيلسوف المسلمين فى هذا الزمان ؟ ترى ماذا ستكون الاجابة ؟ لو استمعنا لرأى أساتذة الفلسفة الكبار فى جامعة القاهرة عندنا فسيقولون بأننا على طول تاريخنا وعرضه لم نشهد فيلسوفا واحدا سوى المرحوم ابو الوليد ابن رشد - وأما بقية القائمة فليسوا بفلاسفة بالمعيار العالمى لكلمة فيلسوف كابن سينا والكندى والفارابى وغيرهم. أليس هذا محزنا للنفس والضمير ؟ ..هل نحن حقا محرومون من تلك النعمة الربانية النادرة ؟ وحظيت بها شتى الأمم الأخرى غير المسلمة ؟ ..يقول أساتذة الفلسفة بكل نطاعة - آه - محرومين منها ومعندناش فلاسفة وفضوها سيرة خلينا ناكل عيش .! ..ومعنى خلو أمة الاسلام صاحبة النبوة الخاتمة فى ماضيها وحاضرها من ملكة الفلسفة أن هناك خطأ ما - فإما أن تكون الفلسفة ذنب كبير وخطيئة تكرهها السماء وتصرفها صرفا عن فطر وعقول ونفوس ومشاعر المسلمين - وإما أن المسلمين مخطئون وعلى ضلال من أمرهم .. والاحتمال الثانى هو الأرجح.. ثانيا: فى رأيي الشخصى أن فيلسوف هذا الزمان فى ديار الاسلام هو أنت - وربما تسألنى على أى مقياس أطلقت هذا الحكم - وأقول لك .. لأنك أتيت بالجديد الجرىء - ولأنك ماض فى هذا لا يثنيك عنه شىء ، ولأنك أخذته منذ البدء مأخذ جد وخطر لا مأخذ رياء و لهو فتكبدت فى سبيله صنوف العنت وإذا بك فى النهاية مشرد طريد من بلادك - ومع هذا فأنت ثابت على الدرب لا تبالى ، أنت اذن شخص خاص جدا - شخص غير عادى . أرجو أن تتجرد تماما لله وأنت تقرأ كلماتى كما فعلت أنا ..يا سيدى - أنت فى غربتك تلك أشد قوة وأكثر تحررا منا نحن المكبلون بالأغلال . لماذا لا تغلق ملف المذهب القرآنى هذا - مكتفيا بما قدمته فى سبيله - وتبدأ فى اكتشاف أرض فلسفية جيدة فى دنيا الله الواسعة . لقد كفيت ووفيت بحق هذا المذهب واستقرت لك الريادة فيه - فهل أنت جاهز للقبر ؟ .. عندما كنت فى جامعة أريزونا - كنت أقضى الليل والنهار فى مكتبة الجامعة أنكفىء على منضدة صغيرة بجوار نافذة عملاقة تطل على ساحة خضراء هائلة فى خلفيتها على مرمى البصر جبال زرقاء عظيمة أنعم بهدوء شديد وهواء مكيف - وأمرح فى مغامرات فكرية لا أول لها ولا آخر .. وبين يدى ومن خلفى كتب ودوائر معارف وبحوث ومصادر من المعرفة كالمحيط الهائل ، وعندما كنت أتعب - كنت أترك أشيائى فى أمان وأنزل الى مطاعم الجامعة الأنيقة أتناول أشهى المأكولات وأحمل معى زجاجة البيبسى وأعود الى المكتبة. كان مرأى المرح والسعادة على وجوه الطلاب والطالبات وفى ملابسهم وحركاتهم يملأنى بالحيوية والفرحة فأشعر كأنى واحد منهم ، والآن وأنت فى أوائل الستين - ما هو قرارك ؟ هل قرارك هو انتظار الموت - باعتباره سيأتى فى الثالثة والستين وما حولها ؟ هل تنتظره بتلك السلسلة من المقالات - تريد أن تلقى بها وجه الله ؟ أغلق ملف المذهب القرآنى - واخرج الى أرض جديدة . لا شك أن بالقرب منك جامعة بها مكتبة كالتى كنت أقضى فيها أمتع أوقات العمر . كان زكى نجيب محمود أيام دراسته فى جامعة لندن يفعل مثلى (أو أنا فى الواقع الذى قلدته) - كان شبه مقيم فى المكتبة واستطاع بلورة مذهبه الذى قضى بقية حياته شارحا له فى فترة وجوده فى تلك المكتبة ، ستجد فى المكتبة من هم فى مثل سنك ومن هم فى السبعينات والثمانينات من أعمارهم يبحثون وينقبون . ثالثا : - ما هى هذه الأرض الفلسفية الجديدة ؟ . إن عالمنا العربى والاسلامى هو مقبرة فكرية هائلة .؟... فمهما كانت فكرتك جديدة جريئة فهى ستموت كالبذرة التى تلقى فى أرض رملية جافة ملتهبة . إنما تنمو البذور وتنبت فى الأرض الخصبة الغنية - هناك فى الغرب حيث أنت .. فلا شك أن فولتير العرب الحقيقى ينبغى أن يكون احمد صبحى منصور وليس امرأة فارغة الرأس كوفاء سلطان . ولكن ما هى بضاعة هذا الفولتير ؟ - لا يمكن ان تكون بضاعته هى ذلك المذهب القرآنى - فالمذهب القرآنى والاسلام برمته بالنسبة للغرب وللعالم بأسره صار مشكلة أمنية مقلقة ومقرفة ومزعجة . ومن السخف أن تكون كل بضاعة المفكر وكل ما تنهض به همته هو أن يكتب ويكتب ويكتب شارحا ومبينا كيف أن هذا الاسلام الذى يراه العالم ليس هو الاسلام الحقيقى - كما أراده الله تعالى ، كلام فارغ . يعنى باختصار كأنه عايز يقول - الرسول فشل فى مهمته - والرسالة ضلت طريقها طيلة هذه الأحقاب الماضية السحيقة .. وهذا كله لا يعنى مفكرى الغرب فى كثير ولا قليل - لأن الاسلام هو الاسلام الذى يراه العالم على أرض الواقع وليس ما يتخيله شخص حالم مستلق على النجيلة يتأمل . لا نريد دفاعا أعمى غير بصير - هذا افك وضلال قديم أثبتت التجارب الطويلة فقر نتائجه عند أهل العقل والتجرد والاخلاص ، انما نريد بحثا صادقا مخلصا عن الحقيقة . عندما رأيتك تنطق لفظ الجلالة (الله) مفخما حتى وهو مجرور بحرف جر ظننتك من مرتادى قنوات التبشير المسيحية لأنهم ينطقونه كذلك - وظننت أنك ستتجه فى حياتك وجهة جديدة تفاجىء بها قومك الساخطين عليك ... كإعلانك اعتناق الديانة المسيحية !!!! - أو أن تتجه بقوة وعزيمة لا تلين للتصدى لتلك الجبال الضخمة من الشبهات التى يبثها المنصرون فى نفوس مشاهديهم من المسلمين فى أرجاء العالم مستغلا مذهبك القرآنى العتيد (وإلا فما قيمة هذا المذهب وما حاجتنا به ان لم يفعل ذلك ؟) ... فهل هناك ما هو أشرف ولا أعظم من تلك المهمة التى تسد بها ثغرا كبيرا يخرج منه (وسيخرج منه ) الناس من دين الله أفواجا - سرا وجهرا . من هو المسيح ؟ وما هو كتابه ؟ وما هى تلك التعاليم التى تركها ؟ وكيف تقع من تعاليم ديننا موقع التناقض والتضارب بهذا الشكل المثير ؟ هل يمكن أن تترك للأجيال ما تهتدى وتستضىء به حقا فى ذلك الأمر - وأنت أكثر الناس قدرة على الاتيان بأعمال جليلة جريئة باقية ؟ هذه الرسالة أكتبها لك وانت لا تعرفنى - ولست ممن يفرضون صحبتهم على أحد - ولست ممن يحبون الجدال والثرثرة .. فهو خاطر وأمانة وجدت نفسى أحمله فى عقلى تجاهك فكتبته لك - لا أبتغى به سوى وجه الله . لا تفكر فى الموت - فاعمل وجاهد لله كأنك تعيش أبدا - فقد يستخدمك الله فى أمر عظيم ليس فى حسبانك ولا فى خططك الآن . والله يرعاك ويحفظك ويفتح عليك من ينابيع حكمته وعلمه وبركاته .
آحمد صبحي منصور

