القرآن غير المقتبس
3 - نصارى في المدينة ؟

محمود علي مراد في الثلاثاء ٣١ - يوليو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

3 - نصارى في المدينة ؟

القرآن غير المقتبس

وردت في القرآن الكريم معلومات عن خلاف ديني ثلاثي الأطراف بين اليهود والنصارى والمسلمين. ويدور هذا الخلاف حول طبيعة المسيح، ومسألة ما إذا كان رجلاً كسائر البشر، أو إلهاً، أو نبياً، وما إذا كان قد صُلب، وحول صحة رسالة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. وفيما يلي تصوير هذا الخلاف كما جاء في القرآن الكريم:

( أ )

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿253﴾[البقرة]

(ب)

أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿74﴾مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿75﴾[المائدة]

القرآن الكريم إذاً يعتبر المسيح عيسى بن مريم رسولاً، ولكنه لم يكن رسولاً كغيره من الرسل، فقد وُلد بمعجزة من غير أب ولهذا فهو يحمل اسم أمه. وكان كذلك رسولاً يأتي بمعجزات: 

(ج)

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿110﴾[المائدة]

وقد اتبع فريق من اليهود المسيح عليه السلام فأصبحوا نصارى، ولكن فريقاً آخر لم يعترف به كرسول ولا بالمعجزات التي أتاها بإذن الله. وكان هؤلاء يعتبرونه رجلاً كسائر الرجال، يمارس السحر.

( د)

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿6﴾[الصف]

(ه)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ …﴿14﴾[الصف]

على أن النصارى، من جانبهم، لم يكونوا يعتبرون المسيح رسولاً، بل كانوا يعتبرون أنه الله، الأمر الذي كان القرآن الكريم يرفضه رفضاً باتاً.

( و)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنصَارٍ
﴿72﴾[المائدة]

( ز)

قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿17﴾[المائدة]

وكان أيضاً، بالنسبة للنصارى، ابن الله، الأمر الذي يشجبه الإسلام بالقوة ذاتها:

(ح)

وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿30﴾[التوبة]

وكانوا أخيراً، يرون، أنه ثالث ثلاثة، الأمر الذي نفاه القرآن الكريم:

(ط)

لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿73﴾[المائدة]

ومن نقاط الخلاف الأخرى مسألة صلب المسيح، فقد كان اليهود والنصارى يقولون إنه قُتل وصُلب، أما القرآن فيكذب هذا القول تكذيباً قاطعاً.

(ي)

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴿156﴾وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿157﴾بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿158﴾ [النساء]

وأخيراً، فقد انصبَّ الخلاف الديني بين الجماعات الثلاث على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الرسالة التي يقول القرآن الكريم إن ما نـزل من الكتاب قبله قد بشَّر بها.

( ك)

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنـزلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  ﴿157﴾[الأعراف]

وقد بشر به المسيح كذلك بعبارة أكثر تحديداً:

( ل)

وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ …﴿6﴾[الصف]

الأمر الذي كان اليهود والنصارى لا يُسلِّمون به.

وقد شجرت حول هذه المسائل المختلفة خلافات شديدة خلال الفترة المدنية، والآيات التي تشهد بذلك في القرآن الكريم عديدة. لذلك كان طبيعياً أن يكثر هذا الكتاب الذي يقول إنه جاء بالحنيفية النهائية في هذه المسائل من الحجج ضد ما يقول به اليهود والنصارى، مع الاستمرار في حملاته ضد الشرك والوثنية. على أن ظهور الإسلام في المدينة - وهذا أيضاً شيء طبيعي - قد أوقد جذوة الخلافات الدينية القديمة بين اليهود والنصارى. والقرآن الكريم يتحدث عن ذلك:

( م)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿113﴾[البقرة]

كذلك يتحدث القرآن الكريم عما كان اليهود والنصارى يقولونه بعضهم عن البعض وعن موقفهم حيال المسلمين:

(ن)

وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴿111﴾[البقرة]

(س)

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَّلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴿120﴾[البقرة]

(ع)

وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿135﴾[البقرة]

(ف)

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿140﴾[البقرة]

(ص)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء …﴿18﴾[المائدة]

ولابد أن الخلاف الديني قد تمخض، في وقت من الأوقات، عن أعمال عدائية ضد المسلمين من جانب المجموعتين الأخريين، مما استدعى توجيهاً قرآنياً في قوله تعالى:

(ق)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿51﴾[المائدة]

ومع ذلك، ونظراً إلى أن النتائج المترتبة على تقدم الإسلام في المدينة لم تؤثر بنفس الدرجة على مصالح اليهود والنصارى، فقد نشأ فيها وضع وصفته الآية التالية:

( ر)

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴿82﴾[المائدة]

على أن رضاء القرآن الكريم عن النصارى لم يكن رضاء بدون تحفظ، فإنه يقول في معرض حديثه عن السيد المسيح عليه السلام:

