هو الجشع الذى يدمر صاحبه والآخرين ، فإذا جاء الجشع من الحاكم وزمرته واستغل سلطته فى جنى الأرباح فقد حاق الخطر بنظامه وحياته لأن ذلك هو حضيض الفساد.
وهذه الحقيقة أدركها بعض الحكام في تاريخنا السالف .. ففي الأزمات والشدائد حين يشاع انخفاض النيل مثلاً كان التجار يسارعون بإخفاء الغلال والحبوب فيخلقون غلاء مصطنعاً يتضاعف حين يسارع كل مستهلك بتخزين ما يستطيع من الضروريات : عندها كان الحكام الراشدون يضربون على يد التجار ، ويغرقون الأسواق بالمخزون لديهم من الغلال في "الاهراء السلطانية" أو المخازن الحكومية..وبعدها يهبط السعر وتزول تلك الأسعار الخيالية الوهمية , ولو تركوا الأمر لجشع التجار لأجاعوا الفقراء ليملأوا خزائنهم بالسحت من الأموال .
وهنا تبدوا العلاقة بين السعر والقسط..فالسعر للسلعة إذا ارتبط بالقسط أي بالعدل . وحقق هامش ربح معقول للمنتج والتاجر الوسيط فقد أخذ كلاهما حقه نظير عمله بالعدل والقسط .. فإذا حدث خلل أو فساد في السوق بالاحتكار أو باستغلال النفوذ تحول التاجر الوسيط إلى حوت مفترس , يأخذ السلعة من المنتج بأرخص الأسعار واحتكر الشراء واحتكر البيع ، واعتصر دماء المنتجين والمستهلكين لتتضخم أمواله, وحين يكون ذلك التاجر المستغل مجموعة من الحيتان تساندها مجموعة أخرى من الأعوان فإن الفجوة تكون هائلة بين من يملكون كل شيء , ومن لا يملكون أي شي ، وتضيع العدالة وينفجر المجتمع من الداخل لأن الجوع كما يقولون كافر ..
ولذلك فإن الحكام في تاريخنا السالف كانت عيونهم على الفقراء في الأزمات والشدائد ، ليس لمجرد الشفقة والإحساس والتمسك بأهداف الدين الحنيف ولكن أيضاً خوف الفتن إذا ازدادت الأسعار والضرائب ، والضرائب لم يكن يدفعها التجار في الحقيقة لأنهم في النهاية يحملونها فوق كاهل المستهلك عن طريق الغلاء ورفع الأسعار ، وذلك ما كان العوام يدركونه بفطرتهم،وبسبب ذلك كانت ثورتهم إذا تغيرت العملة للأسوأ أو زادت الضرائب .
لقد كان من وظائف المحتسب في تلك الأيام الخوالي ضبط الأسعار ومراقبة الموازين والكشف عن صلاحية السلع ومدى جودتها،وكان يقوم بالضبطية القضائية ومحاكمة المتهمين ومعاقبتهم في نفس الوقت ، أي كان يقوم بالسلطات الثلاث معاً ، وذلك حتى يردع التجار ويضبط حال الأسواق .وكان ذلك هو اجتهادهم في السيطرة على الأسعار حرصاً على أحوال الفقراء والعوام .
وكانوا بذلك يحاولون ــ وفق معايير عصرهم ــ تطبيق التشريع القرآني الذي يأمر بالقسط في التعامل وفي الميزان وفي البيع والشراء ، وكان يحتكم إلى العرف والمعروف في تطبيق ذلك القسط على أرض الواقع فالضمير الإنساني والشعور الجمعي " يتعارف " على أن ذلك قسط وعدل وذاك ظلم وغبن ومن المقاصد التشريعية في القرآن والتي تنتهي إليها الأحكام آيتان تأمر أحداهما بالقسط " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " الحديد 25 وتأمر الأخرى بالتمسك بالمعروف أو العرف " خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين :الأعراف199" فالقسط مبدأ نظري ولكن تطبيقه واقعاً يستلزم أمراً بالمعروف أو المتعارف عليه أنه عدل وقسط وإحسان،ويستلزم نهياً عن المنكر،وإذا ظل القسط مجرد شعار بعيد عن التطبيق ساد الظلم وانفجرت الثورات التي تأكل الجميع والأخضر واليابس وذلك ما حذر منه رب العزة جل وعلا حين قال " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، واعلموا أن الله شديد العقاب :الأنفال 25"