مع احترامى لك ولما تفضلت به من نصيحة ، ومع تقديرى لاهتمامك بشخصى الضعيف ووصفك لى بما لا أستحقه فاسمح لى بالقول بأننى رسمت طريقى لنفسى من بداية تكوينى العلمى ، بل وحتى قدرت أننى سألقى متاعب قد تعوقنى بعض سنوات عن تحقيق ما أريد فى الاطار الزمنى الموضوع ، وأخطأت فى تقديرى فلم أكن أتصور أن تصل المعاناة الى الطرد من الجامعة و السجن و التشرد . ولا زلت حتى الآن ماضيا فى طريقى ، راجيا أن أظل عليه الى آخر طرفة من عينى ..

كمؤرخ وباحث ودارس للتاريخ وعاشق له أعرف أننى مجرد شاهد على العصر الذى أعيشه ، هو ليس عصرى لأننى شاهد خصم له وهو منكر لى  . العصر القادم هو الذى أتوقع أن يكون منصفا لى ، هو الذى أتوقع أن يكون هو عصرى ، والذى أتمنى أن أجد فيه الانصاف بعد موتى بعدة عقود. ولذا فأنا دائما أخاطب قارئا فى ضمير الغيب لم يوجد بعد ، وأنقل له عصرى وأحداثه ومعاناتى فيه و أبحاثى وأفكارى التى ستكون متداولة و تحظى وقتها بالقبول ـ بل ربما سيستغرب الأحفاد من خبل و حمق أجدادهم فى عصرنا هذا.

ليس هذا هو السبب الوحيد . هناك سبب أعظم وأسمى ..هو الايمان باليوم الآخر .هذا الايمان باليوم الآخر هو الذى أعطانى القوة و العزيمة والتحمل والصبر. فيه سينال الظالم عقابه وينال المحسن ثوابه . وأملى أن يكون جهادى السلمى فى تبرئة الاسلام من جرائم المسلمين هو جواز مرورى الى الجنة ونجاتى من النار. أملى أن أنجح فى نشر كل ما تبقى لى من مؤلفات ، وأن أستكمل ما لم يتم منها حتى تنتهى مهمتى على خير فى هذه الحياة.

 . .على الله جل وعلا التوكل ومنه جل وعلا العون

اجمالي القراءات 10449