(ش)

فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ (أي من النصارى)أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿27﴾[الحديد]

والقرآن الكريم يتساءل بشأن هذه الفئة الأخيرة:

أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  ﴿74﴾[المائدة]

وأخيراً فإن القرآن الكريم يصر على نقطة جوهرية: كون الشخص فاضلاً أو سيئاً لا يتوقف على كونه مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً. والله لا يحكم على الناس حسب انتماءاتهم الدينية. ومعيار الاستحقاق ليس جماعياً، بل هو فردي، وقد جاءت صياغته في الآية التالية:

(ت)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿62﴾[البقرة]

المحصِّـلة

حين نقرأ في القرآن الكريم: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"، أو: "وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ"، أو: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ"، أو: "وَقَالَتَِالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، يثور أمامنا سؤال: عن أي نصارى تتحدث هذه الآيات؟ عن نصارى عصر السيد المسيح؟ عن نصارى وفد نجران؟ أم عن نصارى كانوا يعيشون في المدينة في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟

لنستبعد أولاً  نصارى وفد نجران. لأن هناك، للأسباب التي أوردناها، شكوكاً كبيرة في مصداقية رواية ابن إسحاق بشأنهم، ثم لأن النص لا يقول إن النصارى الذين ورد ذكرهم في الآيات التي لم يقتبسها كانوا أولئك الذين كان يتكون منهم الوفد المذكور.

ومن الآيات الكريمة التي أوردناها، والتي لم يقتبسها مؤلف السيرة، آيات تتحدث عن نصارى العهد الأول، ولكن منها أيضاً آيات لا تتحدث عن الماضي وإنما تتحدث عن الحاضر. ويستدل على نصارى الحاضر من عبارة الآيات المذكورة، مثل:

1-      في الاقتباس (ب) [المائدة: 74]، عبارة: " أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ؟"

2-      في الاقتباس (ح) [التوبة: 30]، عبارة: "ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ".

3-      في الاقتباس (ط) [المائدة: 73]، عبارة: "وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

4-      في الاقتباس (ك) [الأعراف: 157]، عبارة: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ".

5-      في الاقتباس (ن) [البقرة: 111]، عبارة: "قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ".

6-   في الاقتباس (س) [البقرة: 120]، عبارة: "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ".

7-      في الاقتباس (ع) [البقرة: 135]، عبارة: " قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا".

8-      في الاقتباس (ف) [البقرة: 140]، عبارة: " قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه ؟ُ ".

9-      في الاقتباس (ص) [المائدة: 18]، عبارة: " قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم؟".

10-   في الاقتباس (ق) [المائدة: 51]، عبارة: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".

11-      في الاقتباس (ر) [المائدة: 82]، عبارة: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى".

12-      في الاقتباس (ت) [البقرة: 62]، عبارة: " … وَالنَّصَارَىفَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".

وفي هذه الأمثلة، يتأكد انصراف الحديث إلى عصر النبي صلى الله عليه وسلم، بعدة طرق:

أ ) بالأمر الصادر إلى محمد صلى الله عليه وسلم بطرح أسئلة على النصارى أو بالرد على بعض ادعاءاتهم، كما في الاقتباسات (ن) و (ع) و (ف) و (ص)؛

ب) بدعوة النصارى إلى مسلك معين وبتهديدهم بالعواقب التي ستترتب على عدم طاعتهم، كما في الاقتباسين (ب) و (ط)؛

ج ) بإقامة مقابلة بين الحاضر والماضي، كما في الاقتباس (ح)؛

د ) بوصف حالة العلاقات بين النصارى والمسلمين في المدينة، كما في الاقتباسين (س) و(ر)؛

ه ) بنهي المسلمين عن تجاوز حد معين في تعاملهم مع النصارى، كما في الاقتباس (ق).

وكل هذه الشواهد لا تترك مجالاً للشك في وجود مجتمع نصراني على قدر من الأهمية في المدينة.

والحاصل أننا لا نجد في نص ابن إسحاق أي ذكر لهذا المجتمع أو لأحد من أعضائه. وهو يعتبر أن النصارى الوحيدين الذين عرفتهم المدينة هم نصارى وفد نجران.

وهذه حقيقة ذات أهمية جوهرية، إذ أن ابن إسحاق إذا كان يجهل وجود نصارى في المدينة، الذي كان شيئاً مسلَّماً به شهد به القرآن الكريم في عبارات لا لبس فيها، والذي كان ولا شك ظاهرة معروفة لدى أهل المدينة وأهل مكة ولدى كثير من العرب، فهل يمكن الاطمئنان إلى ما يقوله عن أمور صغيرة أو أحداث لم يشهد بها كائنٌ من كان؟

اجمالي القراءات 14584